الإصلاح الديني وثورة الحسين (عليه السلام)

الإثنين 6 نوفمبر 2017 - 08:05 بتوقيت غرينتش
الإصلاح الديني وثورة الحسين (عليه السلام)

النهضة الحسينية - الكوثر

بقلم الدكتور الشيخ محمد شقير

إن من الأهمية بمكان أن نقرأ ثورة الإمام الحسين (ع) من زاويتها الإصلاحية الدينية وأن نقف على موقعية المعرفية الدينية في تلك الثورة؛ لكن قبل ذلك نجد من المناسب أن ندخل في مقدمة تطل على الجانب المنهجي في قراءة السيرة الحسينية والتاريخ الحسيني.

إن واقعة كربلاء كأية واقعة تاريخية تحتاج إلى قراءتها قراءة علمية صحيحة وإلى إعمال المناهج التاريخية المستخدمة في قراءة التاريخ وما يحمله من حوادث ووقائع.

ولا يخفى أن الوصول إلى الحقائق التاريخية لا يقتصر فقط على المادة التاريخية المتوفرة، بل يرتبط أيضاً وبشكل رئيسي بالمناهج الموظَّفة لقراءة تلك المادة والعمل فيها، ومن هنا كان من الضروري أن ينقسم البحث إلى قسمين، بحث يرتبط بالمادة، وآخر يرتبط بالمنهج، لأنه إن كان الهدف الوصول إلى الحقيقة التاريخية كما حصلت في التاريخ فينبغي عدم إغفال أي عنصر له دخالة في بيان تلك الحقيقة والكشف عنها.

ومن الأهمية بمكان أن نفرّق بين إعمال للمناهج التاريخية المستخدمة في الحقل التاريخي والتي تهدف إلى بيان الحادثة التاريخية بواقعيتها وشموليتها وبين القراءات المتعددة التي تهدف إلى النظرة الحيثية إلى الواقعة التاريخية، أي انها تريد أن تسلّط الضوء على جانب محدد ومحدود من تلك الواقعة، ولذا أمكن الحديث عن قراءة سياسية لواقعة كربلاء، أو قراءة اجتماعية أو قَبلية أو عرفانية أو كلامية أو إصلاحية .... إذ ان كل واحدة من هذه القراءات تريد أن تبحث ذلك الجانب محل اهتمامها ولا تريد أن تتعداه لغيره ولا تهدف الى بيان شمولي وكامل لتلك الواقعة، وبالتالي إذا أردنا أن نحاكم تلك القراءة فيجب محاكمتها على أساس المنطلقات والمبادئ التي اعتمدت عليها، فإن كانت منسجمة مع تلك المبادئ والآليات المعرفية التي تفرزها فمعناه أنها كانت وفيَّة لها ويمكن وسمها بالصحة والصدقية المعرفية وإلاَّ سوف تكون محرومة من هذه الشهادة.

ولا بد أن أقف بداية عند القراءة النقدية التي تقَّدم بين حين وآخر للتراث الحسيني؛ فمع إيماننا بأهمية النقد وضرورته لكن هذا النقد يجب أن تتوفر فيه شروطه الموضوعية ومبرراته المعرفية ليكون نقداً منهجياً ومنتجاً ولا يبقى نقداً قاصراً أو مقصِّراً ومحدوداً بهمّ محدود ولا يفي ببيان المعارف الحسينية بشكل دقيق ولا يحرص على اجترار جملة من الملاحظات التي تحتاج إلى كثير من الدراسة والتأمل.

وهنا جملة من الملاحظات التي لا بد من الوقوف عندها فيما يرتبط بمنهج النقد للتراث الحسيني:

1- إَّن أضعف البيانات النقدية هي تلك المادة النقدية التي ترتكز في مجملها على عبارات من قبيل قال فلان وقال علاّن إذ انه مع اهمية الاستفادة من آراء الآخرين وخصوصاً إذا كانوا من أشخاص علماء ومحققين لكن لا بد من مساحة معرفية يملؤها الباحث بمساهمته النقدية.

2- إن الانتقادات التي سجلها بعض العلماء والمحققين قد يكون لها ظروفها الموضوعية بمعنى أن انتقاداً ما ربما يكون صادقاً في بيئة ثقافية ما ولا يكون صادقاً في بيئة أخرى أو لا يكون صادقاً فيها بنفس المستوى أو لربما نجد حدَّة أو قسوة في اللهجة النقدية لأحد العلماء وتكون لها مبرراتها في زمان ما لحضور معين في ظروف محددة كأن يرى أن هذه الحدة ربما تستنفر بعض المحققين للبحث والتحقيق أو ان خصوصية مجلس ما أو منطقة معينة تقتضي ذلك ... ولا يكون هذا الشيء صحيحاً في ظروف أخرى أو في بيئة مختلفة ولو بنفس المستوى من اللهجة النقدية.

3- إن المقاربة الخجولة لبعض الإشكاليات التاريخية واجترار بعض المسائل المطروحة في السيرة الحسينية لن يقدم جديدا في هذا الموضوع، إنَّ الهمَّ المعرفي يقتضي أن يلج الباحث بشكلٍ وافٍ ومستوعب جميع ثنايا القضية المطروحة وأن يتطرق إلى جميع العناصر المعرفية الدخيلة في موضوع البحث وهو يتطلب أمرين: الأول تحديد للمنهج وهو بحث منهجي مهم ودقيق، والثاني تحصيد للمادة يتطلب قراءة شاملة وواسعة للعناصر التاريخية المرتبطة بالبحث.

4- من المهم الفصل بين الحقائق التاريخية الثابتة منهجياً وبين منطقة الفراغ التاريخي التي يجد الباحث ضرورة فعلية لملئها من خلال فعل التحليل وهو لا ضير فيه بل قد يكون مطلوباً مع الاشارة إلى مساهمته الشخصية كما تقتضيه الأمانة العلمية.

5- إن تحشيد الملاحظات على السيرة الحسينية مع إغفال البحوث القيِّمة والنتائج المعرفية التي توصَّل إليها الكثير من الباحثين والمحققين سواءٍ في تلك الملاحظات أو في غيرها من مفاصل السيرة الحسينية سوف يعكس صورة مشوّهة أو منقوصة لن تكون منسجمة مع الحقيقة العلمية الناجزة.

6- يجب أن نلتفت إلى قضية منهجية دقيقة وهي أن السيرة الحسينية التي تغذّي الخطاب الحسيني بمكوناته لا تؤسس لخطاب علمي بحت وجاف فالخطاب الحسيني يتجه للقلب كما للعقل، وللوجدان كما البرهان، وللعاطفة كما العاقلة، ولذا سيكون أمراً مبرراً أن يتدخل "الخيال العلمي" والعنصر الشعري والبيان الأدبي لإكمال اللوحة العاشورائية بجميع ألوان طيفها من الأحمر القاني إلى الشفّاف المسبّل برقّة الدمعة.

وعلى ما تقدم لا بد من القول إن ما نهدف إليه في هذه الكتابة هو أن ننظر إلى واقعة كربلاء من زاويتها الإصلاحية وبالتحديد من جانب الاطلاح الديني المعرفي، فنحن بصد بيان النتائج الإصلاحية فيما يرتبط بالمعرفية الدينية والتي أدت إليها واقعة كربلاء.

إن الإمام الحسين (ع) عندما رفع شعار ثورته "الإصلاح" في أمة جده رسول الله (ص) فلقد كان يقصد مختلف جوانب الإصلاح التي ترتبط بالمجتمع الاسلامي وأمة النبي (ص)، ذلك المجتمع الذي عانى من فساد السلطة الأموية في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والدينية.

ولذلك فإن حركة الإمام الحسين (ع) أرادت أن تزرع بذرة الإصلاح ولو من خلال فعل الشهادة، بل لربما تكون الشهادة الزرع الأفضل الذي يسقي تلك البذرة ويمنحها القدرة على البقاء والنمو في ظروف لم يكن من السهل مواجهة آثارها.

لقد كان المشهد السياسي والاجتماعي الذي سبق واقعة كربلاء مشهداً مؤلماً وينذر بمستوى أكبر من التردي والانحطاط وفقدان القدرة لدى الأمة على المبادرة إلى اي فعل إصلاحي يعالج بعضاً مما أحدثته السلطة الأموية والتي حوت في رواقها زمرة من وعَّاظ السلاطين وعلماء السوء.

إن الخطورة على المدى البعيد تكمن في هذه النقطة السالفة بالتحديد، إذ لربما يحدث انحراف أو فساد أو ظلم، لكن يبقى كل ذلك يفتقد لمبرره الديني والمعرفي والأخلاقي؛ أما أن يحصل كل ذلك ثم يغلَّف بلباس الدين والقدسية ويعمد بعض وعَّاظ السلاطين وعلماء البلاط إلى إضفاء المشروعية الدينية عليه فهو ما سوف يؤدي إلى أن يظهر الظلم بلباس العدل والفساد بلباس الصلاح والانحراف بلباس الاستقامة فتضيع المعايير وتطمس الحقائق فلا يهتدي غلى حق ولا يستدل إلى فضيلة؛ فلقد استخدم الأمويون آلة الدين للدنيا وحاولوا تبرير أفعالهم وتشريع جناياتهم فاشتروا من وجدوه من العلماء حاضراً أن يبيع دينه ويؤجّر عقله ويوظّف لسانه بما يعود عليه برضا السلطان وهباته وعطاياه، وعليهم بدوام سلطانهم وقوته.

لقد أصبح الدين في خطر وأضحت الشريعة تتلاعب بها أهواء الحكام ومصالحهم، فالسلطان يفعل ما يشاء وما يروق له ومن ثم تنهال عليه عبارات الثناء والرضا موَّحة بآيات من القرآن ومزيَّنه بأحاديث من رسول الله (ص) وبدل أن يهتدي الحاكم بالدين، "يضلّل" الدين بالحاكم وبدل أن يُقاد السلطان بزمام الدين يُقاد الدين بزمام السلطان وبدل أن يكون الدين موجهاً لفعل السلطة يصبح مبرِّراً لها ولأفعالها.

ومن هنا وجد الإمام الحسين (ع) أن الدين الذي جعله الله تعالى هداية للناس وأن الرسالة التي كانت رحمة للعالمين وأن الشريعة التي تعني القسط والعدل؛ كل ذلك سوف يصبح ضلالاً ونقمة وظلماً؛ أي لولا أن يبادر الحسين (ع) إلى ثورته كنا سنصل إلى دين يبرر الظلم وينبذ العدل وإلى إسلام يقبل الرذيلة ويرفض الفضيلة وإلى رسالة تهدف كل مكوناتها الثقافية والمعرفية إلى كسب رضا السلطان مهما جار أو ظلم ، والاعتراف بشرعيته مهما خالف شرع الله أو عمل بين الناس بهواه، وهو ما سوف يؤدي الى ابتعاد الناس عن هذا الدين وإلى نفورهم من الاسلام، أي سوف يؤدي القبول بدين السلطة إلى إضلال الناس بعد ان كان الهدف هدايتهم وإلى نفورهم من رسالة محمد بن عبد الله (ص) بعد أن كان الهدف إرشادهم إليها.

لقد كان الحسين (ع) مكمن الثقل وموطن القوة في مواجهة انحراف السلطة وسعيها لتحريف الدين، أما لماذا الحسين (ع)؟ فلأنه سبط الرسول وسليل البيت الطاهر وسيد شباب أهل الجنة ... لقد حُفرت جلالة الحسين ومكانته ومحبته في وجدان الأمة ووعيها، ولقد كان ذلك بوعي وتدبير من البيت النبوي الذي كان يخطط لكربلاء منذ عهد رسول الله (ص) وما كان يعدّه لواقعة كربلاء من بيانه لعظمة الحسين إلى تلك المحبة الجيَّاشة التي كان يبديها له إلى حديث القارورة التي أعطاها لأم سلمة وأخبرها أنها ستفيض دماً عند شهادة الحسين (ع).

لقد استقرت المعادلة: إن سلطة تُقدِم على قتل الحسين (ع) هي سلطة عارية من الدين وخارجة على شريعة محمد سيد المرسلين، إن من يقتل سبط الرسول وحبيبه ووارثه لا يمكن أن ينتسب ولو بشعرة معاوية إلى دين جده محمد (ص). لقد كشف دم الحسين (ع) زيف السلطة وأسقط عنها القناع الذي كانت تتستر به؛ صحيح أن جسد الحسين (ع) قد سقط لكنه أسقط معه ما كانت تدَّعيه السلطة من مشروعية دينية، لقد قضت شهادة الحسين على دين السلطة وأبطلت مفعول كل تلك الصناعة المعرفية التي عملت عليها عقول مشتراة وأقلام مأجورة.

إن الحقيقة التي أبدتها شهادة الحسين ومظلوميته حتى للجاهل والغافل هي أن سلطة الأمويين تنتهك حرمة الدين، وأن دين جده محمد (ص) يختلف عن دين السلطة، لقد رسم دم الحسين الحد الفاصل بين إسلام محمد بن عبد الله وإسلام السلطة، وبالتالي فقد دقَّت شهادة الحسين إسفين الزوال في نعش السلطة، مع ما يُضاف إلى ذلك ما أحدثته تلك الشهادة من صدمة للأمة حرَّكت فيها إرادتها اليائسة.

ولذا يمكن لنا القول إن ثورة الحسين قد حققت هدفها فيما يرتبط بإبطال المشروعية المعرفية الدينية لجميع النتاج المعرفي للسلطة الأموية ولم تعد السلطة سواءً بأدائها السياسي والدولي أو في إفرازاتها الثقافية مصدراً للمعرفية الدينية ولم تعد تمثل أي نوع من المرجعية المعرفية الدينية ولذا كانت شهادة الحسين (ع) عامل حفظ لدين جدّه من التلاشي والضياع.