ملاك عبد الله
قد يبدو للقارئ بدءاً من العنوان أنَّ كاتب هذه السّطور متحاملٌ على النّظام التعليمي ربّما لأسباب نفسية غير موضوعيّة، على اعتبار أنَّ الوظيفة الأساسيّة للمدرسة تكمن في تنمية العقل الإنساني، وبشكلٍ تدريجيّ، من خلال تقديم المعارف والعلوم اللازمة، الّتي تتيح له بناء منظومة معرفيّة تخوّله فهم العالم من حوله من جهة، كما وتؤهّله في ما بعد للتّخصص في المجال المحدّد، الّذي يجد نفسه قادراً على سبر أغواره وفقاً لميوله وقدراته الذّهنيّة من جهةٍ أخرى، وبالتّالي محاولة اكتشاف المزيد في هذا المجال الّذي اختاره. إنَّ وظيفةً كهذه لا بدّ وأنّها تعدّ من أسمى الوظائف، كون أنَّ التنمية الذّهنيّة والعقليّة هي المدماك الأساسيّ للتَّنمية الإجتماعيّة، ولبناء الإنسان والحضارة على حدٍّ سواء، فكيف بالإمكان أن يكون مؤدي هذه الوظيفة قابراً للفكر؟!
إنَّ الحديث عن الغايات لطالما بقي في الإطار النّظري قياساً بالواقع العملي الّذي تتداخل فيه المعطيات لتعبث شيئاً فشيئاً بالأهداف، وتحرّفها عن مواضعها الأصليّة، ثمّ تأتي ولو عن غير دراية أو قصد بغايات أخرى، قد تكون بحدّ ذاتها نقيضاً لتلك التي بنيت على أساسها. وعليه، فإنَّ الحديث عن الدور السلبي للمدرسة فيما يتعلّق بـ"وأد" العملية الفكريّة هو غير ذي صلة بالمدرسة على ما يجب أن تكون عليه، أو ما بنيت لتكون عليه ولتحققه من غايات، وإنّما له علاقة بالأدوات والوسائل والأنماط القائمة واقعياً، والتي برأيي الشخصي ما عادت ضليعةً في تنمية القدرات الفكرية لدى الطّالب بقدر ما اضطلعت في تنمية القدرات الأدائية التنفيذية، وربما "التركيزيّة" إن صح هذا التعبير، أي بمعنى أنّها تجعل ذهنه محدّدا مركّزا ومدقّقاً في موضوع من الموضوعات من أجل اكتسابه.
وقبل الولوج في صوغ الحجج التّي أسست لهذا الرّأي، قد يكون من الضروريّ قِبلاً توضيح القصد من العمليّة الفكريّة، حتّى أمكن المقارنة بينها وبين ما اصطلحتُ على تسميته "العملية التنفيذية" الّتي تؤديها المدرسة اليوم، والّتي سأوضّح مقصدي بها تباعاً.
تعدّ العمليّة الفكريّة مرادفاً أوّليّاً لطرح الأسئلة من جهة، ثمّ الشّروع في البحث عن اجوبة من جهة أخرى. إنَّ المادّة الأوليّة الّتي تقوم عليها أي عمليّة فكريّة تتمثّل بالسّؤال الّذي يدور في الفلك الذّهني، المتصاحب مع الشّعور بالإندفاع النّفسي الكلّي لمعرفة الإجابة، من أجل تحقيق غاية الإدراك والفهم، وهذا الإندفاع هو الّذي يؤدّي إلى تحقيق المادّة الثانيّة من تلك العمليّة، والّتي تتمثّل بـ"البحث" عن الإجابة، بحيث تشكّل العمليّة البحثيّة جزءاً لا يتجزّأ من العمليّة الفكريّة المحفّزة لتطوير الوعي الذّهني.
