تعريف بهذا الشهيد
هو: نافع بن هلال بن نافع (1)، بن جَمَل بن سعد العشيرة بن مِذْحِج، المذحجيّ الجَمَليّ (2). رجلٌ كوفيّ ذو شخصيّة مرموقة، وكان سيّداً شريفاً سَرِيّاً (3)، شجاعاً، وكان قارئاً للقرآن وكاتباً، ومن حَمَلة الحديث (4).
الاتّباع
كان نافع بن هلال من أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، حَضَر معه حروبَه الثلاث في العراق، وخرج إلى الإمام الحسين عليه السّلام فلَقِيَه في الطريق، وكان ذلك قبل شهادة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه في الكوفة. وكان نافع قد أوصى أن يُتْبَع بفرسه المسمّى بـ « الكامل » فأُتبع مع عمرو بن خالد الصَّيداويّ وأصحابه.
• كتب ابن شهرآشوب المازندرانيّ السَّرَويّ: لمّا ضيّقَ الحرُّ على الحسين عليه السّلام، خطب عليه السّلام أصحابه فقال:
أمّا بعد، فقد نزَلَ مِن الأمر ما قد تَرَون، وأنّ الدنيا قد تَغَيّرت وتَنَكّرت وأدبَر معروفُها، ولم يَبقَ منها إلاّ صُبابةٌ كصُبابةِ الإناء (5)، وخَسيسُ عيشٍ كالمرَعى الوَبيل! ألاَ تَرَونَ إلى الحقِّ لا يُعمَلُ به وإلى الباطلِ لا يُتَناهى عنه ؟! لِيَرغَبِ المؤمنُ في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظالمين إلاّ بَرَماً (6).
... فقام نافع بن هلال الجَمليّ فقال: أنت تعلم أنّ جَدَّك رسولَ الله لم يَقْدِر أن يُشرِبَ الناس مَحبّتَه، ولا أن يَرجِعوا إلى أمره ما أحَبّ، وقد كان منهم منافقون يَعِدونه بالنصر، ويُضمِرون له الغَدْر، يَلْقَونه بأحلى من العسل، ويُخلِفونه بأمَرَّ مِن الحَنظَل.. حتّى قَبَضَه الله إليه. وإنّ أباك عليّاً كان في مِثْل ذلك، فقَومٌ قد أجمعوا على نصره وقاتَلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين.. حتّى أتاه أجَلُه فمضى إلى رحمة الله.
وأنت اليومَ عندنا في مِثْل تلك الحالة، فمَن نَكَث عهدَه وخلَعَ بيعتَه، فلن يَضُرّ إلاّ نَفْسَه، واللهُ مُغْنٍ عنه.. فسِرْ بنا راشداً مُعافىً، مُشَرِّقاً إنْ شئتَ أو مُغَرِّباً، فَوَاللهِ ما أشفَقْنا مِن قَدَرِ الله ولا كَرِهْنا لقاءَ ربّنا، وإنّا على نيّاتِنا وبَصائرنا، نُوالي مَن والاك، ونُعادي مَن عاداك (7).
ضمائر حرّة.. ومواقف بارّة
يومَ التاسع من محرّم سنة 61 هجرية، وقرب المساء.. جمَعَ الإمامُ الحسينُ عليه السّلام أصحابَه وأهلَ بيته في كربلاء، فقام فيه خطيباً وقال: أُثني على اللهِ أحسَنَ الثناء، وأحمَدُه على السرّاءِ والضرّاء. اللهمّ إنّي أحمَدُك على أن أكرَمتَنا بالنبوّة، وعلّمتَنا القرآن، وفَقّهتَنا في الدِّين، وجَعَلتَ لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ولم تَجَعَلْنا من المشركين.
أمّا بعد، فإنّي لا أعلَمُ أصحاباً أوفى (8) ولا خيراً مِن أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبَرَّ ولا أوصَلَ من أهل بيتي، فجزَاكمُ اللهُ عنّي جميعاً (9).
وقد أخبرني جَدّي رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بأنيّ سأُساق إلى العراق، فأنزِلُ أرضاً يُقال لها « عَمُورا » و « كربلاء »، وفيها أُستَشهَد.. وقد قَرُب الموعد.
ألاَ وإنّي أظنُّ يومَنا مِن هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذِنتُ لكم فانطِلقُوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، وهذا الليلُ قد غَشِيَكم فاتَّخِذوه جَمَلاً..
فأبى أهلُ بيته بشدّة، بدأ ذلك فيهم أبو الفضل العبّاس عليه السّلام، ثمّ أبى أصحابه أيضاً عازمين جميعُهم على الشهادة (10).
وتَنـادَبَت للذَّبِ عنـه عُصبـةٌ وَرِثوا المعـالي أشيبـاً وشَبابـا
مَـن يَنتَدِبْهُم للكـريِـهةِ يَنتَدِبْ منهم ضَراغِمةَ الأُسـودِ غِضابا
خَفُّوا لداعي الحربِ حين دَعاهُمُ ورَسَوا بعرصةِ كربـلاءَ هِضابا
أُسْدٌ قـدِ اتَّخَذوا الصَّـوارمَ حِلْيةً وتَسَـربَلوا حَلَقَ الـدُّروعِ ثيـابا
وَجَدوا الردى مِن دُونِ آل محمّدٍ عَذْباً.. وبَعدَهمُ الحياةَ عَذابا (11)
ولمّا عَرَف الإمامُ الحسين عليه السّلام من أصحابه (ومنهم: نافعُ بن هلال الجَمليّ ) صِدْقَ النيّة والإخلاصَ في المُفاداة دونه، أوقَفَهم على غامضِ القضاء فقال يخاطبهم:
إنّي غداً أُقتَل، وكُلُّكم تُقتَلون معي ولا يَبقى منكم أحد...
فقالوا بأجمعهم (وفيهم نافع ): الحمد لله الذي أكرَمَنا بنصره، وشرَّفَنا بالقتل معك. أوَ لا نَرضى أن نكونَ معك في درجتك يا ابنَ رسول الله ؟!
فدعا الحسينُ عليه السّلام لهم بالخير، وكشَفَ عن أبصارهم فرأَوا ما حَباهمُ اللهُ مِن نعيم الجِنان، وعَرَّفَهم مَنازِلَهُم فيها (12).
وتَحِلُّ ليلة عاشوراء.. وقد حُفَّت بالمحن والمصائب، وآذَنَت بالنكبات والفجائع، وقد نَشِط الأصحابُ للعبادة ( وفيهم: نافعُ بنُ هلال ) وتأهّبوا للقتال، وانتظروا في تلك الليلةِ الشهادةَ بفارغِ صبرٍ، فكان لهم دَوِيٌّ كدَوِيّ النَّحل في تهجّدهم وهم ما بين قائمٍ وقاعد، وراكعٍ وساجد. وكان أمَرَ الإمامُ الحسين سلام الله عليه أصحابَهُ أن يُقارِبوا الخيامَ بعضَها من بعض؛ ليستقبلوا الأعداءَ مِن وجهٍ واحد، كما أمَرَ بحفرِ خندقٍ وراء خيام أهل بيته ثمّ بوضعٍ الحطب فيه وإلقاء النار عليه إذا داهمهم العدوّ؛ كي لا تقتحمهم الخيل من ظهورهم (13).
وفي جوفِ ليلةِ عاشوراءَ تلك.. خرج الإمامُ الحسين عليه السّلام بعيداً عن الخيام؛ يتفقّد التِّلاعَ والعَقَبات.. فتبِعَه نافعُ بنُ هلال، فسأله أبو عبدالله الحسين عليه السّلام عمّا أخرجه، فأجاب نافع:
يا ابن رسول الله، أفزَعَني خروجُك إلى جهةِ معسكر هذا الطاغي.
فقال الحسين عليه السّلام: إنّي خَرَجتُ أتفَقّد التِّلاعَ والرَّوابي؛ مَخافةَ أن تكون مَكْمَناً لهجومِ الخيل يومَ تَحمِلون ويَحمِلون.
ثمّ رَجَع عليه السّلام وهو قابِضٌ على يدِ نافعٍ ويقول: هِيَ هِيَ واللهِ، وَعْدٌ لا خُلْفَ فيه! ثمّ قال عليه السّلام لنافع:
ـ ألاَ تَسلُكُ بين هذينِ الجبلَينِ في جوفِ الليل وتنجو بنفسك ؟!
فوقع نافعٌ على قَدَمَي الإمام يُقبّلهما ويقول:
ـ ثكلَتْني أُمّي! إنّ سيفي بألف، وفَرَسي بألف، فَوَاللهِ الذي مَنّ بك علَيّ، لا فارَقْتُك حتّى يَكِلاّ عن فَرْيٍ وجَرْي.
