دفاعا عن حبر الأمة إبن عباس !

الخميس 28 ديسمبر 2017 - 13:38 بتوقيت غرينتش
دفاعا عن حبر الأمة إبن عباس !

إن ابن عباس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب، وعنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة، ولا سيما في مثل تلكم الأساطير السخيفة التي كانت كل ما يملكه اليهود من بضاعة مزجاة كاسدة.

آية الله الشيخ محمد هادي معرفة

في الحقيقة، نحن هنا نريد الإجابة عن هذا السؤال و هو : هل كان ابن عباس يراجع أهل الكتاب في فهم معاني القرآن؟*
لقد أجيب عن هذا السؤال بصورتين(تحتاجان الى نقد و تمحيص): إحداهما مبالغ فيها، والأخرى معتدلة إلى حد ما، كانت مراجعته لأهل الكتاب ـ كمراجعة سائر الأصحاب ـ في دائرة ضيقة النطاق، في أمور لم يتعرض لها القرآن، ولا جاءت في بيان النبي (ص)، حيث لم تعد حاجة ملحة إلى معرفتها، ولا فائدة كبيرة في العلم بها كعدد أصحاب الكهف، والبعض الذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، وما كان خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، ونحو ذلك مما لا طريق إلى معرفة الصحيح منه. فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب، والتحدث عنهم ولا حرج، كما ورد "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، المحمول على مثل هذه الأمور.
قال ابن تيمية: وفي بعض الأحيان ينقل عنهم (عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس وكثير من التابعين) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله (ص)، حيث قال: "بلغا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان عبدالله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (أي ملفتين) من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك. ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها من الأمور المسكوت عنها، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مما بأيدينا، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، وقد أبهمه الله في القرآن، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم.
ووافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي، قال: "كان ابن عباس يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل، في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصلت في كتب العهدين. ولكن في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له. أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن ولا يتفق مع الشريعة، فكان لا يقبله ولا يأخذ به".
قال: "فإبن عباس وغيره من الصحابة، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمس العقيدة أو يتصل بأصول الدين وفروعه، كبعض القصص والأخبار الماضية."
قال: "وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله (ص):"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وقوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار، لما فيها من العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: "فإن فيهم أعاجيب". والثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قبلهم كان المخبر به من قبلهم محتملا، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه. قال: كما أفاده ابن حجر، ونبه عليه الشافعي.
وأما المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة، بالغوا فيها إلى حد ترفضه شريعة النقد والتمحيص. يقول العلامة المستشرق إجنتس جولد تسهير:
"وترى الرواية الإسلامية أن ابن عباس تلقى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها. وقد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أن ابن عباس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغ من السن (10 ـ 13) سنة."
"وأجدر من ذلك بالتصديق، الأخبار التي تفيد أن ابن عباس كان لا يرى غضاضة أن يرجع، في الأحوال التي يخامره فيها الشك، إلى من يرجو عنده علمها. وكثيرا ما ذكر أنه كان يرجع ـ كتابة ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يدعى (أبا الجلد) والظاهر أنه (غيلان بن فروة الأزدي) الذي كان يثنى عليه بأنه قرأ الكتب."
"وكثيرا ما نجد بين مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس، اليهوديين اللذين اعتنقا الإسلام: كعب الأحبار، وعبدالله بن سلام، كما نجد أهل الكتاب على وجه العموم، أي رجالا من طوائف ورد التحذير من أخبارها ـ عدا ذلك ـ في أقوال تنسب إلى ابن عباس نفسه. ومن الحق أن اعتناقهم للإسلام قد سما بهم على مظنة الكذب، ورفعهم إلى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتيابا."
"ولم يعد ابن عباس أولئك الكتابيين الذين دخلوا في الإسلام، حججا فقط في الإسرائيليات وأخبار الكتب السابقة، التي ذكر كثيرا عنها الفوائد، بل كان يسأل أيضا كعب الأحبار مثلا عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين: (أم الكتاب) و (المرجان."
"كان يفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود، فهم أدق للمدارك الدينية العامة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول، وكان يرجع إلى أخبارهم في مثل هذه المسائل، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم".
هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلوه المفرط بشأن مسلمة اليهود، ودورهم في التلاعب بمقدرات المسلمين، الأمر الذي لا يكاد يصدق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء، إنما كان ذلك في عهد طغى سطو أمية على البلاد وقد أكثروا فيها الفساد.
