فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار(عليهم السلام)(القسم الثامن)

السبت 25 نوفمبر 2017 - 05:27 بتوقيت غرينتش
فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار(عليهم السلام)(القسم الثامن)

المسجد هو معبد الموحّدين، يعبدون الله وحده ولا يدعون فيه أحداً إلاّ الله، قال سبحانه:{وانّ المساجدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحداً}،والمراد من الدعاء هو العبادة أي لا تعبدوا مع الله أحداً

آية الله جعفر السبحاني

الفصل الرابع

بناء المساجد جنب المشاهد

المسجد هو معبد الموحّدين، يعبدون الله وحده ولا يدعون فيه أحداً إلاّ الله، قال سبحانه:{وانّ المساجدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحداً}(105) والمراد من الدعاء هو العبادة أي لا تعبدوا مع الله أحداً. ذلك أنّ القرآن الكريم تارة يذكر العبادة بلفظها، وأُخرى يذكرها بلفظ الدعاء قال سبحانه:{وَقَال رَبّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ}.(106)

ترى أنّه سبحانه قد عبّر عن العبادة بالدعاء في صدر الآية، وهذا يدلّ على أنّ الدعاء المرادف للعبادة مختص بالله سبحانه. وأمّا الدعاء المجرد عن عنوان العبادة فأمر مباح أو مستحب أو واجب، وعلى كلّ تقدير فالمسجد مركز العبادة الخاصّة بالله سبحانه.

نعم جرت السنة منذ زمان على بناء المساجد في جنب المراقد تبركاً بوجود الأولياء، كما عمل به الموحّدون الذين عثروا على أصحاب الكهف و قالوا:{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}، وسوف يوافيك تفصيله .

ومن شاهد المؤمنين الذين يصلّون في تلك المساجد التي بنيت جنب المراقد يذعن بأنّهم يعبدون الله وحده ويصلّون باتجاه القبلة الّتي كتبها الله عليهم حيث قال:{وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ(107) ، كما يرى أنّهم يسجدون على الأرض من دون أن يتخذوا القبر قبلة أو مسجوداً عليه، أو غير ذلك من الأُمور المحرمة الموبقة. وما يتصوره الغافل في حقهم أنّهم يرتكبون الأُمور التالية:

أ. جعل القبر قبلة.

ب. جعله مسجوداً عليه.

ج. جعله مسجوداً له.

فكلّها افتراءات لا صحة لها.

نعم أنّ الحافز للصلاة في هذه المساجد هو التبرك بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أو بالإمام أو الولي المدفون هناك كما أمر المسلمون بالصلاة خلف مقام إبراهيم(عليه السلام)لتلك الغاية، قال سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيمَ مُصَلَّى}(108)

وإليك ما يشهد على جواز بناء المساجد جنب المشاهد والصلاة فيها:

1.عمل الموحّدين في عصر أصحاب الكهف

عثر الناس على أصحاب الكهف بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة، فوقع الخلاف بينهم، فقال المشركون: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أعْلَمُ بِهِمْ}. وقال الموحّدون الذين يصفهم الله سبحانه بقوله:{وَقالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}(109)

وهذا يدلّ على أنّ كلا الأمرين قد وقعا مورد رضا الله سبحانه. فلو كان أحد الأمرين منافياً للتوحيد لما ذكره سبحانه بلا نقد ورد.

ثم إنّ المحدث المعاصر الشيخ الألباني الذي يقتفي أثر الوهابيين أوّل الآية في كتابه:"تحذير الساجد باتّخاذ القبور مساجد" وقال ـ انطلاقاً من عقيدته المسبّقة ـ ما هذا معناه: المقصود من قوله:{قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمرِهِمْ} هو الأمراء والمتنفذون، ولم يعلم أنّهم كانوا رجالاً صالحين(110)

ولكنّه غفل عن أمرين ولو كان واقفاً عليهما لم يؤوّل كلام الله سبحانه تأييداً لعقيدته:

1. إنّ الضمير في قوله: {غَلَبوا عَلى أَمْرِهِمْ}يرجع إلى أصحاب الكهف لا إلى الطائفة الأُولى الّذين اكتفوا بالبناء عليهم، والمراد أنّ الّذين عرفوا أصحاب الكهف حق المعرفة وعرفوا مقاماتهم عند الله سبحانه قالوا:{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }.

وبعبارة أُخرى: قوله:{وَقالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ}في مقابل قول الطائفة الأُولى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}فاستنكروا حالهم وأحالوه إلى ربّهم، بخلاف الطائفة الأُولى الذين عرفوهم وغلبوا على أمرهم وتسلّطوا على أحوالهم، فيكون المراد من الغلبة، هو التعرف على أحوالهم لا غلبة قوم على قوم.

