آية الله جعفر السبحاني
2.البناء على القبور وإظهار المودّة
يعتبر البناء على قبور ذوي القربى أحد مصاديق التودد،لقوله سبحانه:{قُلْ لا أسألكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إلاّ الْمَودّةَ فِي القُرْبى }(56)و البناء على قبور عظماء المجتمعات الإنسانية يعد احتراماً وتكريماً لهم نابعاً عن المودة وعرفان الجميل.
فإذا كان البناء على القبور تكريماً مشعراً بالمودة فيكون ممّا دعا إليه الكتاب العزيز بصورة عامة.
ولذلك نجد أنّ الأُمم السابقة انطلقوا من هذا الأصل فبنوا على قبور أنبيائهم أبنية شامخة باقية إلى يومنا هذا، ولم يقتصروا على ذلك بل عيّنوا لهذه الأبنيّة سدنة وخدماً يحافظون على البناء ويهتمون به.
3. موقف الخلفاء من البناء على قبور الأنبياء
حدثنا التاريخ أنّ الجيوش الإسلامية المحرِّرة حينما فتحت بلاد الشام لم تتعرض إلى تلك القبور المشرفة للأنبياء بأي سوء، ولم ينقل لنا التاريخ أيّة محاولة إساءة أو اعتداء على تلك البقاع الشريفة بل لم يبد المسلمون أيّة رد فعل سلبية اتجاهها، فأقرّوا خدمتها والمشرفين عليها على ما هم عليه وأوصوا بالحفاظ عليها وصيانتها، فلو كان البناء على قبور الأنبياء والأولياء حراماً ومنافياً للتوحيد، لسعى المسلمون الفاتحون ـ و بأمر من الخلفاء ـ لتخريبها وإزالتها من الوجود ولم يتركوا لها أثراً يذكر، والحال أنّا نجد المسلمين لم يتعرضوا لها بل أبقوها كما هي عليه من دون أي تغيير. ولقد بقيت تلك القباب عامرة إلى هذه اللحظة حيث تحظى باهتمام خاص وعناية فائقة من الموحدين في جميع أقطار العالم.
وقد اعترف ابن تيمية بوجود هذه القباب قبل الإسلام وبقائها بعده، قال: وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم(عليه السلام)مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة(57).
نفترض أنّ ما ذكره ابن تيمية صحيح وانّها كانت مسدودة، ولم يذكر له أي مصدر فلو كانت البنية على قبر الخليل شركا بواحاً، فلماذا لم يهدمها أحد في القرون الثلاثة التي هي عند السلفيين خير القرون، كما ينقلون عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم(58).
وإليك نموذجاً آخر وهو قول ابن جبير في رحلته: وبهذه القرية ]يعني جدّة[ آثار قديمة تدل على أنّها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم، وبها موضع فيه قبة مشيّدة عتيقة، يذكر أنّه كان منزل حواء أُمّ البشر، صلى الله عليها، عند توجهها إلى مكة، فبني ذلك المبنى عليه تشهيراً لبركته وفضله(59).
4.سيرة المسلمين والبناء على القبور
قد جرت سيرة المسلمين من عصر رحيل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)على البناء على قبور الأولياء والصلحاء ومن كانت لهم أيادي الفضل على الأُمّة. وكانت السيرة سائدة في الحرمين الشريفين إلى أن استولت الوهابية عليهما فهدمتها بمعاول الظلم والتعصب، وها نحن نذكر نماذج من هذه الأبنية والقبور التي عليها صخور وخطوط لتظهر أنّ السيرة على خلاف ما يدّعيه ابن تيمية وتلميذ منهجه المقتات على فضلات مائدته الفكرية.
وقد كانت هذه السيرة سائدة في القرون الثلاثة التي يتباهى بها السلفيون وعلى رأسهم ابن تيمية، ويظهر ذلك لمن يقرأ شيئاً من كتب التاريخ والرحلات التي كتبها الرحالة إلى بلاد الحجاز ومصر وغيرهما.
قال المسعودي: توفّي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) سنة ثمان وأربعين ومائة)، ودفن بالبقيع مع أبيه وجدّه وله خمس وستون سنة وقيل: إنّه سُمّ، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها:
"بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبدئ الأُمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد رضي الله عنهم أجمعين(60).
مشاهدات الرحالة ابن جبير الأندلسي
وابن جبير هو ذلك الرحالة المعروف(المولود 540هـ)، قد شرع برحلته عام 578 هـ ، يذكر مشاهداته في مصر وهي كثيرة ننقل منها شيئاً يسيراً فعندما يذكر القاهرة وآثارها العجيبة، يقول: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض، قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به، مجلّل بأنواع الديباج... إلى آخر ما قال. ثم يذكر ما أمكنه مشاهدته: ومنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين. مشاهد أربعة عشر من الرجال، وخمس من النساء، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وُكّل بها قَومةٌ يسكنون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كلّ شهر(61).
ثمّ ذكر مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم)، قال: مشهد علي بن الحسين بن علي(رضي الله عنه) ، ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق)(رضي الله عنه) ، ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور(رضي الله عنه)، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين (رضي الله عنهما)، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم(رضي الله عنه)ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد علي بن عبدالله بن القاسم(رضي الله عنه)، ومشهد أخيه يحيى بن عبدالله(رضي الله عنه)، ومشهد... الحسين بن علي(رضي الله عنهم)، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسين(رضي الله عنه)ثم ذكر مشاهد الشريفات العلويات (رضي الله عنهن)، وقال: مشهد السيدة أُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر (رضي الله عنها)، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (رضي الله عنها)، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق(رضي الله عنها)، ومشهد السيدة أُمّ عبد الله بن القاسم بن محمد(رضي الله عنها)، وهذا ذكر لما حصله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة، وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أنّ في جملتها مشهداً مباركاً لمريم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو مشهور، لكنا لم نعاينه.(62).
ولنقتصر بما ذكر فإنّ ذكر مشاهده من الأبنية على قبور الأنبياء والصحابة والشهداء كثير لا يسع المجال لنقله.
مشاهدات الرحالة ابن النجّار(578ـ643هـ)
إنّ الرحالة المعروف محمد بن محمود بن النجار يذكر في كتابه: أخبار مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)مشاهدته للقبة الرفيعة في أوّل البقيع، وأنّ عليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة(63).
مشاهدات ابن الحجّاج (المتوفّى 391 هـ)
هذا ابن الحجّاج البغدادي ـ وهو من شعراء العراق ـ وقد دخل النجف الأشرف وزار قبر باب مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم( علي أميرالمؤمنين(عليه السلام)وأنشأ قصيدة في حرمه مستهلاً بالبيت التالي:
يا صاحب القبة البيضاء في النجف *** من زار قبرك واستشفى لديك شُفي
وذلك يشهد على وجود القبة خلال خير القرون على قبر الإمام علي(عليه السلام).
إلى غير ذلك من النصوص التي تكشف عن وجود هذه القباب في مختلف البقاع من بلاد المسلمين من غير أن ينكر عليه أحد لا في خير القرون ولا بعده، حتى جاء ابن تيمية وأفتى بتحريم البناء ولم يقتصر على ذلك بل تمادى ووصفه بأنّه من مظاهر الشرك.
وهناك سؤال هو: أنّ إجماع الأُمّة في عصر من العصور دليل قطعي على ما أجمعوا عليه، فلو كان في المسألة دليل ظني وأجمعت الأُمّة على مضمونه يرتفع به الحكم الظني إلى الحكم القطعي ويصير حكماً واقعياً، فإذا كان هذا هو الأصل فلأي دليل يطرح هذا الإجماع؟
ونعم ما قاله سيد الطائفة السيد محسن الأمين في القصيدة المسماة بـ"العقود الدريّة في ردّ شبهات الوهابية":
دفن النبي المصطفى في حجرة *** شأت الكواكب في العلى والسؤدد
والمسلمون تجد في تعظيمها *** ما بين بان منهم ومشيّد
من ذلك العهد القديم ليومنا *** تعظيمهم لضريحه لم ينفد
لم يهدم الأصحاب حجرة أحمد *** وهم الهداة وقدوة للمقتدي
بل لم تزل مبنية وبناؤها *** في كلّ عصر لم يزل يتجدد
إن لم يجز فوق القبور بناؤها *** لِمَ لم تهدم قبل حجرة أحمد
ما كان ممنوعاً لنا إحداثه *** ابقاؤه عن ذاك غير مجرد
مع أنّهم قد احدثوا بنيانها *** متتابعاً من بعد دفن محمّد
زوج النبي بنت عليها حائطاً *** بين القبور وبينها لم يعهد
وابن الزبير لها بنى وكذلك *** الفاروق ثم سمّيه فلنقتد
جهلوا تراهم ماعلمتم أم غدوا *** متساهلين وأنتم بتشدد
وتتابع الباقون في بنيانها *** وغدت لأصل الدين اعظم مقصد
لضريح أحمد حرمة ما ردّها *** غير الجهول وغير ذي الطبع الردي
لو لم يكن شرف القبور في الذي *** يدعو إلى هذا المقيم المقعد
وكذا ضرائح آله فلها الذي *** لضريح جدهم برغم الحُسّد(64)
الهوامش:
56. الشورى: 23.
57. اقتضاء الصراط المستقيم:331، طبع مكتبة الرباط الحديثة.
58.عمدة القاري: 14/180; تفسير ابن كثير:3/331; الصواعق المحرقة: 5.
59. رحلة ابن جبير: 68، طبع دار الكتاب اللبناني.
60.مروج الذهب:4/132، برقم 2377، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1973م. و ما ذكر عن قبر فاطمة فإنّما هو قبر فاطمة بنت أسد أُمّ أميرالمؤمنين(عليه السلام)لا فاطمة بنت النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(.
61.رحلة ابن جبير:48 و 49.
62.رحلة ابن جبير: 49.
63.راجع كتاب: أخبار مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):135، تحقيق صالح محمد جمال، طبع مكة المكرمة، 1366هـ..
64. العقود الدريّة في ردّ شبهات الوهابية:395، المطبوعة مع كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب.