لمحات من شخصيّته
جعفر.. من أُسرةٍ هي الذُّروة بين أُسر الدنيا، فأبوه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، مَن عرّفه القرآن الكريم على إجماع المفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين والرجاليّين.. أنّه المقصود بـ « أنفُسَنا » في آية المباهلة (1)، وأنّه أحد أصحاب الكساء الذين نَزَلت فيهم آية التطهير (2)، وأحدُ ذوي القُربى الذين أمرَ الله تبارك وتعالى بمودّتهم في آية المودّة (3)، وهو المصدِّق الأوّل لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وأوّل مَن صلّى خَلْفَه، وأوّل مَن دافع عنه ونصره بنفسه وسيفه حتّى نزل فيه ليلةَ المبيت في فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله قولُه عزّوجلّ: ومِنَ النّاسِ مَن يَشْري نَفْسَهُ آبتِغاءَ مَرْضاةِ اللهِ، واللهُ رؤوفٌ بالعِباد (4).. فهو مَجْمع الفضائل، حتّى قال ابن أبي الحديد:
فأمّا فضائله عليه السّلام، فإنّها قد بلَغَتْ من العِظَم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يَسْمُج ( أي يصعب ) التعرّضُ لذِكْرها، والتصدّي لتفصيلها (5).
وأمّا أمّه.. فهي المرأة الجليلة الفاضلة « أمّ البنين » فاطمة بنت حِزام، المنحدرة من الأصول النجيبة والأعراق النبيلة الشجاعة، وقد كان لها من أمير المؤمنين عليه السّلام أربعة أولاد، كلُّهم استُشهدوا بين يدَي أخيهم سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين سلام الله عليه، وهم: العبّاس وعبدالله وعثمان وجعفر. وقد رَبَّتْهم على حبِّ آل البيت صلوات الله عليهم، والاعتقاد بولايتهم، وشَجّعَتْهم على نصرتهم؛ إذ هم أوصياء رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأحقُّ الناس بخلافته والإمامة مِن بعده.
وُلِد جعفر بعد أخيه عثمان بنحوِ سنتين، وبقي مع أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام نحو سنتين أيضاً، ومع أخيه الحسن عليه السّلام نحو اثنتَي عشرة سنة، ومع أخيه الحسين عليه السّلام نحو إحدى وعشرين سنة، وذلك مدّةُ عمره إلى يوم شهادته. ورُوي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سمّى وَلَدَه هذا « جَعْفراً » بآسم أخيه الشهيد جعفر الطيّار؛ لحبّه إيّاه (6).
حَمْلةُ آل أبي طالب
لمّا قُتِل عبدُالله بن مسلم بن عقيل، حَمَل آلُ أبي طالب حملةً واحدة، فصاح بهم الإمام الحسين عليه السّلام: صَبْراً على الموت يا بني عُمومتي، واللهِ لا رايتُم هَواناً بَعدَ هذا اليوم (7).
وكان في تلك الحملة جملةٌ من شهداء بني هاشم، مِن آل جعفرٍ وعقيل رضوان الله تعالى عليهم.. فلمّا رأى العبّاسُ بن أمير المؤمنين عليهما السّلام كثرةَ القَتلى مِن أهله، قال لإخوته مِن أُمّه وأبيه ـ عبدِالله وعثمان وجعفر: تَقَدّموا يا بَني أُمّي حتّى أراكم نَصَحتُم لله ولرسوله.. (8) فقاتَلوا بين يَدَي أبي الفضل حتّى استُشهِدوا بأجمعهم.
نِعِـمّا قَـرابيـنُ الإلـه مُجَزَّرينَ على الفـراتِ
خيرُ البريّة أن يكون الــ هَدْيُ مِنْ زُمَـرِ الهُداةِ
مِن بعدِ ما قَضَوُا الصلاة قَضَوا فِداءً للصـلاةِ (9)
الخطوة الشجاعة
وكان أوّلَ مَن تقدّم: عبدُالله بن أمير المؤمنين عليه السّلام ـ وهو أكبر من عثمان وجعفر، ثمّ تقدّم جعفر يشجّعه أخوه العبّاس عليه السّلام (10).
وقيل ـ كما ذكَرَ بعضُ أهل السِّيَر ـ: لمّا قُتِل أخَوا العباس لأبيه وأمّه عثمان وعبدالله، دعا جعفراً وقال له: تَقَدّمْ إلى الحرب حتّى أراك قتيلاً فأحتَسِبَك كما آحتَسَبْتُهما (11).