2. لو افترضنا أنّ المقصود من قوله:{غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ}هو الغلبة على الطائفة الأُولى لكان المراد من الغلبة هو الغلبة الدينية، بشهادة ما رواه الطبري حيث قال: وردّ الله إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بوَرِق يشتري طعاماً، فلمّا أتى باب مدينتهم، رأى شيئاً يُنكره، حتّى دخل على رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، فآوانا الليل، ثم أصبحوا، فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد مُلك فلان، فأنّى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً؟ فقال: من أين لك هذه الوَرِق؟

قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، حتّى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتري لهم طعاماً، قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتّى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل على أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضُرب على أذنه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أُرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم، فبنوا عندهم كنيسة، اتّخذوها مسجداً يصلّون فيه(111)

2. المسجد النبوي ومرقد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):

توفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في بيت إحدى زوجاته، وانجرّ الأمر إلى دفنه في نفس المكان الّذي توفّي فيه، وقد صار بيته معبداً لزوجته عائشة بقية حياتها، ولم يعترض أحد على صلاتها في بيتها والقبر إلى جانبها.

وفي السنة الثامنة والثمانين لمّا ضاق المسجد على المصلّين ـ حيث انتشر الإسلام في ربوع المعمورة ـ أمر الوليد بن عبد الملك والي المدينة عمر بن عبد العزيز بأن يوسّع المسجد بتخريب بيوت أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الّتي كانت مبنية حول المسجد، فقام هو بتخريبها جميعاً، وعندئذ وقع مرقد النبي في داخل المسجد، ولم يعترض على ذلك العمل أحدٌ من التابعين حتّى الإمام زين العابدين(عليه السلام)ولا سائر الفقهاء في ذلك الزمن، وهذا يحكي عن أنّ وجود المرقد داخل المسجد لا يعارض أُصول التوحيد ولا أُصول الشريعة، إذ أنّ الغاية هي التبرك بوجود النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد مر على ذلك أزيد من ثلاثة عشر قرناً ولم ينبس أحدٌ ببنت شفة. نعم روي عن سعيد بن المسيب أنّه اعترض على التخريب ولم يعلم وجه اعتراضه، إذ يحتمل أن يكون أنّ أصحاب البيوت كانوا غير راضين، أو أنّ الاعتراض كان لأجل أثر البناء لهذه الأبنية الّتي هي من الخشب والطين، حتّى يرى أبناء الأجيال التالية كيف عاش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهله وعياله حياة بسيطة.(112)

3. سيرة المسلمين وبناء المساجد عند المشاهد

يظهر ممّا ذكره السمهودي في "تاريخ المدينة" وجود المساجد عند المشاهد كثيراً، وإليك بعض ما ذكره: وأمّا قبر فاطمة بنت أسد أُمّ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، لمّا استقر بفاطمة وعلم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: إذا توفّيت فأعلموني، فلمّا توفيّت خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الّذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحداً ولم يضرح لها ضريحاً، فلمّا فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثم نزع قميصه فأمر أن تكفن فيه ثمّ صلّى عليها عند قبرها فكبر تسعاً.((113)

يذكر البيهقي أنّ فاطمة سيدة نساء العالمين كانت تذهب إلى زيارة قبر عمّها حمزة وتصلّي لديه.(114)

نقل السيوطي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نزل في ليلة المعراج الأماكن التالية: طيبة; طور سيناء، بيت لحم وقد أمره جبرائيل بالصلاة فيها. ثم قال: أمّا طيبة فهي مهجرك، وأمّا طور سيناء فهو الموضع الّذي كلم الله موسى، وأمّا بيت لحم فهو مولد عيسى المسيح(عليه السلام).(115)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ الصلاة تبركاً بالمواضع الّتي مسّها جسد نبي أو أحد الأولياء، كان أمراً مشروعاً لم ينكره أحد.

الصلاة في المشاهد في أحاديث العترة الطاهرة

وبما أنّ كاتب الرسالة يريد أن يطبق أحاديث العترة على عقائد الوهابيين لذا يجب أن نذكر بعض ما روي عنهم لكي يظهر أنّ ما ادّعاه من اتّحاد النظرتين أمر باطل:

1. روى الكليني عن الحسن بن عطية، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: "إذا فرغت من السلام على الشهداء فأت قبر أبي عبد الله(عليه السلام) فاجعله بين يديك ثم تصلي ما بدا لك."(116)

2. روى الشيخ عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام)في حديث طويل في زيارة الحسين(عليه السلام):"ثمّ تمضي يا مفضّل إلى صلاتك ولك بكل ركعة تركعها عنده كثواب من حج ألف حجّة."(117)

3.ما رواه الشيخ عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال لرجل: "يا فلان ما يمنعك إذا عرضت لك حاجة أن تأتي قبر الحسين(عليه السلام)فتصلي عنده أربع ركعات."(118) فقد أمر الإمام بالصلاة عند قبر الحسين(عليه السلام).

وقد اقتصرنا على ما ذكر فإنّ ذكر الجميع يطول. ويستفاد من الجميع أنّ الصلاة عند مشاهد الأئمة(عليهم السلام)أمر مشروع ومثاب عليه.

ذرائع الكاتب وحججه

اتّخذ الكاتب في المقام بعض الروايات ذريعة لما يتبنّاه من حرمة بناء المساجد على القبور والصلاة فيها، ونحن نذكر تلك الذرائع واحدة بعد الأُخرى:

1.روى الصدوق مرسلاً عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال:"لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور الأنبياء مساجد."(119)

ترى أنّ الحديث يمنع عن أمرين:

أ. اتّخاذ القبر قبلة.

ب. اتّخاذ موضع القبر مسجداً.

وإليك دراسة كلا الأمرين:

إنّ في مضمون الحديث سؤالاً ربما يسبب الشك في صحته حيث يصف اليهود بأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وهذا من اليهود بعيد جداً، لأنّ اتخاذ القبر مسجداً آية التكريم والتعظيم واليهود على
النقيض من ذلك حيث اشتهروا بقتل أنبيائهم، قال سبحانه:{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)120) وقال :{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.(121)

نحن نغض النظر عن هذا السؤال، ونرجع إلى بيان معنى الحديث فنقول: الحديث ينهى عن أمرين:

أ. اتّخاذ قبر النبي قبلة.

ب. اتّخاذ قبره مسجداً.

أمّا الأوّل فلا شك أنّه من المحرمات الموبقة، فقد جعل الله سبحانه الكعبة هي القبلة دون غيرها فالنهي في محله.

وأمّا الثاني فالمراد به هو اتخاذ القبر مسجداً بمعنى المسجود عليه تعظيماً له، وهذا أيضاً من المحرمات، ولكنّك لا تجد أحداً من المسلمين مَن يصلي إلى القبر ويتّخذه قبلة ولا مَن يصلي ويسجد على القبر.

2. روى الشيخ الطوسي عن الإمام الرضا(عليه السلام)قال:"لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة.(122)

إنّ قوله(عليه السلام( :ما لم يتخذ القبر قبلة"يحتمل وجهين:

1. أن يصلي إلى القبر كما يصلي إلى الكعبة .

2. أن يكون القبر حيال وجهه مع كونه مصلياً إلى الكعبة.

أمّا الأوّل فهو حرام بلا شك؛ وأمّا الثاني فمحمول على الكراهة، بشهادة أنّ المسلمين يصلّون في المسجد النبوي في الصفّة وقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بحيال وجههم.

بقيت هنا نكتتان:

1. إنّ مصب الرواية الأخيرة هو المقابر العامّة لا المشاهد المشرّفة والمراقد المطهرة، الّتي تضافرت الروايات على استحباب الصلاة فيها بلا نكير.

2.إنّ هذه الروايات أخبار آحاد لا يمكن الاستدلال بها على حكم الصلاة في المشاهد ومراقد الأولياء، الّتي تضافرت الروايات على استحبابها، يقول صاحب الجواهر: إنّ قبور الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)لا تندرج في تلك الإطلاقات حتّى تحتاج إلى استثناء، كما هو واضح، وأيضاً فاللائق استثناؤها من كراهة البناء على القبور كما في الذكرى وغيرها، والمقام عندها لا التجصيص والتجديد، اللّهم إلاّ أن يراد منهما ذلك.(123)

ومن أراد التفصيل عليه مراجعة كتابينا التاليين:

1. الوهابية في الميزان.

2. الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية.

الهوامش:
105. الجن: 18.
106. غافر: 60.
107. البقرة: 144.
108. البقرة: 125.
109. الكهف: 21.
110. تحذير الساجد باتّخاذ القبور مساجد: 72.
111. تفسير الطبري:1/265ـ266، طبعة دار ابن حزم.
112. اقرأ تفصيل توسعة المسجد في كتاب وفاء الوفا:2/262ـ 276، طبعة مؤسسة الفرقان.
113. وفاء الوفا:3/897، طبعة دار إحياء التراث العربي، و 3/276، طبعة مؤسسة الفرقان.
114.سنن البيهقي:4/78; مستدرك الحاكم:1/377; وفاء الوفا:3/322، طبعة مؤسسة الفرقان.
115. الخصائص الكبرى:1/ 154.
116.وسائل الشيعة: ج 10، الباب69 من أبواب المزار، الحديث 1.
117. وسائل الشيعة: ج 10، الباب69 من أبواب المزار، الحديث 2.
118.وسائل الشيعة: ج 10، الباب69 من أبواب المزار، الحديث 3. ولاحظ بقية الروايات الّتي ناهز عددها العشرة.
119.وسائل الشيعة: ج 2، الباب65 من أبواب الدفن، الحديث 2.
120.آل عمران: 181.
121.النساء: 155.
122.وسائل الشيعة: ج 3، الباب 25 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3.
123. جواهر الكلام:4/ 340.