يعمل المنهاج المدرسيّ وفق برنامج محدّد، قائمٍ على أهداف، كفايات ومعلومات،لا بدّ للطّالب في نهاية السّنة الدّراسيّة أن يكون قد تحصّل عليها. وقد كان منذ سنين خلت قائماً بشكلٍ أساسيّ على التّلقين، وهو ما كان يعرف بالمنهاج القديم، بحيث يقوم المدرّس بالتحدّث والنّطق وتكرار ما يختزنه من معلومات يريد للطالب أن يحفظها أو يدركها على شكل إجابات حاسمة، وكانت مهمّة الطّالب مقتصرة على الحفظ والتطبيق وفقاً لما تعلّمه وتلقّاه كمادة علمية مفروغ من صحّتها. حاول المنهاج الجديد تعديل الوسائل والأنماط، فاعتمد على العمل الجماعي كأداة محرّكة للتفاعل مع المادّة حتى تدخل إلى وعيه وتترسخ في ذهنه بشكلٍ أفضل، ثمّ سعى إلى تفعيل دور الأنشطة التفاعلية، والأنشطة الذاتية التي يقوم بها الطّالب، كأن يطلب منه مثلاً إجراء بحثٍ عن معلومة معيّنة قبل أن يقوم المدرّس بشرحها.. أو كأن يقسّم الدرس إلى فقرات، تهتمّ كلّ مجموعة بفقرة ما وتدرسها وتشرحها، وبالتالي يبتعد الطالب عن التلقيّ ويتجه إلى عملية التفكيك والتحليل والتفكير ومن ثمّ الشّرح. بهذا المعنى، يتحدّث المعنيّون بتطبيق المنهاج الحديث بأنّ هذا الأخير من شأنه أن يحفّز الطّالب على التفكير أكثر منه على التلقي، وعلى التفاعل أكثر منه على الإكتساب. رؤيةٌ كهذه قد تبدو في موضعها نسبياً بالمقارنة مع المنهج السابق، إلّا أنّ الإختلاف ما بين المنهجين يبقى أقرب للشكلي منه للبنيوي. هو اختلاف في الأداء العام لبلوغ الأهداف المقررة، دون أن يطال عمق الوعي لدى الطالب، فيفتح آفاقه على العملية الفكرية الآنف الحديث عنها، لأنّ في كلا الحالتين يتمّ إعداد طالبٍ يعرف كيف يجيب عن الإجابة الصّحيحة داخل إطار الحدود المخصصة بالمادة المعطاة، ولا يتمّ إعداده بالشّكل الجيّد لمعرفة طرح الأسئلة اللاّزمة والبحث عن الإجابات، وإن طرحت، فهي لا بدّ وأن تبقى محدودة الأفق، ولا تخرج عن هذا الأفق إلّا إن برز تلميذٌ لديه من الفطنة والوعي المدى الكافي، الّذي يخوّله عدم الإكتفاء بمحتوى المادة التعليمية، والإنتقال إلى عالم أوسع، قد يتيح له معارضة حتى مضمون المادة بعد الإطلاع والتفكير، فيما مفهوم معارضة الأجوبة المنصوصة في المقررات المدرسية يبقى مرادفاً للكسل في الذهنية العامة، كون أن نجاح التلميذ مرتبط بمدى قدرته على كتابة الإجابة الواردة في المقرر، لا في مدى الإحاطة بالمعارف ومراكمتها مع السنين.. ولهذا، فإننا نجد أنَّ الأهل حتى يعملون جاهداً على تحفيز اولادهم على الدرس والحفظ والتطبيق لنيل العلامة العالية التي يتباهون بأن ابنهم حققها أمام المجتمع، فالمهم ليست المعلومة بقدر ما هي العلامة. إنَّ التعليم المدرسيّ بهذا الشّكل يحدّد الذهن البشري أكثر مما يوسّعه، ويبني فرداً قادراً ربما على التّخصّص في مجال ما، ولكن غير قادر على بناء شخصٍ مثقفٍ راغبٍ بالمعرفة طارحاً للأسئلة، ساعياً إلى فهم الكون والبشر ولعلائق التطور، رابطاً بين العلوم بأكملها ومستخدماً لها في عملية الفهم هذه.
إنّنا نادراً ما نجد أستاذاً يربط مضمون المادّة بواقع الحياة، حتى يتسنى للتلميذ التفكير بأبعد من مواد الكتاب إلى التفكير بشؤون الحياة وكيفية تطورها بشكل عام. ولتوضيح المقصد، تضرب المواد الأدبية على سبيل المثال. فعندما تقدّم مادّة الأدب الفرنسي مثلاً، ويتم تقديم قصائد فولتير من أجل تحليلها، فإنّ الحديث عن الزمن الّذي ولد فيه فولتير ودفعه لكتابة القصائد يجري المرور عليه مرور الكرام، وكذلك في الأدب العربي والشعر العباسي والجاهلي وغير ذلك، بحيث يبقى التلميذ مركزا على كيفية تحليل النصّ، دون تركيزه أو اهتمامه بتاريخ النَّص والأحداث المرافقة لبروزه، علماً أنّ الأحداث هي التي تخوّله فهم النّصّ بشكل أفضل، حتى يعرف مدى العلاقة ما بين النص والواقع. وهكذا، فإنَّ مادّة التاريخ يعتبرها بعض التلامذة غير الناجحين في المواد العلمية بأنها مادّة تساعدهم على النجاح، ولذلك يحفظونها عن ظهر قلب، ويأخذون أعلى العلامات، ولكنهم ينسون ما حفظوه في اليوم التالي، لأن حاجتهم لها تبقى مرتبطةً بالحاجة للنجاح ونيل العلامة، لا بالحاجة لفهم تطور الشعوب والعلاقات بين الدول.. حتى أنّ مادّة الفلسفة التّي من المفترض أن تكون الأكثر محفزة على التفكير، لا تعدو أن تكون كغيرها من المواد سبيلاً لرفع العلامة في المعدّل، فيحفظ الطالب فكر هذا الفيلسوف وذاك، من غير الشعور بالحاجة لأن يفكر حتى بما فكّر به، ودون أن يدري الأسباب التي دفعته للتفكير، وإن أدركها في عقله فإنه لا يدخلها في إطار منهج أو سياق تَطوَّر معه الفكر البشري وبدأ يطرح أسئلةً كهذه.
إنَّ التركيز على النجاح لا على المعرفة لأكبر مقتلٍ للفكر، ولهو جريمة مرتكبة بحقّ العقل، وإنَّ دور المعلّمين كما الأهل لا بدّ وأن يكون منوطاً أولا وأخيراً بأن يدخلوا إلى وعي الطالب و حاجته إلى العلوم التي تقدم في المدرسة لكونها تساعد على إيجاد أجوبة عن أسئلة يفترض من الأساس أنها تواجهه في الحياة ويتفكر بها، وبالتالي فإنّ مقراراتها ليست وحياً منزلاً يجرى فيه امتحان لدخول جنة النجاح أو نار الرسوب، بقدر ما هي باب من أبواب المعرفة الكثيرة، تماماً كما يمثل التلفاز باباً مثلاً والإنترنت وغير ذلك. إنّ المعرفة أشمل وأوسع بكثير من مقررات المدرسة، وإن تلك الأخيرة تكمن في أنها تضع منهجاً وسياقاً للمعارف تساعد الطالب على التدرج في الإكتساب وعدم التخبط والضياع.. أما أن تصبح ميداناً ليتبارز فيه المدراء على نسب الطلاب الّذين نالوا مراتب عالية، أو تدني مستوى الرسوب، ومسرحاً ليتحدّث فيه الأهل عن علامات أبنائهم، وعبئاً على الطالب الذّي لا يذهب إلا لينجح ويرى زملاءه- إلا ما ندر-.. فإن تلك لكارثة بنيوية لا بدّ من إيلائها الأهمية الأبرز إن كنا نتطلّع إلى بناء مجتمعٍ حضاريٍ مثقف وواع.
المصدر: موقع الاسلام المعاصر