ثمّ دخَلَ الإمامُ الحسين عليه السّلام خيمة أُختِه العقيلة زينب سلام الله عليها، بينما وَقَف نافعٌ بإزاء الخيمة ينتظره.. فسَمِعَ زينبَ تقول لأخيها: هل استَعْلَمْتَ مِن أصحابِك نِيّاتِهم ؟ فإنّي أخشى أن يُسْلِموك عند الوَثْبَة!
فأجابها عليه وعليها السّلام: واللهِ لقد بَلَوتُهم.. فما وَجَدتُ فيهم إلاّ الأشْوَسَ الأقْعَس (14)، يستأنسون بالمنيّة استيناسَ الطفل إلى مَحالِبِ أُمِّه.
قال نافع: فلمّا سَمِعتُ هذا منه بَكيتُ، وأتَيتُ حبيبَ بن مظاهر وحَكَيتُ ما سمعتُه منه ومن أُخته زينب. فقال حبيب:
ـ واللهِ لولا انتظارُ أمرِه ( أي أمر الحسين سلام الله عليه ) لَعاجَلْتُهم بسيفي هذه الليلة!
قلت: إنّي خَلّفْتُه عند أُخته، وأظنّ النساءَ أفَقْنَ وشارَكْنَها في الحَسرة.. فهل لك أن تجمع أصحابك وتُواجِهوهُنّ بكلامٍ يُطيّب قلُوبَهُنَّ ؟
فقام حبيب ونادى: يا أصحابَ الحَميّةِ ولُيوثَ الكريهة!
فتطالَعوا مِن مَضارِبهم كالأُسُود الضارية، فقال حبيب لبني هاشم:
ـ إرجِعُوا إلى مقرِّكم ـ لا سَهِرتْ عيونُكم.
ثمّ التفتَ حبيب إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: واللهِ الذي مَنّ علينا بهذا الموقف، لولا انتظارُ أمرهِ لَعاجَلْناهم بسيوفنا الساعة! فَطِبْ نفساً، وقَرَّ عيناً.
فجزّاهم حبيبٌ خيراً وقال لهم:
ـ هَلمّوا معي لِنواجهَ النِّسوة ونُطيّبَ خاطِرَهُنّ.
فجاء حبيب ومعه أصحابه.. فصاح:
ـ يا معشرَ حَرائرِ رسول الله.. هذه صَوارمُ فِتْيانِكُم، آلَوا ألاّ يُغمِدوها إلاّ في رقابِ مَن يُريد السُّوءَ فيكم، وهذه أسِنّةُ غِلمانِكُم، أقسَموا ألاّ يُرْكزوها إلاّ في صُدورِ مَن يُفرِّق ناديكم.
فخَرجْنَ النساءُ إليهم ببكاءٍ وعَويل، وقُلنَ: أيُّها الطيّبون، حامُوا عن بناتِ رسول الله وحَرائرِ أمير المؤمنين.
فضج القومُ بالبكاء، حتّى كأنّ الأرض تَميدُ بهم (15).
• ونَقَل الطبريّ في تاريخه: مُنِع الماء في الطفّ على الحسين عليه السّلام، فاشتدّ عليه وعلى أصحابه العَطَش، فدعا أخاه العبّاسَ فبَعَثَه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وأصحَبَهُم عشرين قِرْبة.. فجاءوا حتّى دَنَوا من الماء ليلاً، واستَقدَمَهُم أمامَهم باللواء نافعُ بن هلال، فحسّ بهم عَمْرُو بنُ الحجّاج الزَّبيديّ ـ وكان حارس الماء ـ فقال:
ـ مَنْ ؟! أجابه نافع:
ـ مِن بني عمِّك.
ـ مَن أنت ؟
ـ نافعُ بنُ هلال.
ـ ما جاء بك ؟!
ـ جِئنا نشرب من هذا الماء الذي حَلأْتُمونا عنه.
ـ إشرَبْ هنيئاً.
ـ لا واللهِ لا أشرَبُ منه قَطرةً والحسينُ عَطشان.
فطلع عليه أصحابه، فقال عمرو:
ـ لا سبيلَ إلى سَقْي هؤلاء؛ إنّما وُضِعْنا بهذا المكان لنمنع الماء.
فلمّا دنا مِن نافع أصحابُه.. قال لهم: إملأوا قِرَبَكُم.
فنَزَلوا ومَلأوا قِربَهُم، فثار عمرو بن الحجّاج وأصحابُه، فحَمَل عليهم العبّاسُ بن عليّ عليهما السّلام ونافعُ بن هلال الجمليّ ففَرَّقوهم، وأخذا أصحابَهما، وانصرفوا إلى رحالهم وقد قتلوا من عسكر عمر بن سعد رجالاً (16).
