الباحث: علي عباس فاضل
لا تقتصر شخصية العظماء على أهل ملتهم بل تتعدى كل الحدود والمعتقدات، وهذا من الأمور الطبيعية التي فطرت عليها الشخصية الإنسانية إذ تسعى دائما إلى اكتشاف مواهب الآخرين، وكيف وصلوا إلى هذا، للاقتداء بهم واقتفاء أثرهم، والسير على منهاجهم أو مواصلة ابداعهم، ولا يخفى نور أهل البيت عليهم السلام على كل ذي بصيرة، فهم السراج الوهاج والقمر المنير، لذا كان لشخصياتهم أثر كبير عند كل إنسان على اختلاف دينه ومعتقده، فتجد سيرهم على لسان الناس يحكونها ويكتبون فيها؛ لأنهم (عليهم السلام) نعم المثل الأعلى الذي يقتدى به، وكيف لا! وهم المعصومون المنزهون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ومن أكثر الأئمة (عليهم السلام) تأثيرا في الناس بكل جنسياتهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد لهج الكل بذكره وذكر فضائله حتى أعدائه؛ لأنه (عليه السلام) أعظم من الشمس، والشمس لا يحجبها غربال؛ فكيف هو؟.
ويبرز تأثير أمير المؤمنين (عليه السلام) في العلماء والمفكرين من الديانة المسيحية على اختلاف طوائفهم، فنجد الكثير منهم كتب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في مجالات شتى. ومنهم المفكر الأردني روكس بن زائد العزيزي الذي يدين بالديانة المسيحية الكاثوليكية، فقد ألف كتاباً في أمير المؤمنين (عليه السلام) أسماه ( الإمام علي أسد الإسلام وقدِّيسه): وذكر في مقدمته ((أحببت الإمام عليّاً كرّم الله وجهه، من اليوم الذي قرأت فيه سيرته الخصبة، وحياته النبيلة، وقد كنت أحسّ بأنّ انقسام الناس فيه دليل على العظمة!
إقرأ أيضاً:
نهج البلاغة.. معان، يعلو بها العالم الرباني وتسمو بها الروح الرفيعة
بلاغة علي عليه السلام في خدمة الانسان (القسم الأول)
بلاغة علي عليه السلام في خدمة الانسان (القسم الثاني)
وكم كنت أودّ أن أُسجّل انطباعاتي عنه فأتهيّب، كالّذي يريد أن يخوض البحر، وهو يرى البحر للمرّة الأُولى في حياته!
أو كالّذي يحاول أن يحلّق في الجو وهو يجهل الطيران!
هذا هو الشعور الذي كان يخامرني كلّما مددت يدي إلى القلم!
كنت في الخامسة والعشرين من عمري يوم كتبت مقالاً عنوانه( قدّيس الإسلام).
قرأته على صديق لي، فقال: (هذا شعر! لكن ثق بأنّك لن ترضي النصاري، ولا تُعجب المسلمين! ستكون متّهماً على أي حال!...).
وطويت المقال وها أنذا بعد أكثر من خمس وثلاثين سنة أشعر بأنّ سحر هذه الشخصية يجذبني لأكتب، فإذا كتبت شيئاً يستحقّ القراءة، فإنّما أكتب بوحي من أسد الإسلام وقدّيسة))[1].
ويظهر من هذه المقدمة مدى الحب الذي في قلب هذا الشخص اتجاه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكيف يبين لنا أن هذا الكتاب لم يكن وليد الساعة بل هو عبارة عن تأملات لعمر طويل في شخصية الإمام (عليه السلام) حتى استوت الفكرة في المرحلة التي كان فيها شيخ كبير قد تمرس على الكتابة وبدا قلمه سيّالا لما في قلبه، فاستغل هذه الإمكانية التي حصل عليها في بلورة هذا الكتاب ليكون على أتم وجه، ليتناسب مع شخصية الإمام (عليه السلام).
ويقول العزيزي في نهج البلاغة (( يقيناً إنّ كل مثقف عربي، كل كاتب عربي، كل شاعر عربي، كل خطيب عربي مدين للإمام علي، فإذا كان كل مسلم في الدنيا مدين للقرآن الكريم في تكون عقليته وتفكيره فإنّ كل مثقف عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه))[2]. وهذا يشير إلى قراءته لنهج البلاغة بكل تأمل وتدبر حتى أن النهج ساعده في تقويم قلمه، ويبين أن على كل مثقف وكاتب وشاعر وخطيب أن ينهل من معين أمير المؤمنين (عليه السلام) ليرقى بنتاجه إلى اعلى المراتب.
ويختم كتابه بكلمات تنبع من روح عالية ونفس مولعة بحب أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يطرزها بعبارات جمالية تبهر القارئ، إذ يقول مخاطبا أمير المؤمنين (عليه السلام):
((أبا الحسن!
أيّها الإمام العظيم
هذه انطباعات كانت تجول في خاطري نحوك من زمن بعيد!
حاولت أن اصوّر فيها نفسك الكبيرة شجاعتك وعلمك سخاءك وجودك.
كتبت ما أشعر به أنّه حق، واعتمدت على المراجع التي وثقت بها، ولا أقول إنّي اطّلعت على ما كُتب عنك لأنّه شيء كثير وكثير!
فإن نالت منك القبول يا أيها الإمام العظيم فحسبي ذلك.
إنّها كلمة لم يعوزها الإخلاص، ويقينا أنّ الكلمة التي تخرج من القلب لن تجد مستقرّاً لها إلّا القلب.
سيقول بعض الذين ما تعوّدوا الصدق والإخلاص المجرّدين: إنّ العزيزي متحمّس للإمام كأنّه من الشيعة، الحقّ إنّي لست شيعيّاً ولست مسلماً بل أنا عربي نصراني كاثوليكي، ومن هنا تعلّمت أن أقول ما أعتقد حقّاً، كائنة ما كانت نتائجه وأنا فوق هذا أعتقد أنّ العظيم كل عظيم ليس ملكاً لفرقة ولا هو حكرة لدين أو مذهب، فأنا كما قال البحتري:
وأراني من بعدُ أُكلف بالأشراف طرّاً من كل سنخ وأس))[3]
وما يميز هذا الكاتب عن غيره طريقته في السرد، فهو يجمع بين المنهج العلمي الرصين، والطريقة الروائية في طرح المعلومات، التي جاءت بأسلوب منمق جميل وبسيط.
هذا بعض ما تركه أمير المؤمنين (عليه السلام) من أثر في نفوس الشخصية الإنسانية على وجه العموم، فهو كما يقول هذا المفكر أنّ العظيم كل عظيم ليس ملكاً لفرقة ولا هو حكرة لدين أو مذهب.
[1] الإمام علي أسد الإسلام وقدِّيسه: مقدمة المؤلف.
[2] المرجع نفسه: 225
[3] المرجع نفسه: خاتمة الكتاب.
المصدر: مؤسسة نهج البلاغة