آية الله جعفر السبحاني
الفصل الخامس
البكاء على الميّت وإقامة العزاء عليه
الحزن والتأثّر عند فقدان الأحبة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية، فإذا ابتلي إنسانٌ بمصاب عزيز من أعزائه أو فلذة من فلّذات كبده، أو أحد من أرحامه يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه. ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكار جدّ وموضوعية، ومن الواضح بمكان أنّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
قال سبحانه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها}(124)
ولا يمكن لتشريع عالمي أن يحرّم الحزن على فقد الأحبة والبكاء عليهم إذا لم يقترن بشيئ يغضب الرب.
ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة. روى أصحاب السِّيَر والتاريخ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي، جاء(صلى الله عليه وآله وسلم)فوجده في حجر أُمّه، فأخذه ووضعه في حجره، وقال: "يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئاً ـ ثم ذرفت عيناه وقال: ـ إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنّه أمرٌ حقّ ووعدٌ صدق وأنّها سبيل مأتية، لحزنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا."(125)
وفي رواية أُخرى أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون."(126)
وروي أيضاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أُصيب حمزة(رضي الله عنه)وجاءت صفية بنت عبد المطلب(رضي الله عنها) تطلبه، ـ فحال بينها و بينه الأنصارـ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): دعوها، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإذا نشجت نشج، وكانت فاطمة (رضي الله عنها) تبكي، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كلما بكت يبكي، وقال: "لن أصاب بمثلك أبداً."(127)
ولمّا رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهنّ، فبلغ ذلك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: "لكن حمزة لا بواكي له"، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم: لا تبكينّ أحداً حتّى تبدأن بحمزة، قال: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميتاً إلاّ بدأن بحمزة(128)
وهذا هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ينعى جعفراً، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعيناه تذرفان.(129)
وهذا هو(صلى الله عليه وآله وسلم)يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميت ودموعه تسيل على خدّه.(130)
وروي أيضاً أنّه )صلى الله عليه وآله وسلم(كان يزور قبر أُمّه ويبكي عليها وقد أبكى من حوله.(131)
وشوهد (صلى الله عليه وآله وسلم)يبكي على إبن لبعض بناته، فقال له عبادة بن الصامت: ما هذا يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم(؟ قال”: الرحمة الّتي جعلها الله في بني آدم، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء."(132)
كما أنّ بنت المصطفى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام)قد وقفت على قبر أبيها الطاهر وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت، وأنشأت تقول:
ما ذا على مَنْ شمَّ تربة أحمد *** أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا
صُبّت علىَّ مصائبٌ لو أنّها *** صُبّت على الأيام صِرن لياليا
وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ويرثيه بقوله:
يا عين فابكي ولا تسأمي *** وحُقّ البكاء على السيّد
إنّ البكاء على فراق الأعزة من ثمرات الفطرة الإنسانية، ولذا نرى أنّ النبي يعقوب(عليه السلام)بكى على ولده يوسف حتّى ابيضّت عيناه، قال سبحانه: {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم}(133)
حتّى وَرد أنّه يجوز شق الثوب في موت الأب والأخ. روى الصدوق(رحمه الله)قال:لمّا قبض علي بن محمد العسكري (عليهما السلام)(يعني الإمام الهادي) رؤي الحسن بن علي (عليهما السلام)وقد خرج من الدار وقد شق قميصه عن خلف وقدّام .(134)
وهذا يدلّ على مرونة حكم الإسلام بحيث يجيز عند شدة المصيبة أن يشق المصاب ثوبه، لئلا يختنق بغصته.
إقامة العزاء على موت الأحباب
إلى هنا ظهر أنّ البكاء من دون أن يقترن بما يغضب الرب أمر مطلوب دعت إليه الفطرة الإنسانية وأمضاه الشرع، بقي الكلام في إقامة العزاء والمآتم عليهم. ويكفي في صحّة ذلك ما نقلناه عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث إنّه لمّا رأى اجتماع نساء الأنصار يبكين شهداءهن هاجت نفسه ورغبت في إقامة العزاء فقال”: أمّا حمزة فلا بواكي له”، فقام الأنصار بدعوة نسائهم للبكاء على حمزة.
