المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي _ عليه السلام _ وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه: «ياكيّس! ياكيّس!» ولذا لُقّبَ بالكيسان (1) إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين _ عليهما السلام _ على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال: الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (2) وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لاَهل البيت ـ عليهم السلام ـ فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام _ عليه السلام _ ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.
يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل _ عليه السلام _ خرج قبل الاَجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة، وكان في قرية تدعى «لقفا» فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما، ففعلا وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (3) عينه، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين _ عليه السلام _ فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (4) خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الاَمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الاَمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي:
مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الاَوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة و مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، نادى المختار: يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الاَوتار، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الاَوّل سنة 64هـ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (5) وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.
مغادرته مكة إلى الكوفة :
ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لاَنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة، يقول المسعودي: نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (6) ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده، وقد كان العراق تحت قدرته، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه، ولما قدم صعد المنبر وخطبهم وقال: أمّا بعد فإنّ أمير الموَمنين (ابن الزبير) بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلاّ برضا منكم، وأن أتّبع وصية عمر ابن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفان فاتقوا اللّه واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فواللّه لاَُوقعنَّ بالسقيم العاصي، ولاَُقيمنّ درع الاَصعر المرتاب (7) ولو كان كلامه مقياساً لشعوره ودهائه وسياسته، فهذه الخطابة التي ألقاها، دليل على عدم تعرفه على بيئته، والنفسيات الحاكمة على سكانها فإنّ ما ذكره إنّما كان يتجاوب مع أفكار قليل من أهل الكوفة الذين كانوا يتجاوبون مع بني أُمية ويحبّون خطهم، وأمّا الاَكثرية الساحقة، فكانوا على خلاف تلك الفكرة.
ولاَجل ذلك قام السائب بن مالك الاَشعري ولم يمهله لاِتمام كلامه وقال: «أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يحمل عنّا فضله، وأن لا يقسم إلاّ فينا، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا وكان يفعل بالناس خيرا».
فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبرّ، وعندئذ تنبه عبد اللّه بن مطيع أنّ كلامه لم يكن بليغاً مطابقاً لمقتضى الحال فعاد بتلطيف ما سبق وقال: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها ثم نزل (8) لمس المختار ما تتبناه الاَكثرية الساحقة من أهل الكوفة والعراق ولم يكن آنذاك في وسعه تحقيق العدل الاجتماعي الذي سار به علي _ عليه السلام _ في أيامه، ولكن كانت فيه مقدرة عظيمة على أخذ الثأر حتى يتمكن من الاَخذ بمجامع القلوب.
ميزة ثورة المختار :
وتتميز ثورة المختار عن ثورة التوابين بأنّ ثورة هوَلاء كانت متوجّهة على النظام الاَموي بالذات دون الذين ارتكبوا الجرائم بالمباشرة، وذلك لاعتقادهم بأنّ النظام هو الاَساس لقتل الحسين _ عليه السلام _ دون الاَشخاص العملاء، فلابد من السعي لقطع جذور السبب قبل مكافحة المسبب، فلاَجل ذلك تركوا الكوفة وفيها قتلة الحسين _ عليه السلام _ فتوجهوا إلى الشام وقد استشهد كثير منهم في معركة الحرب مع الشاميين وتراجع القليل منهم إلى الكوفة وعلى رأسهم رفاعة بن شداد الاَمير الاَخير لهم، وتفرقوا في عشائرهم.
أمّا المختار فقد كانت ثورته متوجهه بالذات إلى القتلة، وتطهير أرض العراق من جراثيم العيث والفساد من الاَمويين، وأمّا الذي حداه إلى اتّخاذ هذا الاَُسلوب في ثورته هو أنّ العراقيين قد استجابوا لابن الزبير وبايعوه وطردوا عامل الاَمويين من الكوفة باسم عمرو بن حريث، وذلك قبل خروج المختار، وكانت أُمنيتهم من تلك البيعة أمرين:
- تحقيق العدل الاِجتماعي والسير وراء الاِصلاح الذي قام به الاِمام علي عليه السلام.
- أخذ الثأر من قاتل الاِمام الحسين عليه السلام.
أمّا الاَمر الاَوّل فلم يتحقّق منه شيء واضح حتى يقنع العراقيين، وأمّا الثاني فكان على طرف النقيض من أُمنيتهم حيث كانت هياكل الاِثم كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وغيرهم مقربين إلى السلطة، فصار ذلك سبباً لتسرّب الضعف إلى سلطان ابن الزبير في القلوب فكانوا يتحيّنون الفرص للخروج عن بيعته وإقامة نظام جديد يحقّق العدل الاجتماعي الذي مارسوه في عهد الاِمام علي وأخذ الثأر من قتلة الاِمام.
نهض المختار والشيعة هم الاَغلبية الساحقة على الكوفة ـ غير راضين من سلطة ابن الزبير وعامله في الكوفة عبد اللّه بن مطيع واجتمعت الشيعة حول المختار واتفقوا على الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى.
إنّ ثورة المختار كانت ثورة وهاجة أنارت الطريق للثائرين الآتين بعده، غير أنّ حولها إبهامات وتأملات أهمها كونها مبعوثة أو مدعمة من جانب ابن الحنفية مع أنّ الاِمام القائم مقام الحسين ووليه وسلطان دمه هو علي بن الحسين زين العابدين _ عليهما السلام _ ولعلّ اتصاله بابن الحنفية لاَجل أنّه قام بالاَمر وقد مضت خمس سنين من شهادة الاِمام وكان محمد الحنفية شخصية معروفة من عصر الاِمام علي ويعد من علماء أهل البيت فاستجاز منه حتى يتخذه رصيداً لثورته ولا يعد ذلك دليلاً على أنّه كان معتقداً بإمامته على أنّه لم يظهر لابن الحنفية أية دعوة لنفسه، ولو رمي بالدعوة فإنّما هو من أساطير المخالفين لاَجل تشويه سمعته والتشكيك في قلوب الشيعة، مع أنّ المختار أرسل الرسل وروَوس القتلة إلى علي بن الحسين _ عليه السلام _ أثناء ثورته كما سيوافيك.
خرج المختار بعد مناوشات واشتباكات بينه وبين عبد اللّه بن مطيع، عامل ابن الزبير في الكوفة حتى غلب عليه المختار، فدخل المختار القصر وبات فيه وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال:
«الحمد للّه الذي وعد وليه النصر، وعدوّه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعداً مفعولاً، وقضاءً مقضياً وقد خاب من افترى، أيّها الناس إنّا رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية فقيل لنا في الراية إنّ إِرفعوها، وفي الغاية أن أجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي.
ـ وقال في نهاية كلامه: ـ فلا والذي جعل السماء سقفاً محفوظاً والاَرض فجاجاً سبلاً، ما بايعتم بعدَ بيعة علي بن أبي طالب وآل علي، أهدى منها».
ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلّين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا (9) وأقبل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودة الاَشراف ويحسن السيرة، وقيل له: إنّ عبد اللّه بن مطيع في دار أبي موسى، فسكت فلمّا أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال: تجهّز بهذه فقد علمت مكانك وأنّك لم يمنعك من الخروج إلاّ عدم النفقة وكان بينهما صداقة (10) نهض المختار بالكوفة لاَربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاَوّل سنة 66هـ وبقي إلى شهر رمضان من سنة 67هـ وكانت ولايته ما يقارب 18 شهراً فجدّ في الاَمر وبالغ في النصرة وتتبّع أُولئك الاَرجاس وقد أخذ الثأر من قتلة الحسين ـ عليه السلام ـ. ونذكر هنا شيئاً قليلاً من قتاله وكفاحه في ساحة الاَخذ بالثأر :
كان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فزحف إليه عبيد اللّه بن زياد بعد قتله سليمان بن صرد (الاَمير الاَوّل للتوابين)، فحاربه عبد الرحمن وكتب إلى المختار بخبره. فوجّه إليه يزيد بن أنس، ثم وجّه إبراهيم بن مالك بن الحارث الاَشتر، فلقي عبيد اللّه بن زياد فقتله، وقتل الحصين ابن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما بالنار وأقام والياً على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق والٍ، ووجّه برأس عبيد اللّه بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه، وقال له: قف بباب علي بن الحسين فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فادخل إليه، فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين _ عليهما السلام _ فلمّا فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة ومنزل الوحي أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد اللّه بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت، ودخل الرسول فأخرج الرأس فلمّا رآه علي علي بن الحسين قال: أبعده اللّه إلى النار.
وروى بعضهم أنّ علي بن الحسين _ عليهما السلام _ لم يُرَ ضاحكاً يوماً قط، منذ قتل أبوه، إلاّ في ذلك اليوم، وأنّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام، فلمّا أُتي برأس عبيد اللّه بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرقت في أهل المدينة، وامتشطت نساء آل رسول اللّه، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي _ عليهما السلام _.
وتتبّع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقاً عظيماً، حتى لم يبق منهم كثير أحدٍ، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف العذاب (11) وقد جاء الجزري بتفصيل قتل قادة الجيش الاَموي في كربلاء. قال:
وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته، وقيل أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدّة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.
وبعث المختار غلاماً له يدعى زربى في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه أحاطوا بالبيت الذي فيه شمر، وقام شمر وقد اتّزر ببرد وكان أبرص فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجّلوه عن لبس ثيابه وسلاحه، وكان أصحابه قد فارقوه فلمّـا أبعدوا عنه، سمعوا التكبير وقائلاً يقول:
قتل الخبيث، قتله ابن أبي الكنود وأُلقيت جثته للكلاب (12) ثم أُرسل إلى خولي بن يزيد الاَصبحي وهو صاحب رأس الحسين ـ عليه السلام ـ فاختفى في مخرجه فدخل أصحاب المختار يفتّشون عنه، فخرجت امرأته، واسمها العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين فقالت لهم: ماتريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قَوْصرّة فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.
وبعث المختار أبا عمرة إلى عمر بن سعد فأتاه وقال: أجب الاَمير فقام عمر، فعثر في جبة له، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار، فقال المختار لابنه «حفص بن عمر» وهو جالس عنده: أتعرف من هذا؟ قال: نعم ولا خير في العيش بعده فأمر به فقتل، وقال المختار : هذا بحسين، وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء، واللّه لو قتلتُ به ثلاثة أرباع قريش، ما وفوا أُنملة من أنامله، ثم بعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنّه قد قتل من قدر عليه وإنّه في طلب الباقين ممن حضر القتل (13) ثم إنّ المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي، وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم. كما بعث إلى قاتل علي بن الحسين وهو مرّة ابن منقذ فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضُـرب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلّت يده بعد ذلك.
وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدّعي قتل الحسين فرآه قد هرب إلى البصرة فهدم داره، كما أرسل إلى محمد بن الاَشعث ولم يجده وقد كان هرب إلى مصعب، فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، كان زياد قد هدمها (14) وفي الختام نذكر عمله القيم الذي أنجى به لفيفاً من أهل بيت النبي الاَكرم من الاِحراق بالنار.
إنّ عبد اللّه بن الزبير حبس محمد الحنفية وأصحابه بزمزم وتوعدهم بالقتل والاِحراق وإعطاء اللّه عهداً إن لم يُبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه، أنّ يبعث إلى المختار يعلمه حالهم فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة فقرأ المختار الكتاب على الناس، فبكى الناس وقالوا: سرّحنا إليه، وعجّل، فبعث إليهم ثمانمائة راكب من أهل القوة، حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يالثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الاَجل يومان، فكسروا الباب، ودخلوا على ابن الحنفية يستأذنون القتال وهو يقول: إنّي لا أستحلّ القتال في الحرم. فخافهم ابن الزبير وتركهم. وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه فأبى عليهم فاجتمع في الشعب أربعة آلاف رجل فقسّم بينهم المال وعزوا وامتنعوا (15).
ونقل الجزري أنّ ابن عباس كان أيضاً محبوساً مع محمد الحنفية فأزال جيش المختار الضرر عن كليهما، ولما قتل المختار قوى عليهما ابن الزبير فخرجا إلى الطائف ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به وصلّـى عليه ابن الحنفية(16).
