آية الله جعفر السبحاني
زيارة القبور في السنة النبوية
اتّفق أهل السيرة على أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجّلون، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد." (26) ولم يقتصر )صلى الله عليه وآله وسلم(بل علّم كيفية الزيارة لزوجته، روى مسلم في صحيحه عن عائشة في حديث طويل قالت: قلت كيف أقول لهم يارسول الله؟ قال )صلى الله عليه وآله وسلم): "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ورحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون(27).
ومع ذلك نرى أنّ الحكومة السعودية قد أقفلت باب البقيع بوجه النساء، فمنعت دخولهن إليه، مع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أدخل زوجته البقيع وعلّمها صيغة الزيارة .
وقد جاء في الآثار أنّ بنت المصطفى التي هي أفضل نساء العالمين تذهب إلى زيارة القبور، كما تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة وتصلّي عنده في حياة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(28).هذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وهذا سلوك ابنته، فما هذا التناقض بينها وبين عمل الوهّابية؟!
هذا وقد زارت عائشة قبر أخيها عبدالرحمن وكان قد مات بالحُبشي ـ والحبشي على اثني عشر ميلاً من مكة، هكذا في كتاب ابن أبي شيبة عن ابن جريج ـ فحُمِل حتّى دفن بمكة، فقدمت عائشة من المدينة، فأتت قبره فوقفت عليه، فتمثلت بهذين البيتين:
وكنا كندماني جذيمة حقبة *** من السهر حتّى قيل: لن يتصدّعا
فلّما تفرقنا كأنّي ومالكاً *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أما والله لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلاّ في مكانك الّذي متّ فيه (29).
وحصيلة الكلام: أنّ استحباب زيارة قبر النبي )صلى الله عليه وآله وسلم(أمر اتفق عليه قاطبة الفقهاء.
حتّى أنّ مفتي الديار السعودية السابق عبدالعزيز بن باز أفتى باستحبابها ونشرت جريدة "الجزيرة"فتواه في عددها 6826، وبتاريخ 24 / ذي القعدة الحرام / عام 1411 هـ .
وقد ذكر العلاّمة السبكي ما روي في المقام من الأحاديث فأنهاها إلى خمسة عشر حديثاً وتكلم في أسنادها، (30)كما نقل نصوص كبار علماء المسلمين على استحباب زيارة قبر الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد بيّن أنّ الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين.
كما أنّ العلاّمة الراحل الشيخ الأميني (رحمه الله) قد نقل ما دل على استحباب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر ما يتجاوز الأربعين قولاً من أقوال علماء السنّة التي فات السبكي الوقوف عليها(31).
حديث: "لا تشدّ الرّحال..."
ربما يمكن أنّ يقال: إنّ زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أمر مستحب في نفسه، إلاّ أنّ السفر لتلك الغاية غير جائز لما رواه مسلم في صحيحه:
إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى."(32).
إلاّ أنّ الإمعان في الحديث يعرب عن أنّ الكلام مشتمل على المستثنى دون المستثنى عنه، ويسمّى هذا الإستثناء في اصطلاح اللغويين بالإستثناء المفرغ، فلابد من تعيين المستثنى منه ثم دراسة الحديث. وهناك احتمالات ثلاثة:
إنّ المقدّر هو المكان، أو القبر، أو المسجد.
فعلى الأوّل يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد .
وعلى الثاني يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى قبر من القبور إلاّ إلى ثلاثة مساجد.
وعلى الثالث يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد.
أمّا الأوّل فهو باطل شرعاً وعرفاً لبديهة جواز السفر للتجارة والزيارة والدراسة والسياحة إلى غير ذلك من الغايات المباحة شرعاً.
أمّا الثاني فهو يجعل المستثنى منقطعاً لعدم دخول المستثنى في المستثنى منه، إذ يصبح الكلام ركيكاً جدّاً، والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)أفصح العرب، فكيف يتكلّم بما يُعد عيباً عند الفصحاء والأُدباء؟!
إذن يتعين الثالث وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد. لعدم وجود المزية في غير هذه المساجد الثلاثة، فيصبح شد الرحال أمراً لغواً.
