الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني
لم يكن الشريف الرضي رضي الله عنه ـ بأول من تزاحمت حوله نظريات زائفة، وحامت دون صميم عقيدته أقاويل مختلفة، وآراء متضاربة مما أثار هذا التزاحم الشك والحذر والتساؤل عن عقيدته لادراك الواقع والحقيقة، لان التاريخ كثيرا ما يقسو، والقلم قد ينحرفعن الصراط المستقيم، والبيان يشذ عن مهيع الحق، فيحرف الكلم عن مواضعها الاصيلة، وهذا ما نشاهده بكثرة في معاجم السير والتراجم والتاريخ:
كم حادث جلل ببطن الكتب يدرسها سرد المؤرخ ذكره طوعا لما أوحى الهوى.
فإذا ما تصفحنا التاريخ بدقة ودرسناه دراسة تتبع وتحقيق ، لألفينا على صفحاته من النظريات الشاذة والاراء المتناقضة المتضاربة بالنسبة إلى رجالات الشيعة الامامية بصورة عامة على امتداد التاريخ، إذ لم يسلموا من لدغات هاتيكم الكلمات القارصة، والنسب الفارغة المفتعلة، مع اليقين أنهم متبرئون منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
إن الشريف الرضي واحد من الذين جنى عليهم التاريخ، وحرف القلم عن بيان واقعه، وتعريف حقيقته فشط عن مهيع الحق، وسجل ما هو خلاف الواقع لذلك اندفع المؤلف والكاتب عن الشريف الرضي يضع علائم الاستفهام حول معتقده، ودينه، وعقيدته، وسياسته، وحتى حياته الفردية والاجتماعية لأن الامر التبس عليه من جراء هذا التزاحم والتحريف. فالتاريخ ارتكب الامرين: إخفات الواقع واخفاء الحقيقة، وأخيرا اعياء الاجيال وإتعاب الانسال، مع العلم أن حياة الشريف الرضي لا يكتنفها الغموض، فهي كسائر حياة رجالات الشيعة تتناول ناحيتين إحداها سياسية والاخرى دينية، وأساس الناحيتين واحد وليست الصفة هذه خاصة به بل ان قادة الشيعة وعلماءها كافة في جميع الادوار والقرون كانوا كأئمتهم الهداة عليهم السلام رجال علم ودين وفقه وإجتهاد، ورجال سياسة وقيادة وسيف وحرب معا.
لقد تضاربت النظريات حول الشريف الرضي، كما تزاحمت في شخصية تلميذه شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، ذلك العملاق العلمي الذي استقل بالزعامة الدينية وتقلد شؤون الطائفة الامامية والفتيا إلى أن توفي عام ٤٦٠ هـ، فقد ترجم له تقي الدين السبكي في « طبقات الشافعية » المجلد ٣ ص٥١، وقال: إن أبا جعفر الطوسي كان ينتمي إلى مذهب الشافعي قدم بغداد وتفقه على مذهب الشافعي.
واحتذى حذوه شمس الدين الذهبي في كتابه « مناقب الشافعي وطبقات أصحابه »، والحاجي خليفة في « كشف الظنون » المجلد١ ص٤٥٢، إلى غيره من الاقاويل التي لامقيل لها في ظل الحقيقة، وبعيدة كل البعد عن جادة الصدق والصواب والصحة. وهذه الناحية تخص تراجم رجالات الطائفة الامامية فحسب، ولا طريق لها في تراجم رجال المذاهب الاسلامية الاخرى، وإن شوهدت ففي نطاق ضيق، وداخل اطار محدود.
وهذا إن دل على شيء فانما يدل على جهل اولئك المؤلفين برجال الشيعة وتصانيفهم، ويكشف عن عدم دراستهم لمؤلفاتهم ليقفوا على صفحاتها ما ينبئ عن واقع عقيدتهم، وحقيقة معتقداتهم ولو بصورة سطحية، هذا وربما كان الحسد باعثا على التمويه والخلط:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله
|
|
فالناس أعداء له وخصوم
|
كضرائر الحسناء قلن لوجههـا
|
|
حسدا وبغضا إنـه لدميـم
|
اما بالنسبة إلى أبي الحسن الرضي فهناك أعجب كلمة وأغرب قولة قالها شمس الدين الذهبي فقد جاء في كتابه « سير النبلاء »المجلد ٣ ص٢٨٩ في حوادث سنة ٤٣٦: وفيها توفي شيخ الحنفية العلامة المحدث أبوعبدالله الحسين بن موسى الحسيني الشريف الرضي واضع كتاب« نهج البلاغة ».
إن هذا القول مردود لجهات:
١ ـ إن الحسين بن موسى هو والد الشريف الرضي لا اسم الشريف الرضي، وقد توفي عام ٤٠٠ لا سنة ٤٣٦، ورثاه الشريفان المرتضى والرضي، ورثاه أبو العلاء المعري، ومهيار الديلمي.
٢ ـ جامع نهج البلاغة محمد بن الحسين بن موسى الشريف الرضي لا الحسين بن موسى، وكان من أبطال ورجالات الشيعة الامامية لاشيخ الحنفية كما صرحت بذلك المصادر، ومنهم جلال الدين السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة » فقال: كان الشريف أبوأحمد سيدا عظيما مطاعا وكانت هيبته أشد هيبة، ومنزلته عند بهاء الدولة أرفع المنازل، ولقبه بالطاهر، والاوحد، وذوي المناقب، وكانت فيه كل الخصال الحسنة إلا انه كان رافضيا هو وأولاده على مذهب القوم.