قتل المختار بجيش مصعب بن الزبير :
كان المختار يسيطر على قسم كبير من أراضي العراق من الكوفة إلى الموصل وغيرهما وكان أمامه عدوين غاشمين: أحدهما عبد اللّه بن الزبير حيث كان يحكم على العراق كله غير أنّه أخرج المختار عامله من الكوفة وبقيت البصرة بيد عامله مصعب بن الزبير، ثانيهما عبد الملك بن مروان الخليفة الاَموي الذي كانت بيده مفاتيح الاَقطار الاِسلامية غير العراق والحجاز.
وكان مصعب يتحيّن الفرصة للهجوم على الكوفة وعزل المختار وكان عبد اللّه يشجّعه على ذلك ناسياً عمله المشرق عند ما ضرب جيش الشام الحصار على ابن الزبير، فقد حارب المختار ذلك الجيش المكثَّف أياماً عديدة، ولكن الملك عقيم. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنّ المختار تتبّع قتلة الحسين _ عليه السلام _ بيتاً بيتاً وجدّ في الاَمر، وقتل أُولئك الاَرجاس، ولاَجل فتكه وقتله، هرب قسم من أشراف الكوفة الذين كان لهم يد في قتل الحسين _ عليه السلام _ منهم شبث بن ربعي، حيث ورد البصرة على هيئة خاصة يحرض والي البصرة على قتال المختار وهو في عمله هذا اتّبع ضمضم بن عمرو الغفاري عند ما أرسله أبو سفيان ليخبر قريشاً بالخطر الذي يحدق بتجارتهم، فاستأجر ذلك الرجل وأمره بأن يجدع بعيره، ويقطع رحله ويشقّ قميصه من قبله ودبره، ويصيح: الغوث الغوث.
قام شبث بن ربعي بنفس ذلك العمل (والجنس إلى الجنس يميل) جاء راكباً بغلة قد قطع ذنبها وقطع أطراف أُذنها في قباء مشقوق وهو ينادي: وا غوثاه، فقال الاَشراف الهاربون إلى البصرة لمصعب: سر بنا إلى محاربة هذا الرجل الذي هدم دورنا وأخذوا يحرضونه على ذلك.
فجاء مصعب بجيش كثيف وقد وقعت بينهما حروب طاحنة في أقطار متعددة إلى أن انحسر المختار إلى الكوفة، وتخبّأ بالقصر.
فحاصره ابن الزبير بقصر الاِمارة مع أربعمائة رجل من أصحابه أياماً، وقد كان المختار يخرج من القصر فيقاتل ويرجع إلى أن قتل لاَربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، خرج بمن معه مستميتين فقتلوا وقتل المختار وجاء القاتل برأسه إلى مصعب بن الزبير فأجازه بثلاثين ألف درهم، ثم ابتدأ الجيش بقتل الناهضين معه وقتلوا رجالاً كثيراً، ثم بعث مصعب على حرم المختار ودعاهنّ إلى البراءة فرجعت ابنة سمرة بن جندب ولعنته وتبرّأت منه فأطلق سراحها وأبت زوجته الأخرى ابنة النعمان بن بشير وقالت: شهادة أُرزقها ثم أتركها، كلا إنّها موتة ثم الجنّة والقدوم على الرسول وأهل بيته، فأمر بها مصعب وقتلت صبراً.
____________________________________
(1) الكشي: الرجال: 116.
(2) المصدر نفسه.
(3) شتر: قلب جفنه.
(4) اليعقوبي: التاريخ: 2|258، ط دار صادر ـ بيروت، الطبري: التاريخ: 4|441 ـ 442.
(5) الطبري: التاريخ: 4|445 ـ 446.
(6) المسعودي: مروج الذهب: 3|73 ـ 74.
(7) الجزري: الكامل في التاريخ: 4|211 ـ 213.
(8) الجزري: 4|213.
(9) ابن الاَثير: الكامل: 4|211 ـ 226بتلخيص.
(10) الجزري: الكامل: 4|225 ـ 226.
(11) اليعقوبي: التاريخ: 2|259.
(12) الجزري: الكامل: 4|236 ـ 237 باختصار .
(13) الجزري: الكامل: 4|241 ـ 242.
(14) الجزري: الكامل: 4|242 ـ 244.
(15) الجزري: الكامل: 4|250 ـ 254.
(16) الجزري: الكامل: 4|250 ـ 254.