المُنازَلة.. المُبارزَة.. الشهادة
بعد الحملة الأولى التي شنّها عسكرُ ابن زياد وقد رمى عمر بن سعد قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّلُ مَن رَمى.. رَمى القومُ وهم كُثْر، فما بَقيَ من أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام إلاّ أصابَه مِن سِهامهم، فقلّوا وقد قُتِل منهم خمسون رجلاً، فقال الحسين عليه السّلام لمَن لم يُستشهَد: قُوموا ـ رحمكمُ الله ـ إلى الموت الذي لابدّ منه؛ فإنّ هذه السِّهامَ رسُلُ القوم إليكم.
فاقتَتَلُوا ساعةً من النهار حملةً إثر حملة، فما انجَلَت الغُبرةُ إلاّ وأصحابُ الحسين عليه السّلام قد بانَ فيهم نَقصٌ شديد (17)؛ لذا لم يَأذَنْ لهم الحسين سلام الله عليهم بالبُروز والخروج إلى ساحة المعركة إلاّ اثنَين اثنَين، واحدٌ يَشِدّ، فإذا استَلْحَم وضُيِّق عليه شَدَّ الآخَرُ يَستَنقِذهُ، أو واحد يَكرّ والثاني يَحمي ظهرهَ.
• قال الطبريّ: لمّا قُتل عمرُو بن قَرَظةَ الأنصاريّ ( وكان مع الحسين عليه السّلام )، جاء أخوه عليّ ( وكان مع عمر بن سعد ) ليأخذ بثاره، فهَتَف بالحسين عليه السّلام في كلام بذيء فيه:
ـ أغَرَرْتَ أخي وقَتَلتَه ؟!
فأجابه الإمام الحسين عليه السّلام: إنّي لَم أَغُرَّ أخاك، ولكنْ هداه الله وأضَلَّك!
فقال عليّ: قَتَلني اللهُ إن لم أقتُلْك!
ثمّ حَمَل على الحسين عليه السّلام فاعترَضَه نافعُ بن هلال فطَعَنه حتّى صَرَعَه، فحملَ أصحابُه عليه واستَنقَذوه، فدُووِيَ بعدُ فَبرِئ. ثمّ جالَت الخيلُ التي استَنقَذَت عليّاً، فرَدَّها نافعٌ عن أصحابهِ وكشَفَهَا عن وجوههم.
وحَدَّث يحيى بن هاني بن عُروة المُراديّ أنّه: لمّا جالَت الخيلُ بعد ضربِ نافعٍ عليّاً، حَمَل عليها نافعُ بن هلال فجَعَل يضربُ بها قُدْماً وهو يقول:
إن تُنكِـروني فأنا ابنُ الجَمَلي دِيني على دِينِ حُسينِ بنِ علي
فقال له مُزاحِم بن حُرَيث: أنا على دِين « فلان »! فأجابه نافع: أنت على دِين الشيطان! ثمّ شَدَّ عليه بسيفه، فأراد مُزاحم أن يولّي، ولكنّ السيف سَبَق، فوقع مُزاحم قتيلاً. فصاح عمرو بن الحجّاج: أتَدرونَ مَن تُقاتِلون ؟! لا يَبرُزْ إليهم منكم أحد! (18)
• وفي البحار: قال المفيد وصاحب المناقب: وكان نافع بن هلال الجَمَلي يقاتل قتالاً شديداً، ويَرتَجز ويقول:
أنا ابنُ هلال الجَمَليْ
أنا على دِيـن عليْ
ودِينُـه دِيـنُ النبي
فبرَزَ إليه رجلٌ من بني قطيعة ـ قال المفيد: هو مُزاحم بن حُرَيث ـ فقال: أنا على دِين عثمان، فقال له نافع: أنت على دِين الشيطان! فحمل عليه نافع فقَتَله، فصاح عمرو بن الحجّاج بالناس:
ـ يا حَمْقى! أتدرون مَن تقاتلون ؟! تقاتلون فُرسانَ أهلِ المصر وأهل البصائر وقوماً مُسْتَميتين، لا يَبرُزُ منكم أحدٌ إلاّ قتلوه على قِلّتهم. واللهِ لو لم تَرمُوهم إلاّ بالحجارةِ لَقَتلتمُوهُم!
فقال له عمر بن سعد: الرأي ما رأيت.