وقد تابعه على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين، قال: ولم يتحرج كبار الصحابة مثل ابن عباس من أخذ قولهم. روي أن النبي (ص) قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم! وإن شئت مثلا لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير قوله تعالى: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة."
وعقبه بقوله: وقد رأيت ابن عباس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه، إشارة إلى ما سبق من قوله: وأما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن، وأكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، أسلم في خلافة أبي بكر أو عمر ـ على خلاف في ذلك ـ وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام. وقد أخذ عنه إثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس ـ وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة.
نقد وتمحيص:
وإنا لنأسف كثيرا أن يغتر كتابنا النقاد ـ أمثال الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الذهبي ـ بتخرصات لفقها أوهام مستوردة، فلنترك المستشرقين في ريبهم يترددون، ولكن ما لنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم ونواكبهم في مسيرة الوهم والخيال؟!
لا شك أن نبهاء الصحابة أمثال ابن عباس كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب ويستقذرون ما لديهم من أساطير وقصص وأوهام، وإنما تسربت الإسرائيليات إلى حوزة الإسلام، بعد انقضاء عهد الصحابة، وعندما سيطر الحكم الأموي على البلاد لغرض العيث في الأرض وشمول الفساد، الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود وم تبعهم من سفلة الأوغاد.
إن مبدأ نشر الإسرائيليات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص، حاشا الصحابة وحاشا ابن عباس بالذات أن يراجع ذوي الأحقاد من اليهود، ويترك الخلص من علماء الإسلام أمثال الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وكان سفط العلم ولديه علم الأولين والآخرين، علما ورثه من رسول الله (ص) في شمول وعموم.
إن ابن عباس كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة بغية العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم (ص)، وقد سئل: أنى أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول.
وإليك من تصريحات ابن عباس نفسه، يحذر مراجعة أهل الكتاب بالذات، فكيف يا ترى، ينهى عن شيء ثم يرتكبه؟!
التحذير عن مراجعة أهل الكتاب:
أخرج البخاري بإسناده إلى عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس، قال:"يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه (ص) أحدث الأخبار بالله تقرأونه لم يشب (أي لم يخلطه شيء من غير القرآن)، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند اله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم منن العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم."
وأخرج عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله (ص): "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم."
وأخرج عبدالرزاق من طريق حريث بن ظهير، قال: قال عبدالله بن عباس: "لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
وهذا الحديث وضح من كلام النبي (ص) في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم، لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، فلا يمكن تصديقهم، لأنه ربما كان تصديقا لباطل، ولا تكذيبهم، لأنه ربما كان تكذيبا لحق، فالمعنى: أن لا يعتبر من كلامهم شيء ولا يترتب على ما يقولونه شيء. فلا حجية لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق، إذن فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجه من الوجوه.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبزاز من حديث جابر، أن عمر أتى النبي (ص) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب النبي (ص)، وقال: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني". وفي رواية أخرى: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ".
تلك مناهي الرسول (ص) الصريحة في المنع عن مراجعة أهل الكتاب إطلاقا، لا في كبير ولا صغير، فهل يا ترى أحدا من صحابته الأخيار خالف أوامره وراجعهم في شيء من مسائل الدين والقرآن؟! كما حسبه الأستاذ أحمد أمين، زعم أن العمل كان على ذلك، وأنهم كانوا يصدقون أهل الكتاب وينقلون عنهم!
وأما الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عباس لليهود، فكله باطل وزور، لم يثبت منه شيء.
أما الذي جاء به الأستاذ مثلا من قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} قال: فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير الآية.
فقد راجعنا تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرها من أمهات كتب التفسير بالنقل المأثور، فلم نجد فيها ذكرا لكعب ولا مساءلته من قبل أحد من الأصحاب، أو غيرهم من التابعين أيضا. ولم ندر من أين أخذ الأستاذ هذا المثال، ومن الذي عرفه ذلك، فأوقعه في هذا الوهم الفاضح.
وأما قوله: كان ابن عباس يجالس كعب الأحبار، وكان أكثر من نشر علمه ... ، فكلام أشد وهما وأكثر جفاء على مثل ابن عباس الصحابي الجليل، إذ لم نجد ولا رواية واحدة تتضمن نقلا لابن عباس عن أحد من اليهود، فضلا عن مثل كعب الأحبار الساقط الشخصية.