فالمسجد الجامع في البصرة من حيث الثواب نفسه في الكوفة فالسفر من البصرة إلى الكوفة لغاية درك فضيلة اقامة الصلاة في المسجد الجامع في الكوفة أمر لا طائل تحته لإمكان الزائر أن يناله بالصلاة في جامع البصرة .
ولعمري أنّ الحديث واضح لا شبهة فيه. وعلى ما ذكرنا لا يشمل مَن يشد الرحال ويتوجه لمرقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم(لزيارته وتجديد البيعة معه لخروجه عن مصب الحديث في جانبي المستثنى والمستثنى منه.
هذا على القول بصحة سند الحديث، وبما أنّه ورد في الصحيحين ،أبى الفقهاء عن المناقشة في مضمونه، وإلاّ فيمكن نقض القاعدة بما تضافر من أنّ النبي )صلى الله عليه وآله وسلم(كان يزور مسجد قباء في كل سبت(33)ومنطقة قباء تبعد عن المدينة مسافة تستوجب السفر وشدّ الرحال.
شدّ الرحال إلى المساجد السبعة
إنّ حجاج بيت الله الحرام يقصدون المساجد السبعة في المدينة المنورة، مضافاً إلى المساجد الثلاثة الأُخرى كمسجد رد الشمس (الفضيخ)، والإجابة، وبلال، فكيف يبرر هذا السفر مع نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عن شد الرحال إلاّ لمساجد ثلاثة.
الجواب: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)نهى عن السفر إلى غير هذه المساجد لأجل العبادة والصلاة فيها، لكون السفر أمراً لغواً لعدم مزية مسجد على مسجد آخر مثله. وأمّا سفر الحجاج إلى هذه المساجد فليس لغاية إقامة الصلاة فيها وإن كانوا يصلّون بمجرد الدخول فيها، بل الغاية من السفر هو التعرّف على البطولات التي قام بها المسلمون في وجه المشركين وما قدّموا من التضحيات في طريق إرساء أُسس الإسلام ونشر راية التوحيد، وكل ذلك لا يعلم إلاّ بالحضور في تلك المشاهد حتّى يتعرف الإنسان على ما جرى عليهم في تلك الحقبة من الزمن، وذلك واضح لكل من له إلمام بالسفر إلى هذه المساجد. ولم يكن السفر إليها لأجل إقامة الصلاة فيها بل التعرف على تاريخ الإسلام وبطولات رجاله.
والعجـب أنّ الحكـومة السعـودية بسبب ضغـط هيئـة الآمـرين بالمعـروف قـد وضعت العراقيل أمام حجاج بيت الله الحرام الّذين يقومون بزيارة هذه المشاهد، بإقفال بعض هذه المساجد والمنع عن الأُخريات، وما ذلك إلاّ لقطع صلة المسلمين بآثار نبيهم .
صيانة آثار الصالحين
إنّ كل ظاهرة دينية أو اجتماعية إذا تجرّدت عن الآثار الدالة على وجودها على أرض الواقع قد تصبح بمرور الأجيال عرضة للتشكيك والترديد.
ولأجل ذلك نرى أنّ الدعوة النصرانية أصبحت في الغرب ـ بالأخص عند شبابهم ـ ظاهرة مشكوكة، وذلك لأنّه ليس لسيدنا المسيح أثر ملموس يستدل على وجوده ودعوته، إذ ليس للمسيح عندهم مقام يزار، ولا لأصحابه قبور تقصد، ولم يجدوا كتاباً مصوناً من التحريف والدس، إذ أنّ ما بين أيديهم ما يقارب من 24 أنجيلاً يُضاد بعضها بعضاً، على أنّ كثيراً منها حافل بحياة سيدنا المسيح، وكأنّ إنساناً غيره قد كتب ترجمة حياته إلى أن صلب ودُفن وخرج من قبره بعد عدة أيام.
كل ذلك ممّا سبب تولد التشكيك في أصل الدعوة النصرانية، وأنّه من المحتمل أن تكون من الأساطير والروايات كأُسطورة قيس ومعشوقته ليلى العامريين.
