الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (4)

الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 - 05:00 بتوقيت غرينتش
الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (4)

مقالات - الكوثر

بقلم آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

بعد أن تكلمنا عن معنى الوحدة ودواعيها وأهدافها في المقالة السابقة، سنبدأ الحديث عن العيار الشرعي للوحدة .

 «رابعاً»: المعيار الشرعي للوحدة :

ما هو الداعي الذي يُشَرِّع لنا -أو لا أقلاً- يدعونا إلى الوحدة الرحمية؟ أو الوحدة الإنسانية؟ أو الوحدة الوطنية؟ أو وحدة الأمة الإسلامية؟ أو ما هو الأمر الجامع الذي يعتقد به دعاة الوحدة ويؤمنون به؟ أو ما هو الأمر الجامع الذي يُكَوِّن رابطة بينهم، أو يجمعهم تحت مظلة هذه الوحدة؟

إن التشريع الإسلامي جعل معياراً واحداً ووحيداً لشرعية الوحدة فإذا تحقق كانت الوحدة تحت مظلته مشروعة ومباركة؛ وما سواه (1) لا شرعية له. والمعيار الشرعي الوحيد للوحدة المشروعة هو أن تكون الصبغة العامة للوحدة والإتحاد هي التقوى والرضوان الإلهي الذي يتجسد في الاعتصام بقيم الرسالة وقيادة السماء، وليس هوى الإنسان، أو شهوات الناس، أو تصورات البشر.

فلا شرعية لأي وحدة لم تقم على أساس التقوى، ولا يجوز للمؤمن أن يشارك فيها؛ ومثل تلك الوحدة سيكون مصيرها ونهايتها الانهيار في زوبعة الصراع ودوامة الأزمات، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

فكل وِحْدةٍ إن لم تؤسس على أساس التقوى والرضوان الإلهي ستؤدي إلى العداوة؛ وهذه النتيجة نقيض الهدف من الوحدة. يقول الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}.

ولذلك أمرت الشريعة بتشييد الوحدة على أساس حبل الله، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ولقد تجسد حبل الله في كتاب الله، وعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن السبيل الوحيد لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته هو إتباعه لإرشادات عقله، وتسليمه لوحي السماء؛ وذلك بالتزامه بما يعتقده من الرؤى الرسالية، والأفكار الإسلامية، والمعارف الإلهية، والمبادئ السماوية التي تُسْتَوحَى من وحي السماء وإرشاد العقل. وبهذه العقيدة يتمكن الإنسان من السيطرة على نفسه وما تفرزه من مزاج مضطرب وميول مِعْوَجَّة.

وبهذه العقيدة - بما تحوي من رؤى وأفكار ومعارف - تُروِّض النفس، وتُطهِّر الروح من أدران الهوى وشوائب الشهوات، وتُزيل الحجب والرين عن القلب، وتملأه بالنور الإلهي الذي يخترق كل الحجب؛ ليكشف عن الحقيقة وعن التجلي الإلهي لعباده.

وبهذه العقيدة يتمكن الإنسان من التحكم في مسار حياته ومسيرتها. وبهذه العقيدة يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا تكتسب قيمتها إلا من مكونات بدنها وقواها المادية ليس إلا.

والعقيدة بما هي منظومة متكاملة من الرؤى الرسالية، والأفكار الإسلامية، والمعارف الإلهية، والمبادئ السماوية هي أعز وأغلى الأشياء لدى الإنسان؛ ومن أجلها يضحي بكل شيء ومن دون استثناء شيء.

والعقيدة هي التي تحدد وتعيد تشكيل تفكير الإنسان، وأهدافه وتطلعاته، وكيفية علاقاته وسلوكياته، وكل ما يرتبط بحياته. ولذلك نرى ونشاهد التشاجر والتناحر والحروب التي تصل إلى الأوْج المدمر في بعض الأحيان حيث تصل إلى حرب إبادة واستئصال لمواطنين وُلِدُوا على أرض واحدة واشتركوا في جميع العناصر المادية ولكنهم اختلفوا في العقيدة والفكر والرؤى.

وفي المقابل نرى ونشاهد أناساً اختلفوا في الوطن واللون واللغة وغيرها من العناصر المادية؛ ولكنهم متحابون متجاذبون كأنهم روح واحدة في أجساد مختلفة؛ لأنهم اتفقوا في العقيدة الإيمانية، والعلاقات الروحية، والأفكار الإسلامية، والرؤى الرسالية.

 

فالوحدة في العقيدة الإيمانية التي تكونت على أساس وحدة الأفكار الإسلامية، والرؤى الرسالية، والمعارف الإلهية، والمبادئ السماوية هي القادرة دون غيرها على جمع أفراد الإنسان في أمة واحدة؛ تنتظم فيها جميع القيم الروحية، والمبادئ الإيمانية، والفضائل الإنسانية، والضرورات الحياتية.

 

ولأجل ذلك حكم الإسلام بوحدة الأمة الإسلامية، وأخوة المؤمنين بما هم مؤمنون يتحلون بفضيلة الإيمان والتقوى. ولا يرى للامتيازات المادية من وحدة الوطن أو الجنس أو اللغة أو اللون أو أي عنصر آخر قيمة أو فضيلة أو ضرورة للإنسان؛ لأنها لا تحوي قيمة روحية، ولا مبدأ إيمانياً، ولا فضيلة إنسانية، ولا ضرورة حياتية.

إن الأمة الإسلامية الواحدة لا تخضع للجغرافيا ولا للتاريخ ولا للمكان ولا للزمان ولا للون ولا للغة، ولا تخضع للظروف ولا الموضوعات؛ فوحدة الأمة الإسلامية تتجاوز كل هذه المعوقات، وهي حاكمة عليها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

ولقد أجاد الشاعر حين قال:

كلُ أرضٍ بها الإسلامُ لِيْ وطنٌ وكلُ أرضٍ يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ تلقاني

وحيثما ذكِرَ اسمُ اللهِ في بلدٍ عُدِّدَتْ أرجاءُه مـن لـبِّ أوطانـي

وكلمة الفصل هي؛ أن الوحدة المشروعة هي التي تُشَيَّد على أساس الفكر الإسلامي الأصيل الذي بين دفتي القرآن الكريم؛ تحكمها صبغة التقوى، ومرجعيتها وحي السماء، وهو حبل الله الذي تجسَّد في القرآن الحكيم، وإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، ودليلها العقل الذي تحرر من كل الأصر المادية، وثمرتها الأخُوَّة الإيمانية الصادقة.

وهذا لا يتنافى مع تشييد علاقات وثيقة على أساس النظارة في الخَلْق، والمماثلة الإنسانية؛ تحكمها المشاعر والأحاسيس والروح الإنسانية المشتركة، ومرجعيتها الفطرة الإنسانية التي لم تلوث بالروح السبعية العدوانية، ولا بالروح البهيمية الشهوانية، ودليلها العقل المنفتح، والعاطفة الرشيدة، وثمرتها التكافؤ، والنظارة الإنسانية، في التعاطي والسلوك والعلاقات الإنسانية. يقول الإمام (عليه السلام): ﴿وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً (2) ضارياً؛ تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق﴾ (3).

إن التشريع الإسلامي يُفرِّق ويَفصِل بين أمرين؛ بين العقيدة الإيمانية؛ وهي الأساس لتشييد وحدة الأمة الإسلامية؛ حيث يختارها أو يرفضها الإنسان بكامل إرادته واستقلاله؛ مع ما لها من تمايز واختلاف وتناقض عن بقية المعتقدات الفكرية الأخرى؛ وبين الطبيعة الإنسانية؛ وهي الأساس لبناء العلاقات الإنسانية؛ حيث جُبِل عليها الإنسان، ولا يمكنه الانفصال عن أصول وجذور طبيعته؛ لما لها من وجود متأصل ومتجذر ومشترك في طبيعة كل إنسان. فلا وحدة إلا تحت مظلة التقوى والاعتصام بحبل الله. يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

فلا يجوز اللين أو التراخي أو الميوعة أو التنازل أو الحلول الوسطية أو المتلونة أو المرقعة أو الأسفنجية في الأمور الفكرية. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.


أما في أمور العلاقات الإنسانية والسلوك فينبغي اللين، واختيار أحسن التعامل، وأفضل المعاشرة؛ من كظم الغيظ والعفو والصفح والإعراض عن الجاهلين والإحسان والتعاون على الخير والصلاح. يقول الله سبحانه وتعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.

يتبع .....


 (1) أي المعيار.

(2) سبعاً أي وحشاً.

(3) من عهد الأمير (عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر.