السيد محمَّد علي العلوي*
أُفَكِّرُ في ثقافة الإختبارات بمعناها الأعم من الإختبارات الأكاديمية المعروفة، ومن غيرها كاختبار الرياضي في المسابقة، والمُحاوِرِ في المناقشة، وما إلى ذلك.. وأتَسَاءلُ: مِنَ الواضح لي أنَّ الغاية منها هي التقييم من جهة المسؤول عن إجازة المُختبر للانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن جهة نفس المُخْتَبَر ليقف على مستواه وقدراته التحصيلية.
إذا كان الأمر كذلك، فما الداعي لإدخال المُخْتَبَر في مقارنات مع مُخْتَبَرين غيره؟
قد يُقال: لِخَلْقِ رُوحٍ تَنَافُسِيَّةٍ بين المُحَصِّلِين.
أتساءلُ ثانية: يُذاكِرُ الطَالِبُ -مثلًا- من أجل أن يُحرِزَ دَرَجَةً مُعَيَّنَةً، أو من أجل تَرتِيبٍ مُعَيَّنٍ بَين أقْرَانِه مِنَ الطَلَبَة.. هل هذه الثقافة تتوافق مع الأسس التربوية الصحيحة؟
تعالوا لقراءة هذه الحالة المتكرِّرة كثيرًا..
يدخُلُ طالِبٌ مُجِدٌّ قاعة الاختبار وهو في تمام الاستعداد، ولكنَّه، ولكونه إنسانًا قد يُخطئ بشكل طبيعي في أمور لا يُتَوَقَّعُ منه الخطأ فيها، ينسى نقطة صغيرة أن يذكرها في إجابة من الإجابات، فينقص (درجة واحدة)، ولكنَّ هذه الدرجة تغيِّر ترتيبه من (الأوَّل) إلى (الثاني).. وربَّما (الثالث أو الرابع…)، وبسبب هذه الدرجة قد يُحرَم من التكريم الذي خصَّصتْهُ إدارة المدرسة أو الوزارة المعنية للحائزين على المرتبة الأولى فقط، وربَّما فاتته بعثةٌ أو مِنحَةٌ دراسية!
ومن المتكرِّر أن يتقدَّم في المراكز الأولى من يُحسِن الحفظ قبل الإختبارات..
يدْرسُ المُجِدُّ طوال أشهر بقوة وحسٍّ مسؤول، فبأي اعتبار علمي تُختزَلُ فترةُ الدراسة في ورقة اختبار يُعطى الطالب ساعتين للإجابة على أسئلتها؟ أيُّ منطق هذا؟
فريقُ كرةِ قدمٍ يُقدِّم مباريات في غاية الإتقان، فيُمتِعُ الجماهير ويظهر هذه اللعبة في شكل جميل يعكس مهاريتها، ولكنَّه يُبتلى بفِرق منافسة يتكتَّل لاعبوها في منطقة الدفاع، وفي لحظة تُستَغَلُّ من أحدهم فُرصةً من لعبةٍ مرتدَّة فيخرج الفريق المدافع فائزًا، وفريق المهارات مهزومًا.. ويقال: إنَّما الكرةُ (أهداف!)
أتَسَاءلُ..
ماذا لو أنَّ لجنةً تقييم تُسجِلُّ لكل فريق نقاط في مقابل كل لعبة مهارية وكل تمريرة صحيحة وتسديدة جميلة وهدف، فلا يستحق الفوز حينها إلَّا من يستحقه فعلًا..؟
ماذا لو أنَّ تقييم الطالب في المدرسة والجامعة والمعهد يكون بملاحظة المدرسين لأدائه الذهني والفكري والإبداعي، وبما يُقدِّم من بحوث وتحقيقات ودراسات، دون أن يُحبَس في دائرة الإختبارات والتقييمات الضيقة المُغلقة..؟
يحتاج الإنسان للإختبار، فهذا أمر مهم في آلية الترقي وضمان صحة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أكثر تقدمًا، ولكنَّ الذي أسجل اعتراضي عليه هو طبيعة الإختبارات والتقييمات، فهي تؤسِّس للأنانية والتمحور حول مادية طلب العلم، وأقصد بالمادية المصلحة المجعولة، وهذا في الواقع خلاف أصل الفضيلة العلمية، فالعِلم والإبداع والمهارات، كلُّها من الوجودات التي ينبغي أن تُطلب وتتحرَّك لذاتها تكاملًا وبناءً، وهذا من ضروريات كون الإنسانِ إنسانًا؛ حيثُ إنَّ إنسانية الإنسان تعني تميزه بالإدراك، والإدراك هو إعمال الفكر في التحليل والفهم وتكوين المفاهيم مما يُنتِجُ إبداعات علمية ومعرفية ومهارية تعكس سير الإنسان على مدارج الكمال، ولهذه الحالة السامية عدوٌّ خطير، هو ربط العلم والمعرفة والإبداع بماديات الدنيا وأنانياتها؛ فهذا يقلِبها لأدوات تدمير كارثية، والأمثلة على ذلك فاقعة، منها ارتباط علم السامري بالدنيا، وبالرغم من فقاهته إلَّا أنَّه كان السبب في ضلال بني إسرائيل {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}!
نعيش اليوم منعطفات ضلالٍ خطيرة، سببها هذا الربط المقزِّز للعلم والمعرفة والإبداع بالمادة ودنياها والأنا ومستنقعاتها. ومن أهم ما يؤسِّسُ لهذه الحالة المتردية، طريقة الاختبارات وطبيعة أجواء التنافس بشكل عام.
*عالم دين بحريني