الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (8)

الأحد 5 نوفمبر 2017 - 07:51 بتوقيت غرينتش
الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (8)

مقالات - الكوثر

بقلم آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

«تاسعاً» البصيرة القرآنية للوحدة المذهبية

إن التاريخ والواقع يشهد بجلاء لا لبس فيه بأن المسلمين لم يتمكنوا من تكوين وحدة الأمة الإسلامية إلا بعد الهجرة النبوية الشريفة. ولكنهم لم يستجيبوا لله في حفظ هذه الوحدة المباركة فيما بعد، ولم تبق إلا عقداً من الزمان، ثم ارتدوا وانقلبوا عليها في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقطعوا أمرهم بينهم إلى أحزاب ومذاهب ودويلات متناحرة من أجل الكرسي والعرش والزعامة؛ تعلف من بطن الجهل والهوى والشهوات؛ واستمر الانقلاب إلى يومنا هذا.

وسيبقى هذا الواقع المتشرذم والممزِّق لأوصال الأمة الإسلامية إلى حين ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف. يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}.

في ظل هذا الواقع الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً؛ والذي يُكرِّس تمزيق الأمة الإسلامية إلى أحزاب ومذاهب ودويلات؛ استجابة لشهوة وهوى أرباب وعُبَّاد الكراسي والعروش للزعامة والتسلط؛ هل نستسلم لهذا الواقع، ونرفع راية العجز، ونعضده بالمشاركة في مضاعفة تقطيعه عبر التنظير لشرعنة الحزبية العصبية والوطنية والقومية و...، واستحداث فلسفة جاهلية، وبناء هيكلية معوجَّة، وكَسْوِها بمنظومة ثقافية هزيلة؛ لأجسام حزبية أو عصبية أو وطنية أو قومية أو غيرها؟.

إن الجواب القرآني قاطعٌ وجلي بحرمة تقطيع الأمة الإسلامية إلى أوصال تنهشها الكلاب المستسعرة، ولا يجوز لأفراد الأمة الإسلامية أن يتخذوا ولياً يحكمهم من أرباب الظلم كاليهود وجميع حكام دول الجور والطغيان، ولا يجوز أن يتخذوا ولياً يتزعمهم من أرباب الضلال كالنصارى وجميع زعماء مذاهب الباطل وأحزاب الفساد.

والظالم لا سلطة له إلا على الظالم. والضال لا سلطة له إلا الضال؛ ومَنْ يقبل بحاكمية الظالم فهو ظالمٌ مثله، ومَنْ يقبل بزعامة الضال فهو ضالٌ مثله، ومَنْ يظلم نفسه بقبول سلطة الظالم أو سلطة الضال فلن يهديه الله طريق الرضوان الإلهي، وسيقبع في زوبعة الظلم، ودوامة الضلال؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

إن أرباب الجور والطغيان يتخذون من جماجم وعظام المجاهدين هيكلاً لعروشهم، ويعتمدون التخويف والترهيب منهجاً لحكمهم؛ ولذلك نرى - بوضوح وجلاء - الذين امتلأت أحشاء قلوبهم بمرض الخوف والجبن والهزيمة والذل والخنوع يهرولون لعبوديتهم، وإعلان فرض السمع والطاعة والولاء لهم.

وفي قبال هذا الخوف من الطغاة يُصرِّحون للناس وبتهور وصلافة وقلة حياء بأنهم عاجزون عن رفض الظلم ويخشون الطاغي، ويستغفلون القدرة والحاكمية الإلهية، وضعف الطغاة وهشاشة حكمهم؛ ولكن حين يتهاوى الطغاة سيندمون على سذاجة تفكيرهم، وما اعتقدوه من أوهامٍ بقوة الطاغي، ومن سرابٍ بجبروته.

وهنالك حين يتهاوى الطاغي يقوم المؤمنون بتذكير المنافقين بمواقفهم الانهزامية، والاصطفاف مع الظالمين ضد المؤمنين؛ مما يجعلهم في الحضيض، ولا يملكون عملاً رسالياً يؤهلهم لأن يكونوا من طلائع المجتمع الإيماني فضلاً عن قيادته؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ}.

إن تقطيع أوصال الأمة الإسلامية إلى أحزاب ومذاهب وقوميات ودويلات أسّست على شفا جرف هار لا يجيز لنا الخلود إلى الهزيمة والخنوع بالقنوط أو الإحباط أو اليأس من توفيق الله، واستجابة المؤمنين، وإمكانية تكوين وإقامة وحدة نوعية مستخلصة من الأمة الإسلامية؛ يشكلها المؤمنون الذين يتحلون بصفات أولياء الله التي حددها الله سبحانه وتعالى؛ ليكَوِّنوا وحدة مذهبية مؤسَّسة على الحق من التقوى والرضوان الإلهي لتجمع المؤمنين الصادقين الذين آمنوا بقلوبهم وجميع جوارحهم؛ وتميزهم عن غيرهم من المنهزمين الذين استسلموا لمنهج الطاغوت، وارتدُّوا عن قيم السماء لمَّا تعارضت ومصالحهم أو أسلافهم أو آبائهم أو حزبيتهم؛ فارتدوا عن دين الله الخالص وآمنوا بالأرباب من دون الله، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

والصفات التي يتحلى بها المؤمنون الذين يشكلون من خلالها وحدة مذهبية تجمع أهل مذهب الحق هي التالية:

1+2/ الإيمان والالتزام بقيم الرسالة ووحي السماء، والإتباع والانقياد لقيادة الرسالة وولاية السماء: من جانب؛ وفقه الوحي والحياة من جانب آخر، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} «إذا أحب الله عبداً فقهه في الدين».

3+4/ إقامة علاقاتهم وتشييدها على أساس القيم والمبادئ، وليست على أساس العواطف أو المصالح: فهم يتحلون بلين العريكة من العفو والتسامح و... مع أهل الإيمان من جانب، ويتحلون بالقوة من الحزم والصلابة و... مع المعاندين من جانب آخر، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

5+6/ جهاد النفس لترويضها وإصلاحها، وجهاد الأعداء لردعهم عن العدوان: وببركة الجهاد الدائم يرتقون إلى معالي الخصال؛ فيتحلون بالشجاعة في تبني الرؤية واختيار الموقف، ويتحلون بالإقدام للتبشير بالرؤية وبيان الموقف، ويتحلون بعدم الخوف من السلطات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو العلمية؛ اعتقادهم بالرؤية واتخاذهم الموقف؛ مما يمكنهم من الاستقلال الفكري والعملي وعدم التبعية لوساوس الشياطين، وهم في حركة ونشاط دؤوبين؛ قول الله سبحانه وتعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

إن هؤلاء هم المؤمنون الذين يشكلون الوحدة المذهبية لحزب الله ومذهب الحق على أساس حصر الإيمان بوحي السماء، وبإتباع قيادة الرسالة التي تجسدت في رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم امتدت لتتجسد في أمير المؤمنين عليه السلام، ثم في الأئمة من ولده عليهم السلام، ثم في الفقهاء الربانيين؛ وهذه الوحدة المذهبية هي الجوهر الصافي من شوائب الأرباب من دون الله، والنواة الحقيقية، والمصداق الخارجي لتشكيل وحدة الأمة الإسلامية، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.

يتبع......