يزيد بن مغفل الجعفي..من سار على نهج آل الرسول(ع)

الثلاثاء 26 سبتمبر 2017 - 16:14 بتوقيت غرينتش
يزيد بن مغفل الجعفي..من سار على نهج آل الرسول(ع)

أنصار الحسين-الكوثر

هويّة هذا الشهيد
هو يزيد بن مُغْفِل بن جُعْف بن سعد العشيرة المَذْحِجيّ الجُعفيّ (1)، كان قد أدرك النبيَّ صلّى الله عليه وآله (2)، وشهد معركة القادسيّة، وهو أحد الشجعان من الشيعة والشعراء المُجيدين.
وكان يزيد بن مُغْفِل من أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، وقد حارب إلى جانبه في واقعة صِفّين، كما بعثه الإمام عليٌّ عليه السّلام في حرب الخِرّيت من الخوارج، فكان على ميمنة معقل بن قيس عندم قتل الخرّيت ـ كما ذكر الطبريّ (3).

المواصلة
ويستمرّ يزيد بن مغفل الجُعفيّ على نهج آل الرسول صلّى الله عليه وعليهم، فيكون مع الإمام الحسين عليه السّلام في مجيئه مكّة، حتّى إذا بلغ المسير إلى قصر بني مُقاتل (4) رأى الإمامُ الحسين عليه السّلام فِسطاطاً مضروباً ورمحاً مركوزاً وفرساً واقفاً، فسأل عنه فقيل له: هو لعُبيد الله بن الحرّ الجُعفيّ، فبعث إليه: الحجّاجَ بن مسروق الجعفيّ، ويزيدَ بن مُغفِل الجعفيّ.. فأتَياه وقالا له: إنّ أبا عبدالله يدعوك. فسأل عمّا وراء ذلك، فقال له الحجّاج: هدية إليك وكرامة إن قَبِلْتَها، هذا الحسين يدعوك إلى نصرته، فإنْ قاتلتَ بين يديه أُجِرت، وإنْ قُتِلتَ استُشهِدت. فقال عبيدالله بن الحر: إنّما دعاني إلى الخروج من الكوفة حين بلغني أنّه يريدها ( أي يقصدها ).. وأنا رجلٌ أحمى أنْفاً مِن أن أُمكّن عدوّي فيقتلني ضَيعةً، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعةٌ يقاتل بهم!
فأبلغ الحجّاجُ بن مسروق ويزيدُ بن مُغْفِل الإمامَ الحسين عليه السّلام قولَ عبيدالله.. قال أبو مخنف:
فأرسل إليه، فلمّا حضر عبيدُالله بن الحرّ بين يديه قال له الحسين عليه السّلام:
ـ يا هذا! هل لك من توبة تمحّص عنك الذنوب ؟!
قال: وما هي يا ابنَ رسول الله ؟
قال: تنصرنا أهلَ البيت.
قال عبيدالله: ما خرجتُ من الكوفة إلاّ مَخافةَ أن أُقاتلَك بين يَدَيِ ابن زياد، ولكنْ خُذْ فرسي هذه؛ فإنّي ما طلبتُ عليها إلاّ لَحِقتُ، وما هربتُ إلاّ نَجَوتُ، وسيفي هذا القاطع ورمحي، واعفُ عنّي!
فقال له الإمام الحسين عليه السّلام: إذا بَخِلتَ علينا بنفسك، فلا حاجةَ لنا بما لك. ثمّ تلا قولَه تعالى: وما كنتُ مُتَّخِذَ المُضِلّينَ عَضُداً  (5)، ولقد سمعتُ جَدّي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقول: مَن سَمِع واعيتَنا أهل البيت ( أي ولم ينصرهم ) أكبّه اللهُ على مِنخَرَيه في النار يومَ القيامة.
ثمّ خرج الإمام الحسين عليه السّلام مِن عنده، ومعه صاحباه: الحجّاج الجعفيّ، ويزيد بن مُغْفِل الجعفيّ (6).

نداء الحقّ
في يوم عاشوراء محرّم الحرام سنة 61 هجريّة، وعلى أرض كربلاء.. دعا الإمامُ الحسين عليه السّلام براحلته فركبها، ثمّ نادى بصوتٍ عالٍ يسمعه جُلُّهم:
أيُّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظَكم بما هو حقٌّ لكم عَلَيّ، وحتّى أعتذرَ إليكم ( أي أبيّن العذرَ والسبب ) مِن مَقْدمي عليكم، فإن قَبلتُم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النَّصَف من أنفسكم ( أي الإنصاف )، كنتُم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علَيّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تُعطُوا النَّصَف من أنفسكم، فأجمِعُوا أمرَكم عليكم غُمّةً ثمّ اقضُوا إليّ ولا تُنظرون، إنّ وليِّيَ اللهُ الذي نزّل الكتابَ وهو يتولّى الصالحين..
عبادَ الله، اتّقوا الله، وكونوا من الدنيا على حَذَر؛ فإنّ الدنيا لو بَقِيَتْ على أحد، أو بقيَ عليها أحد، لكانت الأنبياءُ أحقَّ بالبقاء، وأولى بالرضى وأرضى بالقضاء..
أيّها الناس، إنّ الله تعالى خلَقَ الدنيا فجعَلَها دارَ فَناءٍ وزوال، مُتصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غَرَّتْه، والشقيُّ مَن فَتنتْه، فلا تغرّنكم هذه الدنيا؛ فإنّها تقطع رجاءَ مَن ركن إليها، وتُخيّب طمعَ مَن طَمِع فيها.
وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتمُ اللهَ فيه عليكم، وأعرَضَ بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمتَه، فنِعمَ الربُّ ربُّنا وبئس العبيدُ أنتم؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلّى الله عليه وآله، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلَهم! لقد استحوَذَ عليكم الشيطانُ فأنساكم ذِكرَ اللهِ العظيمِ، فتَبّاً لكم ولِما تريدون! إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، هؤلاءِ قومٌ كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين (7).
أيّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يَحِلُّ لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي ؟! ألستُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيّه.. أوَ لم يَبلُغْكم قولُ رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟!...
وَيْحكُم! أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالٍ لكم استهلكتُه، أو بقِصاص جراحة ؟!
فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى عليه السّلام: يا شَبَثَ بنَ رِبْعيّ، ويا حَجّار بن أبْجَر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إلَيّ أن: أقدِمْ؛ قد أينَعَت الثمار واخضَرَّ الجَناب، وإنّما تَقْدِم على جُندٍ لك مُجنَّدة ؟!
فقالوا: لم نَفعَلْ!
قال: سبحانَ الله! بلى واللهِ لقد فعلتم..
فقال له قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حُكم بني عمّك ؟ فإنّهم لن يُروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه.
فأجابه الإمام الحسين عليه السّلام: أنت أخو أخيك.. لا واللهِ لا أُعطيهم بيدي إعطاءَ الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد..
ثمّ أناخ عليه السّلام راحلته.. وأقبلوا يزحفون نحوه لقتله (8).

لم أنْسَه إذْ قـام فيـهم خـاطبـاً            فـإذا هـمُ لا يمـلكونَ خِطابـا

يدعو: ألستُ أنـا ابنَ بنتِ نبيّكم        ومَلاذَكم إنْ صرفُ دهـرٍ نابا ؟!

هل جئتُ فـي دِينِ النبـيِّ ببِدعةٍ        أم كنتُ في أحكـامِه مُرتـابا ؟!

أوَ لم يُوَصِّ بنا النبيُّ وأودعَ ال        ثــثقلَينِ فيكم: عِتـرةً وكتـابا ؟!

إنْ لـم تَدينوا بالمَعـادٍِ فراجعوا         أحسـابَكم إن كنتُـمُ أعـرابـا!

فَغَدَوا حَيـارى لا يَرَون لوعظِهِ       إلاّ الأسنّةَ والسِّـهامَ جَوابـا! (9)

وهكذا ألقى الإمام الحسين عليه السّلام على الجميع حُجّتَه البالغة، فأسقطت كلَّ عُذرٍ واعتذار،  لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيّنةٍ ويَحْيَ مَن حَيَّ عَن بَيّنة  (10)، وكانت كلماته صلوات الله عليه تدبّ في نفوس أعدائه حيرةً بعد كشف الحقائق الساطعة، بينما أخذن طريقَها إلى قلوب أصحابه عليه السّلام روحيّةً عالية ومعنويةً رفيعة، جَعلَتْهم ـ وفيهم يزيد بن مُغفِل ـ يزدادون إيماناً وثقةً بصحّة موقفهم، وحُسْن إقبالهم على الجهاد والتضحية والفداء.. حتى الشهادة.

الاستئذان.. ثمّ الرحيل
لقلّةِ مَن بقي من أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام.. أخذ الرجلُ بعد الرجل يتقاطرون عليه، يقول كلٌّ منهم: السلام عليك يا ابن رسول الله ـ يطلبون الإذنَ لهم بالبراز والمبارزة، والجهاد والفداء حتّى الشهادة، فيقول عليه السّلام لكلٍّ منهم: وعليك السلام، ونحن خَلْفَك.. فإذا استُشهِد أيٌّ منهم وقف عليه السّلام على رأسه وقرأ قوله تعالى: « فمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَه ومِنْهم مَن يَنتَظِرُ  (11) .
وقد تقدّم ـ فيمَن تقدّم ـ يزيدُ بين مُغْفِل الجعفيّ، فاستأذنَ الإمامَ الحسين عليه السّلام فأذِن له، فدخل ساحةَ معركة الطفّ وهو يقول:

أنـا يـزيـدٌ وأنـا آبـنُ مُغْفِلِ             وفـي يميني نَصْلُ سيفٍ مُصقَلِ

أعلو به الهامـاتِ وسْطَ القَسْطَلِ       عنِ الحسينِ الماجدِ المُفَضَّلِ (12)

وأخذ يزيد بن مُغْفِل يصول ويجول، ويقاتل أعداءَ الله قتالاً لم يُرَ مِثْلُه، حتّى قَتلَ جماعة، ثمّ قُتِل رضوان الله عليه (13).

                    فسلامٌ عليه شهيداً بارّاً بين يدَي سيّد الشهداء،
                   وسلامٌ عليه مرفوعاً شأنُه في الأرض والسماء،
                   وسلام عليه محشوراً مع أصحاب الحسين الأوفياء.