والعجب أنّ صاحب مجمع الزوائد يقول: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميتاً إلاّ بدأن بحمزة.(135)
إقامة العزاء على سيّد الشهداء(عليه السلام)
إنّ إقامة العزاء على سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام)هو إحياء لأصل من أُصول الإسلام، وهو لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه الظالمين والمستكبرين الذين استولوا على ثروات الشعوب وإمكانياتهم، ونسوا المواساة والعدل بين الأُمّة.
فقد قام الحسين بن علي(عليهما السلام) في وجه طواغيت بني أُمّية الّذين أحلّوا حرام الله وهتكوا حرماته وصادروا الحريات، وهو سلام الله عليه قد صرح بذلك في إحدى خطبه عند مسيره إلى كربلاء، وقال: "أيّها الناس إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق مَنْ غيّر."(136)
ثمّ إنّه(عليه السلام) كتب إلى أخيه محمد ابن الحنفية قبل أن يترك المدينة وقال:
"إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي وأبي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين."(137)
هذا هو أبوالشهداء(عليه السلام)يبين موقفه من ظلم الحكام، فعلى شيعته ومحبيه الاقتداء به واقتفاء خطاه.
ولأجل أن لا يُنسى هذا المنهج الّذي هو أصل من أُصول الإسلام تخرج يوم عاشوراء أو قبله وبعده جماهير المحبين يرددون شعارات حماسية وفي الوقت نفسه أشعاراً محزنة لكي يبقى هذا المنهج حيّاً نابضاً في نفوس المسلمين. والّذي يُسبب إثارة حفيظة الآخرين هو أنّ هذه المسيرات الجماهيرية منشأ لانتشار الصحوة الإسلامية في عامة البلاد وتنبيه على ظلم الظالمين، هذا من جانب، ومن جانب آخر خوف أصحاب السلطة والمسند والمقام الحكومي وأصحاب الثروات الطائلة ذات الأرقام المليونية، من أن يثور الشعب ضدهم، ويؤسّسوا حكماً إسلامياً مبنياً على أُسس من العدل والقسط، كلّ هذا صار سبباً لاتّخاذ موقف مضاد من هذه المراسم والتعازي.
كما أنّ تخصيص العزاء باسم الإمام الحسين(عليه السلام)ليس الدافع له دافعاً شخصياً، وإنّما طبيعة الثورة ـ الّتي قادها سلام الله عليه ـ لها من الخصوصية ما يجعلها موضع اهتمام محبي العدل والمساواة من شيعة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الذين أوصوهم بإحياء ذكرى سيد الشهداء(عليه السلام)سنوياً، فهم بهذه المراسم والتعازي يستجيبون لتعاليم قادتهم وأئمتهم(عليهم السلام)إحياءً لهذا المنهج الثوري وتحقيقاً لأهدافه السامية.
لقد تحدث الكثير من العلماء والكتاب والقادة عن الإمام الحسين)عليه السلام(وثورته، ومن هذا البحر الخضم نختار قولاً لأحد مفكّري ومفسّري أهل السنة في القرن الرابع عشر الهجري، ألا وهو سيد قطب حيث يقول:
والحسين (رضوان الله عليه ) وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب! أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين (رضوان الله عليه)، يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعين، من المسلمين، وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفِّز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال."(138)
خاتمة المطاف:
تضخيم بعض الممارسات
يركز المؤلف في آخر كتابه على أُمور يصفها بأنّها محرّمات ترتكب عند القبور، وليس في كيسه إلاّ ما ذكره محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، في حق محبي النبي وأهل بيته(عليهم السلام)، وأكثر هذه الأُمور إمّا أكاذيب وافتراءات، أو أنّها أُمور جائزة، وإليك الكلام فيها:
الأوّل: الاعتقاد بأنّ النبي والولي ينفع ويضر
إنّ الكاتب نسب إلى زائري قبور الأولياء بأنّهم يعتقدون بأنّ الأموات يضرون وينفعون، مع أنّه سبحانه هو الضار والنافع وحده، قال الله تعالى :{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاِ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً}(139)
أقول: إنّ الكاتب لا يملك ذرة من الإنصاف، كيف وقد حمل الآيات الواردة في حق المشركين الذين اتخذوا أصنامهم آلهة على الموحّدين الذين لم يتخذوا غيره سبحانه إلهاً ويرددون شهادة التوحيد على ألسنتهم ليل نهار. فأنت لا تجد على أديم الأرض من يقول بأنّ أولياء الله يضرون وينفعون، وإنّما المؤثر هو الله سبحانه، والله هو الشافي، نعم يتوسلون بهم كما كان المسلمون يتوسلون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في حياته، قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً}(140).ولو كان طلب الدعاء بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)شركاً وعبادة للمدعو، فليكن كذلك شركاً وعبادة له في زمان حياته(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ من الغباء تشبيه طلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء والأولياء بدعاء المشركين الذين تركوا عبادة الله سبحانه واشتغلوا بعبادة الأصنام حتّى يكون لهم العز في الحياة الدنيا والنصر في الحروب ونزول الموائد السماوية إليهم.