فتقدّم جعفر وهو يرتجز ويقول:
إنّـي أنـا جعفـرُ ذو المعـالـي ابـنُ عليِّ الخيـرِ ذي النَّوالِ (12)
ذاك الوصـيُّ ذو السَّـنا والـوالي حَسْـبي بعـمّي شَـرَفـاً وخـالي
القتال.. الشهادة
بَرَز جعفرُ بن الإمام عليّ عليه السّلام إلى ساحة القتال وحده، بعد شهادة أخَوَيه قبلَه ـ على معظم الروايات ـ فقاتل أعداء الله، ونَصَر وليَّ الله، وجاهَدَ في سبيلِ الله.. حتّى نال الشرفَ الأسمى بالشهادة بين يدَي الإمام الحسين عليه السّلام، مُضَمَّخاً بدمه صريعاً بين بني هاشم والنُّخبة الطيّبة مِن أهل بيت المصطفى صلّى الله عليه وآله، الذين يُزارون يومَ عاشوراء بهذه العبارات الشريفة:
السّلامُ على الشهداءِ مِن وُلْدِ أمير المؤمنين، السّلام على الشهداءِ مِن وُلْد الحسن، السّلامُ على الشهداءِ من وُلْد الحسين، السّلام على الشهداء مِن وُلْدِ جعفرٍ وعقيل.. (14)
والذين يُتَحسَّر على أرواحهم الطاهرة، فيقول فيهم أحد الأدباء:
لهـفـي لآلِ محمّدٍ لَهْفـاً بـهِ يُذكي لهيبَ النارِ فـي أحشائي
السابقون.. فليس يُدْرَكُ شَأْؤهُم يـومَ الفَخـارِ بحَلْبـةِ العَلْيـاءِ
والضاربونَ على السِّماكِ قِبابَهُم والواطئونَ لِهامةِ الجَوْزاءِ (15)
أمّا قاتِلُه
فقد اختُلِف فيه؛ وذلك لتعدّد مَن ضَرَبه أو طَعَنه أو رَماه، حتّى ظُنّ أنّ قاتله: هاني بن ثُبَيت الحَضْرَميّ، أو خَوْليُّ بن يزيد الأصبَحيّ.. عليهما لعائن الله كليهما:
• يروي أبو الفرج الإصفهانيّ عن نصر بن مُزاحِم أنّ خَوْليَّ بن يزيد الأصبحيّ لعنه الله قتَلَ جعفرَ بن عليّ (16).
• وعن أبي مخنف: شدّ عليه هاني بن ثُبَيت الذي قتَلَ أخاه، فقتَلَه (17).
• فيما يميل الشيخ المجلسيّ إلى الرأي الأوّل، فيقول: ثمّ قاتل.. فرماه خَوْليُّ الأصبحيّ، فأصاب شقيقتَه أو عَينَه (18).
عمره رضوان الله عليه
وهو إذ ذاك له من العمر تسع عشرة سنة (19)، أو إحدى وعشرون سنة (20).. ولعلّ الرأيَ الثاني هو الأقرب إلى الواقع، إذ كان جعفر عاش سنتين مع أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد استُشهد أمير المؤمنين عليه السّلام سنة أربعين من الهجرة النبويّة، فلو كان عمره يوم شهادته ـ أي سنة 61 هجريّة ـ تسع عشرة سنة، لكان ينبغي أن تكون ولادته سنة 42 هجريّة.
فسلامٌ من الله جلّ وعلا عليه في الشهداء،
وسلامٌ من الله تعالى عليه في السعداء،
وسلامٌ عليه من خاتم الأوصياء،
الإمام الحجّةِ المهديِّ المنتظر عَجّل الله تعالى فَرَجَه الشريف، حيث يخصُّه في زيارته لشهداء كربلاء بهذا السّلام في هذه الفقرة:
السلامُ على جعفرِ بنِ أمير المؤمنين، الصابرِ بنفسهِ مُحتسِباً، والنائي عنِ الأوطانِ مُغترِباً، المُسْتسْلِمِ للقتال، المستَقْدِمِ للنِّزال، المَكْثورِ بالرجال، لعَنَ اللهُ قاتِلَه هانئَ بنَ ثُبَيتِ الحَضْرميّ (14).