آية الله الشيخ جعفر السبحاني
الرابع: الذبح والنذر للقبور
قال المؤلّف: إنّهم ينذرون للقبور وأصحابها ويذبحون لها وهذا يدخل في ما أُهل به لغير الله، قال سبحانه:{إنَّما حَرَّم عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله}(151)
خفي على الكاتب ما هو المقصود من النذر لأصحاب القبور، وأنّ اللام في قولهم: هذا للنبي غير اللام في قوله:"نذرت لله."توضيحه: أنّ اللام في هذه المواضع على وجهين:
1.لام الغاية بمعنى التقرّب إليه سبحانه كقوله تعالى على لسان امرأة عمران{إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}.(152)
2. لام الانتفاع كقوله سبحانه:{إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ وَالمَساكِينِ}.(153)
فإذا قال: لله عليّ إن قُضيت حاجتي أن أذبح كبشاً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فاللام في قوله: "لله"، للغاية بمعنى التقرب إليه، ولكنّها في قوله "للنبي" للانتفاع بمعنى عود الثواب إليه، وبذلك يتضح الفرق بين عمل المشركين عن عمل المسلمين، فأُولئك يذبحون وينذرون للأصنام ويُهلّون بها، ويقولون: باسم اللات والعزى. بخلاف المسلمين فإنّهم ينذرون لله ويذكرون اسم الله عند الذبح ويهدون ثوابه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وإن شككت فيما ذكرنا فاسأل سعداً واستمع كلامه حيث إنّه سأل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: يا نبي الله، إنّ أُمّي قد افتلتت(أي ماتت) وأعلم أنّها لو عاشت لتصدقت، فإن تصدقت عنها، أينفعها ذلك؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): "نعم".
ثمَّ إنّه سأل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): أي الصدقة أنفع يا رسول الله؟ قال: "الماء"، فحفر ] سعد[ بئراً وقال: هذه لأُمّ سعد(154).
فاللام في "هذه لأُمّ سعد" للانتفاع، فالمسلمون في قولهم: هذا للنبي أو للولي، كلهم سعديون لا وثنيون.
الخامس: الحلف بأصحاب القبور
قال مؤلف الكتاب: وهم يحلفون بأصحاب القبور دون الله، ثم روى عن الصادق(عليه السلام)عن آبائه عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)أنّ من المناهي أن يحلف الرجل بغير الله، وقال:"من حلف بغير الله، فليس من الله في شيء."(155)
ثم استشهد بكلام الشيخ الطوسي في"النهاية" حيث قال: اليمين المنعقدة عند آل محمد(عليهم السلام)هي: أن يحلف الإنسان بالله تعالى، أو بشيئ من أسمائه أيّ اسم كان. وكل يمين بغير الله أو بغير اسم من أسمائه فلا حكم له."(156)
والجواب: إنّ القرآن الكريم مليئ بالحلف بغير الله، والغاية من الحلف بغيره في الذكر الكريم أحد أمرين:
1. الإشادة بالمحلوف به وبيان فضله ومقامه كقوله سبحانه:{لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون.}(157)
2.دعوة الإنسان إلى التدبّر في المحلوف به واستكشاف أسراره ورموزه وما له من العظمة. ولهذا جاء الحلف بغير الله سبحانه في سورة الشمس سبع مرات، أو أكثر، قال سبحانه:{وَالشَّمْسِ وَضُحاها*وَالْقَمَرِ إذا تَلاَها* وَالنَّهارِ إذا جَلاّها* وَاللَّيْلِ إذا يَغْشَاهَا* وَالسَّماءِ وَمَا بَنَاها* وَالأرْضِ وَمَا طَحَاها*وَنَفْس وَمَا سَوّاها}(158)
وقد تكرر الحلف بغير الله في الذكر الحكيم قرابة 40 مرة، وقد عرفت ما هو الداعي من حلفه سبحانه بها.
فلو كان الحلف بغير الله شركاً منهياً عنه لما جاء في القرآن الكريم، فلو جاز لله سبحانه ولم يجز للآخرين لنبّه عليه في الذكر الحكيم، فالإنسان عندما يرى الأقسام الكثيرة المذكورة في القرآن الكريم ربما ينتقل إلى جواز الحلف أو إلى استحبابه لا إلى حرمته.