وبذلك يظهر أنّ ما أورده من الآيات الواردة في حق المشركين في هذا المورد دليل على جهله بعقائد المسلمين أو تجاهله، وأنّ منشأ جهله هو تصوره أنّ مطلق دعاء الأموات عبادة لهم وإن كان مجرداً عن أية عقيدة بربوبيتهم وتأثيرهم في مصير الداعي.
الثاني: اتخاذ أصحاب القبور شفعاء
قال المؤلف: إنّ زوار القبور يتخذون أصحاب القبور شفعاء ووسائط تقربهم إلى الله، وقد ذم القرآن الكريم هذا العمل بقوله سبحانه وتعالى حكاية عن المشركين:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أولياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونا إلَى اللهِ زُلْفى إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّار}(141)
أقول: جعل الأنبياء والأولياء وسائط بين الناس وبين الله على قسمين:
1. يُعتقد بأنّهم عباد الله الصالحين يستجاب دعاؤهم، فهذا عين التوحيد، فهذا عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة، لمّا اشتد القحط، فسقاهم الله تعالى به وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه، ولمّا سُقي الناس طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.(142)
فهذا النوع من العمل عين التوحيد، فلو طلب المؤمن نفس هذا الدعاء من أحد الأولياء بعد رحيله يمتنع أن يكون شركاً، لأنّ عملاً واحداً لا يمكن أن يكون على غرار التوحيد في حياة المتوسل به، وشركاً في مماته، وآخر ما يمكن أن يقال: إنّ الميت لا يسمع فيكون التوسّل لغواً لا تركاً، وسيوافيك أنّ الشهداء ونبيهم أحياء يسمعون كلامنا.
2. أن يتخذه إلهاً مؤثراً في مصير الداعي، بيده النصر والعز والمغفرة إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، ثمّ يعبده ليتقرب بعبادته، ثم يجعله كواسطة للتقرب إلى الله تعالى، وهذا هو الّذي تهدف إليه الآية بشهادة أنّه سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}(143).فكيف يعطف القسم الثاني على القسم الأوّل وهو الذي يتوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في حياته ومماته من دون أن يصيّره معبوداً من دون الله سبحانه، ولا يعتقد بربوبيته وتأثيره في مصيره.
ومن حكم بالتسوية بينهما فقد حكم بتساوي النور والظلام والعلم والجهل، وبذلك يظهر حال ما استدل به من الآيات النازلة بحق المشركين.
الثالث: الاستغاثة بأصحاب القبور
من التهم التي ألصقها المؤلف بزائري قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقبور أهل البيت الطاهرين(عليهم السلام)أنّهم يدعون أصحاب القبور ويستغيثون بهم من دون الله، ورتّب على ذلك قوله:وهذا شرك بنص القرآن الكريم حيث قال تعاللى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير* إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِركِكُمْ ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير}(144)
والجواب: أنّ دعاء أصحاب القبور على قسمين:
الأوّل: دعاؤهم بما أنّهم آلهة يُعبدون وبيدهم النفع والضر وقضاء الحوائج مستقلين في أفعالهم، وهذه هي سيرة المشركين إذ كانوا يسوون آلهتهم برب العالمين، كما اعترفوا بذلك في قولهم الذي يذكره الله تعالى: {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِين}(145)
وهذا النوع من الدعاء لا يصدر من مسلم موحّد معتقد بأنّ الله سبحانه هو المدبّر وأنّ بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير.
الثاني: دعاؤهم بما أنّهم عباد الله سبحانه، وأنّ للنبي مقاماً محموداً تستجاب دعوته، ولذلك يتوسل به حتّى يدعو الله سبحانه ليستجيب دعاء المتوسل، وأين هذا من الشرك ياترى؟!
وما تمسّك به من الآيات لا صلة له بالمقام فإنّ المراد من:{والَّذينَ تَدْعُونَ} هم الّذين تعبدون من دون الله{ما يَملِكُونَ مِنْ قِطْمِير}، فالدعاء في هذه الآيات دعاء خاص مرادف للعبادة لا مطلق الدعاء.
هذا هو أبو أيوب الأنصاري يروي حاله الحاكم في مستدركه، قال:أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟! قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: جئت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ولم آت الحجر، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: "فلا تبكوا على الإسلام إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله."(146)
كما أنّ الاستغاثة بأولياء الله بما أنّهم عباد الله الصالحين هو ممّا نتعلمه من سيرة نبينا الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك من خلال ما رواه الصحابي الجليل عثمان بن حنيف حيث قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: ادعُ الله أن يعافيني.
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت، وهو خير؟ قال: فادعه، فأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء :"اللّهم إنّي أسألُكَ وَأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرّحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بِك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهم شفّعه فيّ."
قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأنّ لم يكن به ضرّ(147).
وأي استغاثة أظهر من الوارد في الجملتين التاليتين:
1. اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة.
2.يا محمد إنّي أتوجّه بكَ إلى ربي في حاجتي.
وأمّا سند الحديث فرجاله رجال الصحيحين، ولذلك رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجّاه، وأقره الذهبي في تلخيصه(148).
ثمّ إنّ مؤلف الكتاب استدلّ على تحريم الاستغاثة بما روي عن علي(عليه السلام)قال: "فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبه، ولا تسألوا الله بخلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله."(149)
ولكن خفي على المؤلف أنّ المراد هو السؤال للأُمور الدنيوية، أو كالذهاب إلى أبواب الأغنياء وسؤالهم، وأين هذا من توسيط الأنبياء والأولياء إلى باب رب العزة حتّى ينزل الله سبحانه على الناس من بركاته وعطاياه التي لا نهاية لها.
وبما ذكرنا يظهر الجواب عمّا أوصى به الإمام علي ابنه الحسن(عليهما السلام)وهو أنّه قال:"وألجئ نفسك في الأُمور كلّها إلى إلهك، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإنّ بيده العطاء والحرمان(150)
وهكذا يكون جوابنا عن سائر ما استدل به من الروايات. كيف والتوسل بدعاء الأخ المؤمن الحي ممّا اتفقت الوهابية على جوازه، فلو كان سؤال غيره سبحانه ممنوعاً مطلقاً فكيف يجوز سؤاله في حياته؟!
الهوامش :
124.الروم: 30.
125. السيرة الحلبية:3/ 248.
126. سنن أبي داود:1/58; سنن ابن ماجة:1/ 482.
127. إمتاع الأسماع للمقريزي: 154.
128. مجمع الزوائد:6/ 120.
129. صحيح البخاري:4/184، كتاب المناقب في علامات النبوة في الإسلام; سنن البيهقي:4/ 70.
130.سنن أبي داود:2/63; سنن ابن ماجة:1/ 445.
131.سنن البيهقي:4/70; تاريخ الخطيب البغدادي :7/ 289.
132.سنن أبي داود: 2/58; سنن ابن ماجة:1/ 481.
133.يوسف: 84.
134.وسائل الشيعة: ج 2، الباب84 من أبواب الدفن، الحديث 4.
135.مجمع الزوائد:6/ 120.
136.تاريخ الطبري:6/ 229.
137.بحار الأنوار:44/ 329.
138.في ظلال القرآن:7/189ـ190، تفسير الآية 51 من سورة غافر.
139.الفرقان: 3.
140.النساء: 64.
141.الزمر: 3.
142.أُسد الغابة في معرفة الصحابة:3/111، طبعة مصر.
143.الزمر: 3.
144. فاطر:13ـ 14.
145. الشعراء: 98.
146.المستدرك للحاكم:4/12، باب الفتن والملاحم، بسند صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي في تلخيصه عن داود بن أبي صالح.
147. سنن ابن ماجة:1/441، برقم 1385; مسند أحمد:4/ 138.
148.المستدرك للحاكم:1/ 313.
149.نهج البلاغة:2/91ـ 92.
150. البلاغة:3/39ـ 40.
يتبع...