ولأجل ألاّ تبتلى الأُمّة الإسلامية بما ابتليت به الأُمم السابقة ، يجب على أبنائها صيانة كل أثر يرجع إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)وأولاده الطيبين(عليهم السلام)وأصحابه الميامين وكل ما يمت بصلة إليهم حتّى يصبحوا عند الأُمم المتحضرة شامخي الرؤوس، وانّهم أتباع دين قيّم ونبي عظيم، فيقولون هذا مولده، وهذا مهبط وحيه، وهذه قبور أولاده وأصحابه، وهذه أماكن بطولاتهم وفتوحاتهم، إلى غير ذلك ممّا يدل على وجود هذه الدعوة وواقعيتها.
ومن العوامل التي تساعد على صيانة الآثار شد الرحال إلى زيارة قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)وقبور أولاده وأصحابه، الذين بذلوا مهجهم في إرساء أُسس الدين، فلو تركت الأُمّة الإسلامية زيارتهم ولم يتعاهدوا تلك الأماكن المشرفة المنتشرة في أرجاء البلدان الإسلامية لتعرضت إلى الاندراس والزوال، ولم يبق منها أثر شاهد.
البيوت التي أذن الله أن ترفع
لقد أمر الله سبحانه المسلمين برفع بعض البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبّح له فيها بالغدو والآصال.
قال تعالى{فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}(34).
فلنبحث عن هذه البيوت التي عنتها هذه الآية، فهناك قولان:
1 - المساجد.
2 - بيوت الأنبياء والأولياء.
أمّا الأوّل فغير صحيح جدّاً، لأنّ البيت غير المسجد، فالبيت عبارة عن المكان الّذي يسكن فيه الرجل وأهله ويأوي إليه من الحر والبرد، وهو مبيته، لذا يجب أن يكون له سقف فلا يطلق على المكشوف بيتاً، قال سبحانه {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}(35)
وتفسير ذلك هو أنّه لولا أنّ مشيئته تعلّقت بأن يكون الناس أُمّة واحدة لجعل سقوف بيوت الكافرين من فضة، وهذا يدل على أنّ السقف من لوازم البيت مع أنّ المساجد لا يشترط فيها السقف، وهذا هو المسجد الحرام مكشوف غير مسقف.
ولذا يتعيّن الثاني وهو الّذي يؤيده ما أُثر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). روى السيوطي في تفسير الآية قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريد قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)هذه الآية:{ فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ...}فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: "بيوت الأنبياء"، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها ـ بيت علي وفاطمة ـ؟ قال:"نعم، من أفاضلها"(36).
والمراد من الرفع إمّا الرفع المادي أو الرفع المعنوي، فعلى الأوّل يجب تعميرها عند طروء الحوادث المخربة. وعلى الثاني يجب تعظيمها وتنظيفها ممّا يشينها.
ثم إنّ هذه البيوت ربّما تكون بيتاً للنبي وآله فتزيد شرفاً وتكتسب فضلاً كما هوالحال في مرقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرقد الإمامين الهمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)فقد دفنا في بيتهما وكانا يسبحان له بالغدو والآصال.ومن المؤسف أن يبلغ الجهل بالإنسان درجة يرى فيها أنّ تخريب هذه البيوت عبادة يتقرب بها إلى الله، وفريضة يثاب عليها. ألاّ قاتل الله الجهل أوّلاً، والعصبية الطائفية ثانياً، فإنّ المخرّبين يعلمون بأنّ البيت الّذي قاموا بتخريبه هو مرقد العترة الطاهرة التي أمرالله سبحانه بمودتهم في قوله تعالى:{قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى }(37).
الهوامش:
26- صحيح مسلم: 3 / 63 ; سنن النسائي: 4 / 94 .
27- صحيح مسلم: 3 / 64، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها .
28- المستدرك للحاكم:1/ 377.
29- شفاء السقام في زيارة خير الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم(: 194، ناقلاً عن المصنف لابن أبي شيبة: 3 / 224، كتاب الجنائز، الحديث 8 .
30-لاحظ: شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 65 ـ 115 .
31- لاحظ: الغدير:5/109ـ 125.
32-صحيح مسلم: 4 / 126، باب شدّ الرحال .
33- صحيح مسلم: 4 / 127 ; صحيح البخاري: 2/76.
34- النور: 36 ـ 37 .
35- الزخرف: 33 .
36- الدر المنثور: 6 /203.
37-الشورى: 23 .