وأمّا الروايات الواردة من طرقنا فالغرض منها عدم انعقاد اليمين أوّلاً، وعدم صحة القضاء وفصل الخصومات به ثانياً، وإنّما يقضى في الخصومات بالحلف بالله تعالى، وإلى ذلك تشير الرواية الواردة عن مكارم الأخلاق، وهذا ما توضحه عبارة الشيخ في النهاية حيث قال: اليمين المنعقدة عند آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)هي أن يحلف الإنسان بالله تعالى.
وعلى ذلك فقوله(قدس سره): وكل يمين بغير الله أو بغير اسم من أسمائه فلا حكم له، أي لا يترتب عليه الأثر، وأين هذا من التحريم؟!
قال الإمام الخميني: "لا تنعقد اليمين إلاّ إذا كان المقسم به هو الله جلّ شأنه، ولا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمة(عليهم السلام)وسائر النفوس المقدّسة المعظمة، ولا بالقرآن الكريم ولا بالكعبة المشرفة، وسائر الأمكنة المحترمة."(159)
السادس: الطواف حول القبور
نسب المؤلف إلى الشيعة الطوافَ حول القبور، مع أنّ ذلك فرية بلا مرية، وقد ألف غير واحد من الأجلاّء كتباً ورسائل في أدب الزائر، وأخصّ بالذكر ما كتبه المحقق العلامة الأميني(رحمه الله)ولم يذكر أحد منهم من آداب الزيارة "الطوافَ حول القبر"، مع ورود النهي عنه في غير واحد من الروايات. وغاية ما عند الشيعة هو التسابق إلى تقبيل الضريح دون الطواف بالقبر، أي الابتداء من نقطة والانتهاء عندها، كما هو الحال في الطواف بالبيت الحرام. ولا نطيل الكلام في هذه الفرية.
السابع: اللطم وضرب الخدود والصدور
استدل الكاتب ببعض الروايات على حرمة ضرب الخدود والصدور، وإليك دراستها.
الأُولى: ما روي عن الصادق(عليه السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):"ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره.(160)
أقول: نقل الشيخ الحر العاملي هذه الرواية بسندين فيهما ضعف، ففي أحدهما وقع النوفلي والسكوني وهما ليسا بشيعيين. وفي الثاني وقع سهل ابن زياد الآدمي، وفي الوقت نفسه ينقل هو عن علي بن حسّان وهو مشترك بين الضعيف والثقة.
نفترض صحة الرواية سنداً وكمالها دلالة لكن الرواية مختصة بالمصيبة الشخصية كموت الأب والأُمّ والولد، فربما يكره ما ذكر من الأُمور بقرينة كونه سبباً لذهاب الأجر، ونحن أيضاً نقول بذلك ونوصي أصحاب المصائب بالصبر، فالله سبحانه هو مجزي الصابرين.
ولكن كلام الكاتب ناظر إلى مواكب العزاء يوم عاشوراء التي تخرج باللطم على الصدور فقط، لا على الخدود ـ كما قال ـ والرواية منصرفة عن مثل هذه المصائب الدينية، إذ أنّ العامل بها إنّما يريد إحياء منهج الثورة بوجه الطغاة والظالمين. وكأنّه بعمله هذا يريد أن يلفت نظر العامة في الشوارع والبيوت المشرفة على هذه المواكب على عظمة المصائب التي أوردها الطغاة على آل البيت(عليهم السلام.)
وإن شئت قلت:إنّ هذه المظاهرات مع ما فيها من اللطم نابعة عن حب وإخلاص لأبي الشهداء(عليه السلام)الذي كرس حياته وأراق دمه الطاهر لمواجهة الظلمة الذين جعلوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً... .
إنّ هذه الجماهير المليونية وهي تردد الأشعار والقصائد التي تحمل معان ثورية وعقائدية سامية، تنبه جماهير المسلمين عن نومة الغفلة ورغد العيش، حتى ينهضوا منها ويأخذوا حقوقهم بإزالة الظلمة عن عروشهم ويؤسّسوا للمسلمين حكومة إلهية على وفق الكتاب والسنّة. وبكلمة قصيرة أنّ هذه المسيرات تتبنى الأُمور التالية:
1. الدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
2. إلفات النسل الحاضر إلى ما جرى على أئمة أهل البيت(عليهم السلام)من الظلم والجور.
3.تحذير الظالمين وحكام الجور، لغرض عودتهم إلى حظيرة الإسلام.
الثانية: عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: قلت له: ما الجزع؟ قال: "أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه،
ومن صبر واسترجع وحمد الله عزوجل فقد رضي بما صنع الله ووقع أجره على الله، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط الله أجره.(161)
يلاحظ على الاستدلال: أوّلاً: أنّ الحديث ضعيف سنداً، وقد وصفه بالضعف العلاّمة المجلسي في "مرآة العقول."(162)
وثانياً: أنّ مصب هذه الروايات هو المصائب الشخصية الفردية التي ربما ينفد صبر الإنسان فيها ولا يتمالك نفسه فيأتي ببعض هذه الأُمور، وقد منع عنه في الحديث ونحن نقول به.
وأمّا المصائب الدينية التي تطرأ على المجتمع فلا صلة لمثل هذه الأحاديث بها، فإنّ الجزع والفزع عندئذ ليس لأجل أنّه فقد ما يملكه شخصياً وانّما هو لأجل مصائب وردت على الإسلام والمسلمين وأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وهذا ما دعاه إلى الهيجان وإظهار الحزن والخروج بمسيرات إلى الشوارع والاجتماع في المساجد والمآتم والحسينيات لإقامة مراسم العزاء والنياحة، وقد مرّ أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لمّا رأى نساء الأنصار يبكون على موتاهم قال: لكنّ حمزة لا بواكي له فأمر الأنصار نساءهم بالبكاء على حمزة أوّلاً ثم البكاء على شهدائهنّ.
وثالثاً: أنّ مورد الرواية النياحة بالباطل التي تغضب الرب، وأمّا النياحة بالحق التي فيها أداء الشكر وإظهار العبر والتسلية لخاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تشمله الرواية.
واعلم أنّ النياحة بالحق في فقدان الأعزة خصوصاً عندما تتراكم الهموم والغموم أمر فطري وربما يخاف على سلامة الإنسان عند حبس هذه الهموم وعدم النياحة، ولذلك نرى الإمام الصادق(عليه السلام)قد عمل بذلك.
روى الصدوق في "إكمال الدين"عن الحسين بن يزيد، قال: ماتت ابنة لأبي عبد الله(عليه السلام)فناح عليها سنة، ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة، ثم مات إسماعيل فجزع عليه جزعاً شديداً فقطع النوح، قال: فقيل لأبي عبد الله(عليه السلام(: أيناح في دارك؟ فقال: "إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال ـ لما مات حمزة ـ : لكن حمزة لا بواكي له."(163)
وروي :"هملت عين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بالدموع، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):"تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون."(164)
وروي عنه(عليه السلام) أنّه قال: "إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدّثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً."(165)
وروي عنه(عليه السلام) أيضاً:"أنّ زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كلْ يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)جائعاً، قتل ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه بدموعه، ويمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجل."(166)
وروى الصدوق في "ثواب الأعمال" وابن قولويه في "كامل الزيارات"بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق(عليه السلام)فقال: "يا أبا هارون، أنشدني في الحسين"، فأنشدته!
فقال: "لا، بل كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره".
قال: فأنشدته حينئذ:
أمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكية
يا أعظماً لا زلت من *** وطفاء ساكبة روية
وإذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطية
وابك المطهر للمطهر *** والمطهرة التقية
كبكاء معولة أتت *** يوماً لواحدها المنية
قال: فبكى، ثم قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأُخرى:
يا مريم قومي واندبي مولاك *** وعلى الحسين اسعدي ببكاك
قال فبكى الصادق، وتهايج النساء من خلف السترة، فلما أن سكتن قال: "يا أبا هارون، من أنشد في الحسين فبكى أو أبكى عشرة كتبت له الجنة.(167)
الثالثة: ما رواه عن أبي عبد الله(عليه السلام)أنّه قال: "ثلاثة لا أدري أيّهم أعظم جرماً: الذي يمشي خلف جنازة في مصيبة بغير رداء، والذي يضرب على فخذه عند المصيبة، والذي يقول: ارفقوا وترحّموا عليه يرحمكم الله."(168)
أقول: أوّلاً: الرواية ضعيفة وقد نقلت بسندين ففي الأوّل منهما النوفلي والسكوني، وفي الثاني أُناس لم يوثقوا كأحمد بن يحيى القطّان، وبكر بن عبد الله بن حبيب، وتميم بن بهلول.
وثانياً: أنّ مضمون الرواية لا يوافق الأُصول المسلّمة بين الفقهاء والعلماء. نفترض أنّ رجلاً شيّع ميتاً بلا رداء، فهل ارتكب محرّماً من المحرمات، حتى يوصف باحتمال أنّه أعظم الجرائم.
وثالثاً: قول المشيّع: ارفقوا وترحّموا عليه يرحمكم الله. فهذا القول يدعو المشيعين إلى الترحّم على الميت فهل يكون محتمل الحرمة فضلاً عن أن يكون من الجرائم الكبيرة؟!
نعم بقي الضرب على الفخذ عند المصيبة فقد مرّ أنّ موضعه هو المصائب الفردية التي ربما تجر الإنسان إلى أقوال وأعمال غير صحيحة، وأمّا المصائب الدينية فقد عرفت أنّ هذه الأفعال رمز لتنبيه الأُمّة ونشر خبر مصائب أهل البيت(عليهم السلام).
ورابعاً: أنّ المستفاد من بعض الروايات الصحيحة أنّ الجزع لا يذهب الأجر، قال الإمام الصادق(عليه السلام): "ثواب المؤمن من ولده إذا مات، الجنة، صبر أم لم يصبر."(169)
الثامن: اختلاط النساء بالرجال
يقول الكاتب: يحدث عند هذه القبور الاختلاط فترى النساء والرجال مختلطين عند الطواف بالقبر.
أقول: الاختلاط عند الطواف بالبيت الحرام أوضح وأظهر، فهل يدعو ذلك إلى تحريم الطواف؟! أو يجب أن تتخذ أساليب لكي لا يحصل الاختلاط.
ومن حسن الحظ أنّ مكان زيارة الرجال متميّز عن مكان زيارة النساء بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران حيث قسّمت المشاهد المشرفة إلى قسمين بينهما حاجز، وكذا الحال في مشاهد الأئمة(عليهم السلام)في العراق بعد سقوط النظام الصدامي البائد.
إلى هنا تمّت مناقشة ما ذكره في الفصل الخاص باسم "محرمات ترتكب عند القبور."
***
ردود على أجوبة المؤلف
ثمّ إنّ الكاتب فتح فصلاً جديداً بعنوان "اعتراضات وأجوبة"، حاول أن يذكر أدلّة القائلين بجواز البناء ويرد عليها، إلاّ أنّه وللأسف لم يذكر الأدلة على وجهها الصحيح، قال:
الدليل الأوّل: أنّ رفع قبور الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) مستثنى من روايات النهي المتقدمة... ثم أجاب عن ذلك بقوله: إنّ الأئمّة أنفسهم أمروا ووصّوا بعدم رفع قبورهم أكثر من شبر أو أربع أصابع.
يلاحظ على ما ذكره أوّلاً: أنّه لم يذكر الدليل على وجهه فإنّهم(عليهم السلام)قالوا بأنّ البناء على القبور مستثنى من روايات النهي ،ولم يذكروا أنّ رفع القبور مستثنى من روايات النهي. وكم فرق بين استثناء رفع القبر واستثناء البناء.
وثانياً: قد عرفت أنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ذكروا رفع القبر بشبر ولم يرد عنهم نهي عن الرفع بأكثر منه، إلاّ في رواية الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، وقد عرفت وجهه.
الدليل الثاني: أنّ رفع قبور الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)والبناء عليها فيه مصلحة عظيمة وهي إبقاء قبورهم مدى الزمان وعدم اندراسها ومحوها....
ثمّ أجاب عنه: بأنّه لا يستلزم من عدم البناء على قبورهم أنّها سوف تدرس وتمحى آثارها فهذه هي قبور الأئمّة الحسن وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وفاطمة(عليهم السلام)لم ترفع فوق المقدار الشرعي وهي مع ذلك لم تدرس ولم تمح آثارها.
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ بقاء قبور أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)رهن وجود البناء عليها عبر القرون السابقة، فلو لم يكن عليها بناء طيلة هذه السنوات لم يبق منها أثر إلى الآن.
وثانياً: أنّ بقاء هذه القبور بهذا الشكل المؤلم للقلب رهن ضغط شيعة آل البيت ودوام تفقدهم لها، والذي صار سبباً لبقائها بهذا الشكل المزري.
والشاهد على ذلك أنّه قد دمرت قبور عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلذلك لم يبق أثر منها إلاّ قبر الخليفة الثالث وعدد قليل منهم.
الدليل الثالث: اتفاق الناس على البناء من غير إنكار يدل على ذلك.
وأجاب عنه بقوله: إنّ قوله: "من غير إنكار" يرد عليه كلام الأئمة(عليهم السلام)أنفسهم كما هو مبيّن في روايات النهي عن البناء على القبور المذكورة.
يلاحظ عليه: أنّ أساس الاستدلال هو إجماع المسلمين عبر القرون ـ بل عامة الموحّدين ـ من البناء على قبور الأنبياء والأولياء من دون أن يخدش فيه أحد، إلى أن أولد الدهر رجل الضلال والنصب أحمد بن تيمية فأفتى بتحريم البناء وتبعه محمد بن عبد الوهاب من غير وعي.
وهذا الاتفاق دليل قاطع لا يقبل الرد ولا النقض، وعندئذ لا يعارضه ما نسب إلى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)من النهي عن البناء على القبور، لأنّه أخبار آحاد لا يعادل الدليل القاطع.
أضف إلى ذلك: أنّك قد عرفت أنّ هذه الروايات على فرض صحتها لا تدلّ على ما يرتئيه الكاتب كما مرّ .
الدليل الرابع: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) قالوا بحرمة البناء على القبور تقية.
ثم أجاب عليه بأنّ هذا الاعتراض مستبعد جداً، لأنّ العلماء لم يحملوا هذه الروايات على التقية.
يلاحظ عليه: انظر إلى التناقض في كلامه حيث يقول: حُملت الروايات الناهية عن البناء على القبور على التقية، ثم يرد عليه بأنّ العلماء لم يحملوها عليها، فإذا كان هذا هو حال العلماء، فمَن حملها على التقية، لأنّ الحمل وعدمه من شأن العلماء لا غير.
الدليل الخامس: هناك روايات تدلّ على جواز البناء على القبور، وهي كثيرة.
ثمّ أجاب عنه: بأنّ روايات النهي هي كثيرة أيضاً.
يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ البناء على القبور يؤيده الذكر الحكيم والسنة الشريفة والسيرة المستمرة بين الموحّدين وعمل الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم، وهذا هو المرجّح للأخذ بالروايات الدالة التي تجاوز عددها على العشر، وأمّا الروايات الناهية فقد عرفت ضعف أسانيدها أو عدم مساسها للمقام ومخالفتها للسيرة المستمرة والقرآن الكريم.
ثمّ إنّ الكاتب أيّد الأخذ بروايات النهي ورجّحها على روايات الجواز بالقاعدة المعروفة وهي: أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
يلاحظ عليه: بأنّ الكاتب لم يعرف مكان القاعدة، فإنّ مكانها ما إذا لم يكن في المسألة دليل قاطع فيتوسل بأمثال هذه القواعد في مقام الإفتاء، وأمّا إذا كان هناك نص قرآني وسيرة قطعية بين الموحّدين والمسلمين وروايات بلغ عددها إلى عشر أو أزيد، لم يبق مورد للقاعدة، كما أنّه لا يبقى مورد للأخذ بالروايات الناهية.
إلى هنا خرجنا عمّا كتبه المؤلف في كتيبه وقد مررنا على كلامه من بدايته إلى ختامه، وعرفت وهن كلامه وضعف أدلته، فهو كحاطب ليل، قد جمع في حزمته كل رطب ويابس .
الهوامش:
151. البقرة: 173.
152.آل عمران: 35.
153.التوبة: 60.
154.سنن أبي داود:2/130، برقم 1681; السيرة الحلبية:6/ 583.
155.مكارم الأخلاق: 415.
156.النهاية: 555.
157.الحجر: 72.
158.الشمس:1ـ 7.
159. تحرير الوسيلة: 2/99، المسألة 2و 5.
160.وسائل الشيعة: ج 2، الباب81 من أبواب الدفن، الحديث 2.
161.وسائل الشيعة: ج 2، الباب83 من أبواب الدفن، الحديث 1.
162. مرآة العقول:4/ 181.
163. وسائل الشيعة: ج 2، الباب70 من أبواب الدفن، الحديث 2.
164. وسائل الشيعة: ج 2، الباب87 من أبواب الدفن، الحديث 3.
165. وسائل الشيعة: ج 2، الباب87 من أبواب الدفن، الحديث 6.
166.وسائل الشيعة: ج 2، الباب87 من أبواب الدفن، الحديث 10.
167. كامل الزيارات:211; طبعة قم، 1417هـ ; ثواب الأعمال:109، طبع عام 1391هـ .
168.وسائل الشيعة: ج 2، الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحديث 3.
169.وسائل الشيعة: ج 2، الباب72 من أبواب الدفن، الحديث 7..
المصدر: موقع مؤسسة الامام الصادق(ع)