نعم، أشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد، زعم فيها مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب، ولعلها كانت مستند الأستاذ أحمد أمين تقليدا من غير تحقيق. ولكنا راجعنا تلك الموارد، فلم نجدها شيئا، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
منها: أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيين: أم الكتاب، والمرجان.
روى الطبري بإسناده إلى عبدالله بن ميسرة الحراني: أن شيخا بمكة من أهل الشام سمع كعب الأحبار يسأل عن المرجان (الرحمان/ 22) فقال: هو البسذ.
لكن من أين علم جولد تسيهر أن الذي سأل كعبا هو شيخ مكة وزعيمها ابن عباس؟!
وكذا روي عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن شيبان، أن ابن عباس سأل كعبا عن أم الكتاب (الرعد/ 39) فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملن، فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا.
غير أن شيبان هذا ـ هو ابن عبدالرحمان التميمي مولاهم، النحوي أبو معاوية البصري المؤدب، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد ـ مات في خلافة المهد سنة (164) وكان من الطبقة السابعة، وعليه فلم يدرك ابن عباس المتوفى سنة (68) ولا كعب الأحبار الذي هلك في خلافة عثمان سنة (32). فالرواية مرسلة لم يعرف الواسطة، فكانت ساقطة عن الاعتبار.
وأيضا روي عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه، أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}و (يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) فقال: هل يؤودك طرفك؟ هل يؤودك نفسك؟ قال: لا، قال: فإنهم ألهموا التسبيح، كما ألهمتم الطرف والنفس.
وعبدالله هذا هو ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ولد على عهد رسول الله (ص) بالمدينة وأصبح من فقهائها، وتحول إلى البصرة ورضيته العامة، واصطلحوا عليه حين هلك يزيد بن معاوية. توفي سنة (84) بالأبواء ودفن بها، وكان خرج إليها هاربا من الحجاج.
غير أن الطبري روى بإسناده إلى حسان بن مخارق عن عبدالله بن الحرث، أنه هو الذي سأل كعبا عن ذلك، قال: قلت لكعب الأحبار: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون ... ) أما يشغلهم رسالة أو عمل؟ قال: يا ابن أخي، إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تتنفس؟ قلت: بلى! قال: فكذلك جعل لهم التسبيح.
قلت: يا ترى، هل كان هو الذي سأل كعبا أو أنه سمع ابن عباس يسأل كعبا؟ في حين أنه لا يقول: سمعت ابن عباس يسأله، بل مجرد أن ابن عباس سأله، الأمر الذي لا يوثق بكون الرواية منتهيه إلى سماع، والظاهر أنه إرسال.
على أنه من المحتمل القريب أن السائل هو بالذات، لكن ابنه إسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى أبيه، فذكر الحديث عن أبيه مع إقحام واسطة إرسالا من غير إسناد. ويؤيد ذلك أنه لم تأت رواية غير هذه تنسب إلى ابن عباس أنه سال مثل كعب، فالأرجح في النظر أنه مفتعل عليه لا محالة.
واستند جولد تسيهر ـ في مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ـ أيضا إلى ما رواه الطبري بإسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي جلد "غيلان بن فروة الأزدي، كان قرأ الكتب، وكان يختم القرآن كل سبعة أيام ويختم التوراة كل ثمانية أيام" يسأله عن ((البرق)) في قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) فقال: البرق: الماء.
لكن في طبقات ابن سعد أن أبا الجلد الجوني ـ حي من الأزد ـ اسمه جيلان بن فروة، كان يقرأ الكتب. وزعمت ابنته ميمونة: أن أباها كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة، يقرأها نظرا، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس.
لا شك أنها مغالاة من ابنته. يقول جولد تسيهر: ولا يتضح حقا من هذا الخبر الغامض، الذي زادته مغالاة ابنته عموضا، أي نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته.
لأن التوراة المعهودة اليوم وهي تشتمل على (39) كتابا تكون في حجم كبير، ثم هي قصة حياة إسرائيل طول عشرين قرنا، وفيها تاريخ حياة أنبياء بني إسرائيل وملوكهم ورحلاتهم وحروبهم طول التاريخ، وهي بكتب التاريخ أشبه منها بكتب الوحي. فهل كان يقرأ ذلك كله في ستة أيام؟ وما هي الفائدة في ذلك التكرار؟!
على أن راوي الخبر ـ وهو موسى بن سالم أبو جهضم ـ لم يلق ابن عباس ولا أدركه، لأنه مولى آل العباس، وليس مولى لابن عباس. ففي نسخة الطبري المطبوعة خطأ قطعا. قال ابن حجر: "موسى بن سالم أبو جهضم مولى آل العباس، أرسل عن ابن عباس. وهو من رواة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع.)
وأخيرا، فإن الموارد التي ذكروا مراجعة ابن عباس فيها لأهل الكتاب لا تعدو معاني لغوية بحتة، لا تمس قضايا سالفة عن أمم خلت كما زعموا، ولا سيما السؤال عن ((البرق))، وهو لفظ عربي خالص، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال أجانب عن اللغة. كيف يا ترى يرجع مثل ابن عباس ـ وهو عربي صميم وعارف بمواضع لغته أكثر من غيره ـ إلى اليهود الأجانب؟! وهل يخفى على مثله ما للفظ البرق من مفهوم؟ ثم كيف اقتنع بتفسيره بالماء؟ اللهم إن هذا إلا اختلاق!
الأمر الذي يقضي بالعجب، كيف يحكم هذا العلامة المستشرق حكمه البات، بأن كثيرا ما ذكر أنه كان يرجع ـ كتابة ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يدعى أبا الجلد؟! ويجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعا، إذ كيف يعقل أن يراجع، مثله في مثل هذه المعاني؟!
وأسخف من الجميع تبرير ما نسب إلى ابن عباس من أقاصيص أسطورية جاءت عنه، بأنه من جراء رجوعه إلى أهل الكتاب في هكذا أمور بعيدة عن صميم الدين. قال الأستاذ أمين: وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات. قال ذلك بعد قوله: وكان ابن عباس وأبو هريرة أكبر من نشر علم كعب الأحبار.
وقال الدكتور مصطفى الصاوي: وكثيرا ما ترد عن ابن عباس روايات في بدء الخليقة وقصص القرآن، مما لا يمكن أن يكون قد رجع فيها إلا إلى أهل الكتاب، حيث يرد هذا القصص مفصلا، مثال هذا تفسيره للآية: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال: لكنه حين يرجع إليهم مستفسرا، فإنما يرجع رجع العالم الذي يعير سمعه لما يقال، ثم يعمل فكره وعقله فيما يسمع، ثم ينخله مبعدا عنه الزيف.
قلت: إن كانت فيما روي عنه في ذلك وأمثاله غرابة أو غضاضة، فإن العتب إنما يرجع إلى الذي نسبه إلى ابن عباس، ترويجا لأكذوبته، ولا لوم على ابن عباس في كثرة الوضع عليه. نعم ولعل هذه الكثرة في الوضع عليه آية على تقدير له وإكبار من الوضاع، لكنه في نفس الوقت، رغبة منهم في أن تنفق بضاعتهم، موسومة بمن في اسمه الرواج العلمي. وقد اعترف بذلك الدكتور الصاوي، فلماذا حكم عليه ذلك الحكم القاسي؟!
فالصحيح: إن ابن عباس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب، وعنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة، ولا سيما في مثل تلكم الأساطير السخيفة التي كانت كل ما يملكه اليهود من بضاعة مزجاة كاسدة، بل إن موقف ابن عباس من أهل الكتاب عموما، ومن كعب الأحبار خصوصا، ما يصوره معتزا بدينه كريما على نفسه وثقافته.
يروى أن رجلا أتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الأحبار: أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار فغضب ابن عباس وقال: كذب كعب الأحبار، كذب كعب الأحبار، كذب كعب الأحبار، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام. يقال: لما بلغ ذلك كعبا، اعتذر له بعد وتعلل.
وربما كان كعب يجالس ابن عباس يحاول مراودته العلم فيما زعم، فكان ابن عباس يجابهه بما يحط من قيمته. روي أنه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس، فقال كعب: إني لا أجد في كتاب الله المنزل (يريد التوراة) أن الظلم يخرب الديار، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن، قال الله عزوجل: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا."
هذه حقيقة موقف ابن عباس من اليهود كما ترى، وهو إذ كان يدعو إلى تجنب الرجوع إلى أهل الكتاب، لما يدخل بسبب ذلك من فساد على العقول وتشويه على العامة، فكيف يا ترى أنه اكن يرجع إليهم رغم نهيه وتحذيره! وهل لا طرق سمعه، وهو الحافظ لكلام الله {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، فحاشا لابن عباس أن يراجع أهل الكتاب، وحاشاه حاشاه!!

* المصدر: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب