لكن المفارقة أن النقاشات تعدّت السؤال الذي شغل بال الجميع، حول ظروف الاستقالة، لأن ما حصل قد حصل، ومعرفة الظروف لا تغيّر في الواقع شيئاً. المشكلة الاساسية تكمن في الخطوة التالية، لبنانياً وسعودياً وإيرانياً.
وتسلسل الحدث يفترض البدء بما يمكن أن يحصل سعودياً؛ فالخطوة السعودية ليست وليدة ساعتها. وبحسب معلومات مطلعين، فإن الحريري حين عاد في الزيارة الثانية الى الرياض كان عالماً بما يجري، لأن البحث في وضع لبنان الداخلي لم يبدأ في الساعات الاخيرة التي سبقت الاستقالة. النقاش السعودي حول مستقبل لبنان وتغيير المعادلة فيه بدأ مع زيارة رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع وغيره من الشخصيات اللبنانية. لكن أحداً لا يريد أن يكون رأس حربة في مشروع لا يتنكّبه الحريري بنفسه.
روزنامة المواعيد السعودية تحكي عن نفسها: جعجع، بعده الحريري ثم دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، فالحريري مجدداً. ومع جعجع الذي توجه الى أستراليا، علت نغمة الانتقادات للحكومة، وصولاً الى التلويح بالاستقالة. كان الحديث عن موعد الاستقالة يتأرجح، قبل رأس السنة أو بعده، وسط تأكيدات أن العمل سيجري مع أكثر من طرف لتطيير الحكومة حكماً قبل الانتخابات. ومع الحريري أخذ النقاش أبعاداً أخرى. لذا دفعت استقالة الحريري الى البحث عن أسباب توقيتها وليس عن أسباب حصولها.
الاستقالة بوجهها السعودي تحمل ثلاثة تقاطعات، إقليمية وداخلية وسعودية. فالتوقيت ليس عبثياً، هو يأتي في وقت تنحسر فيه جغرافية تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، إذ ثمة خشية سعودية من أن تبادر إيران الى ملء الفراغ وتنفلش في المنطقة، وأن تحكم السيطرة عليها بما يضاعف من تعزيز نفوذها.
لذا بدت الحاجة السعودية الى خطوة كبيرة، تتزامن مع انتهاء مهمة التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، وخطة الرئيس الاميركي دونالد ترامب لمواجهة إيران عبر مراجعة الاتفاق النووي أو فرض عقوبات اقتصادية على حزب الله. من هنا أصبحت الفرصة سانحة للقيام بخطوة مشتركة: استقالة الحريري، و«كسر الاحتكار» الإيراني في لبنان، وتجميع الاوراق اللبنانية الداخلية، وتسليط الضوء على «الحركة الاصلاحية» الكبرى في السعودية بتغطية إعلامية كبيرة ودعم دولي وأميركي في المقدمة، من خلال تظهير دور إقليمي متجدّد للسعودية في المنطقة.
تراهن السعودية كثيراً على نجاح خطوتيها المتزامنتين، لبنانياً وداخلياً، لأنها لا يمكن أن تسمح بفشل واحدة منهما، ولن تسمح قطعاً بألا تؤدي استقالة الحريري الى ما هو مطلوب منها، لأن هذا الفشل سيرتد على صلابة حملتها الداخلية التي أربكت الداخل السعودي وجعلته ينتظر تبعاتها. لكن الرياض ليست في وارد كشف أوراقها العملية. فما أرادت قوله لا يحتمل تأويلات أو تحليلات، لأنها قالته صراحة عبر استقالة الحريري، وعبر مواقف مسؤوليها العلنية من دون مواربة. وهذا يعني أنها لن تتراجع إقليمياً عن مواجهتها إيران، وخصوصاً بعد الصاروخ الذي استهدف مطار الملك خالد في الرياض، ولن تتراجع لبنانياً، لأن ذلك يفقدها أوراقها اللبنانية والسعودية الداخلية ويظهرها أمام الدول التي تراقب عن كثب حركتها المستجدة أنها غير قادرة على المواجهة.. الخطوة التالية تبقى إذاً في الملعب اللبناني.
لا شك في أن كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أفسح في المجال أمام امتصاص الاستقالة داخلياً ومنح المزيد من الوقت لدرس الخطوة التالية. وجاءت استشارات رئيس الجمهورية لتصبّ في الإطار نفسه، علماً بأن الطرفين مدعومان من الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط اللذين يدعوان الى التريّث أكثر. فما هي الخطوات الممكنة لبنانياً؟
من مصلحة العهد وحزب الله وحلفائهما إعطاء المزيد من الوقت، وليس الاستعجال في بتّ مصير الاستقالة. وضع الحكومة الحالية، وهو وضع «جديد» في لوائح الإشكالات اللبنانية الكثيرة مع الحكومات، ليس وضع حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيق والمعتاد، لأن لا قرار بعد باستشارات أو تكليف رئيس جديد للحكومة. حالياً، يمكن لهذه المراوحة الحكومية أن تغطي العجز السياسي عن اتخاذ قرارات نهائية حول مستقبل التسوية الداخلية ومن سيخرج منها، ومصير الاشتباك السعودي ــــ الايراني. حتى إن البعض من السياسيين يرون أن هذا الوضع يريح حزب الله أكثر، ما دام قرار الحرب الشاملة لم يعلن بعد، لأنه حينها لن يكون مجال لتأويلات أو لحكومات وطنية ولا غير ذلك من السنياريوات.
حتى الآن لا تزال مختلف القوى السياسية تعتقد أن من المبكر الكلام عن نوعيات الحكومات الجديدة، قبل توضيح صورة حكومة الحريري ومستقبلها، علماً بأن الكلام عن حكومة تكنوقراط يبدو عبثياً، أقله بالنسبة الى حزب الله، وهو الذي يحتاج إلى أن يكون داخل الحكومة في هذه المرحلة الدقيقة والخطرة، أكثر من أي وقت مضى، فيما يواجه حملة أميركية وسعودية عليه، وبصرف النظر عن الاعتبارات الإقليمية التي يمكن أن تحصل على الجبهة السعودية ــــ الإيرانية. وفي حين تبدو حكومة من لون واحد لقوى 8 آذار غير جذابة للعهد لا بل مرفوضة، فإن المشكلة تكمن في كيفية مقاربة المستقبل مجدداً والقوات اللبنانية والكتائب وحلفاء السعودية لحكومة جديدة تحت سقف التسوية المنتهية، ولمصلحة أي رئيس جديد للحكومة.
لكن هل يمكن للعهد أن يقبل بمثل هذه المراوحة التي تأكل من رصيده إذا استمر العجز الداخلي على حاله. لا خيارات كثيرة أمام رئيس الجمهورية سوى احتواء الموقف الداخلي كما حصل حتى الآن، وهو بدا بحسب مقرّبين منه حاسماً في تغليب الاستقرار على أي اعتبارات أخرى. لكن الوقت الذي يبدو اليوم لمصلحة العهد وحزب الله قد لا يبقى كذلك إذا استمر الضغط وتصاعد الموقف السعودي والاميركي تدريجاً، في اتجاه خطوات اقتصادية أكثر حدة لزعزعة الوضع الداخلي. إذ حينها يصبح الكلام عن خطوات عاجلة ضرورية، إن لم يكن لاستمرار عمل المؤسسات، فللرد على الانقلاب السعودي.
* هيام القصيفي/ الأخبار
31101