فأرسل في الناس مَن يَعزِم عليهم أن لا يُبارزَهم رجلٌ منهم. وقال: لو خَرَجتُم إليهم وُحْداناً لأتَوا عليكم مُبارَزَةً! (19)
• وبَرَز نافعُ بن هلالٍ مرّةً أخرى، فأخذ يرمي بنِبالٍ مسمومةٍ كتب على أفواقها اسمَه (20)، وجعل يقول:
أرمـي بـها مُعلَمَـةً أفواقُـها مَسمومَةً تجـري بها أخفـاقُها
لَيَمـلأنّ أرضَـها رَشّـاقُـها والنفسُ لا يَنفعُها إشفاقُها (21)
فقَتَل اثني عشر رجلاً من أصحاب عمر بن سعد سوى مَن جَرَح.. حتّى فَنِيَتْ نِبالُه، عندها جَرَّد سيفَه يضرب في أعدائه وهو يحمل ويكرّ ويقول:
أنا الهِزَبْرُ الجَمَليْ أنا على دِينِ عليْ
وفي رواية أنّه: ضرب يدَه إلى سيفه فاستلّه وجعل يقول:
أنـا الغـلامُ اليَمَنـيُّ الجَمَليْ دِيني على دِينِ حسينٍ وعليْ
إنْ أُقتَـلِ اليـومَ فهـذا أملي فذاك رأيـي وأُلاقـي عملي
فقتل ثلاثةَ عشَرَ رجلاً.. فتَواثَبوا عليه وأحاطوا به يرَمُونَه بالحجارة والنِّصال، حتّى كسَرَوا عَضُدَيه فأخَذوه أسيراً (22).
فأمسَكْه الشمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه يَسوقونه.. حتّى أتى به عُمرَ بنَ سعد، فقال عمر:
ـ وَيْحك يا نافع! ما حمَلَك على ما صنعتَ بنفسك ؟!
أجابه نافع: إنّ ربّي يَعلَم ما أردتُ.
فقال له رجل ـ وقد نظر إلى الدِّماء تسيل على وجهه ولحيته: أما ترى ما بك ؟!
فأجابه نافع: واللهِ لقد قَتَلتُ منكم اثنَي عَشَر رجلاً سوى مَن جَرَحتُ، وما ألوم نفسي على الجَهد، ولو بَقِيَتْ لي عَضُدٌ ما أسرَتُموني (23).
فقال شمر لابن سعد: اقتُلْه ـ اصلَحَك الله!
قال ابن سعد: أنت جِئتَ به، فإن شِئتَ فاقتُلْه.
فجرّد شمرٌ سيفَه.. هنا قال له نافع:
ـ أمّا واللهِ ـ يا شمرُ ـ لو كنتَ من المسلمين، لَعَظُم عليك أن تَلقى اللهَ بدمائنا! فالحمدُ لله الذي جَعَل مَنايانا على يَدَي شِرارِ خَلْقه.
فقدّمه الشمر، وضَرَب عُنُقَه (24).
وفي نافع بن هلال رضوان الله عليه يقول الشاعر يصف شجاعته، وشهادته:
ألاَ رُبَّ رامٍ يَكتُب السَّـهمَ نـافـعـاً ويَعـنـي بــه نَفْعـاً لآلِ محمّـدِ
إذا مـا أرَنّتْ قَوسُـه فـازَ سَهمُـها بقلـبِ عـدوٍّ أو جَنـاجِـنِ مُعتَـدي
فلو ناضَـلُوه مـا أطافُـوا بغـابِـهِ ولكـنْ رَمَـوه بـالحجـارِ المُحَـدَّدِ
فأضحى خَضيبَ الشَّيبِ مِن دمِ رأسهِ كسيـرَ يـدٍ يَنقـادُ للأسـرِ عـن يَدِ
ومـا وَجَـدوه واهِنـاً بعـد أسْـرِهِ ولكـنْ بَسـيمـاً ذا بَـراثِـن مُلبَـدِ
فـإن قَتَلوه بعدمـا ارتُثَّ صـابـراً فلا فَخْـرَ في قَتْلِ الهِزَبْـرِ المُخَضَّدِ
ولـو بَقِيتْ منـه يـدٌ لـم يُقَدْ لهـم ولـم يَقتُلوهُ لـو نَضـا لِمُـهَنَّدِ (25)
ذاك شرفٌ عتيد.. وشرفٌ آخَرُ ناله نافع بن هلال، وأيّ شرف! حيث يتوجّه إليه الإمام المهديّ المنتظر صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين بالسلام عليه في ضمن زيارته عليه السّلام لشهداء طفّ كربلاء، فيقول:
السلام على نافعِ بنِ هلالِ بنِ نافعِ البَجَليّ المُراديّ (26)