٣ ـ إن نهج البلاغة للشريف الرضي من غير شك وترديد مهما طبل وزمر المعاند المتطفل على موائد الكتابة والتأليف فأبدى ضالة رأيه، وسخف أنظاره، فجاء كالباحث عن حتفه بظلفه، فقال احدهم: إنه كله من كلام جامعه لامن كلام من نسب إليه.
وجاء آخر فزعم أنه من تأليف الشريف المرتضى أخي الشريف الرضي، وإدعى أنه من وضعه أيضا لا من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام. وبعضهم تنازل عن هذه الدعوى إلى ماهو أخف منها، فقال: قد أدخل فيه ما ليس من كلام علي (ع)، وبعضهم كالذهبي شمس الدين في كتابه«الميزان »، تجاوز الحد فادعى ان كلامه ركيك وأنه ليس من نفس القرشيين.
هذا ما في كتب القوم بالنسبة إلى الشريف الرضي ومهما يكن من أمر فالذي ينبغي القول به حقا: إن الشريف الرضي كان فقيها عالما متكلما مجتهدا عملاقا ومن كبار رجالات الشيعة الامامية وانه لم يكن زيديا، ولم ينتسب إلى طائفة أو مذهب غير التشيع، فهو يؤمن برسالة النبي الاعظم (ص) وإمامة وخلافة الائمة الاثني عشر عليهم السلام.
لقد صرح وأبان بمعتقده هذا في طيات نثره ونظمه، ولم يتطرق بصورة باتة إلى ذكر زيد أو عمرو أو إلى إسم واحد من ائمة الزيدية، لذلك كانت على منثوره ومنظومه مسحة من العبق العلوي الامامي... والعطر الجعفري الاثني عشري، وسيبقى خالدا إلى الابد مع الحياة ومادامت الحياة إلى أن يرث الله الارض ومن عليها.
إن الشريف الرضي عبر في شعوره عن ولائه وحبه الخالص لآل البيت عليهم السلام، ودافع عن حقهم المشروع المغتصب وعد أسماءهم الكريمة ومحل قبورهم الشريفة، ومثاويهم المقدسة، وأتى بعين الواقع فما أحلى أسماءهم، وأكرم أنفسهم، وأعظم شأنهم، وأجل خطرهم، وأوفى عهدهم، وأصدق وعدهم، كلامهم نور وأمرهم رشدُ ووصيتهم التقوى، وفعلهم الخير، وعادتهم الاحسان، وسجيتهم الكرم، وشأنهم الحق، والصدق، والرفق، وقولهم حكم وحتم، ورأيهم علم وحلم، إن ذكر الخير كانوا أوله وأهله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه.
قال في مفتتح كتابه «خصائص الائمة»: كنت حفظ الله عليك دينك، وقوى في ولاء العترة يقينك ـ سألتني أن اصنف لك كتابا يشتمل على خصائص أخبار الائمة الاثني عشر صلوات الله عليهم، على ترتب أيامهم، وتدريج طبقاتهم، ذاكرا أوقات مواليدهم، ومدد أعمارهم، وتواريخ وفاتهم، ومواضع قبورهم، وأسامي اماتهم، ومختصرا من فصل زياراتهم، ثم موردا طرفا من جوابات المسائل التي سئلوا عنها، واستخرجت أقاويلهم فيها، ولمعا من أسرار أحاديثهم، وظواهر وبواطن أعلامهم، ونبذا من الاصحاح في النص عليهم ".
ومن نماذج شعره قوله في قصيدة يفتخر بأهل البيت ويذكر قبورهم ويتشوق إليها ومنها:
سقى الله المـدينة مـن محل لبـاب الماء والنـطف العذاب
وجاد على البقيـع وساكـنية رخي الذيـل مـلان الوطاب
وأعـلام الغري وما أستباحت معالمها مـن الحسـب اللباب
وقبر بالطفـوف يضـم شلوا قضـى ظمأ إلى بـرد الشراب
وبغـداد وسامـرا وطـوس هطول الودق منـخرق العباب
قبور تنطـف العـبرات فيها كما نطف الصبيرعلى الروابي
صـلاة الله تخفـق كـل يوم علـى تـلك المـعالم والقباب
إلى أن يقول:
ولي قبران بالزوراء أشفي بقربهمـا نـزاعي واكتئابي
أقود اليهما نفسي واهـدي سلاما لايـحيد عن الجواب
لقاؤهما يطهـر مـن جنـاني ويدرأ عـن ردائي كل عاب
قسيم النارجـدي يـوم يـلقى به باب النجـاة مـن العذاب
وساقي الخلق والمهجات حرى وفاتحة الصراط إلى الحساب
هذا وفي شعره الكثير من هاتيك النماذج الحية نضرب عنها صفحا خشية الاطالة، وحسبنا انها صريحة بأن الشريف الرضي شيعي إمامي في جوانبه العلمية والفكرية والعقائدية والسياسة كافة، وأخيرا كان المثل الاعلى في الفضائل كلها، وأختم حديثي بما قاله علي بن الحسن الباخرزي في كتابه"دمية القصر" قال:
ولعمري إن بغداد قد أنجبت به فبوأته ظلالها، وأرضعته زلالها، وأنشقته شمالها، وورد شعره دجلتها، فشرب منها حتى شرق، وانغمس فيها حتى كاد يقال غرق، فكلما أنشدت محاسنه تنزهت بغداد في نضرة نعيمها، واستنشقت من نفاس الهجير بمراوح نسيمها...
المصدر:Balaghah.net