أبو تمامة الصائدي... من أوائل المواكبين لنهضة سيّد الشهداء

الإثنين 25 سبتمبر 2017 - 14:40 بتوقيت غرينتش
أبو تمامة الصائدي... من أوائل المواكبين لنهضة سيّد الشهداء

النهضة الحسينية-الكوثر

تعرّف
هو عَمْرو بن عبدالله بن كعب الصائد بن شُرَحْبيل بن شَراحيل بن جُشَم بن حاشد بن جُشَم بن حَيزون بن عَوف بن هَمْدان، أبو ثُمامة الهَمْدانيّ الصائديّ (1)، وهَمْدان معروفةٌ بتطلّعاتها في نصرة الإسلام، والأخذ بوصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السّلام، فكانت منهم النُّصرةُ للإمامة والخلافة الحقّة، وللأئمّة الهداة عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وأبو ثمامة رجلٌ تابعيّ، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ صلوات الله عليه، وقد شَهِد معه مشاهدَه وحروبه.. ثمّ صَحِبَ بعده الإمامَ الحسن عليه السّلام، وبقي في الكوفة إلى أن بدأت النهضةُ الحسينيّة المباركة (2).

البكور.. إلى النهضة الحسينية
كان أبو ثُمامة الصائدي من أوائل المواكبين لنهضة سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السّلام.. فما أن هلك معاوية بن أبي سفيان حتّى كتب أبو ثمامة إلى الإمام الحسين عليه السّلام واستمرّ يكاتبه. فإذا دخل الكوفةَ مسلمُ بنُ عقيل رضوان الله عليه، قام أبو ثمامة معه، وصار يقبض الأموال من الشيعة بأمرِ مسلمٍ عليه السّلام، فيشتري السلاح ـ وكان بصيراً بذلك ـ فإذا دخل عبيدُالله بن زياد الكوفة وثار الشيعة بوجهه، وَجّهَه مسلمُ بن عقيل فيمَن وجّهه، وعقَدَ له على رُبع تميم وهَمْدان حين بدأ مسلم تحرّكَه ضدّ عبيدالله بن زياد، فحاصر أبو ثُمامة عبيدَالله في قصره.
ولمّا خذَلَ الناسُ مسلمَ بن عقيل عليه السّلام وتفرّقوا عنه، أخذ عبيدُالله بن زياد يشتدّ في طلبه لأبي ثمامة الصائديّ الذي اختفى مدّةً، ثمّ خرج إلى الإمام الحسين عليه السّلام ومعه نافع بن هلال الجَمَليّ، فلَقِياه في طريقه إلى كربلاء والتحفا به، وأتَيا معه يواصلانِه (3).

إِناخة الرِّحال على أرض كربلاء
لمّا نزل الإمام الحسين عليه السّلام كربلاء يوم الثاني من المحرّم، ونزلها عمر بن سعد وقد عقد تحت رايته ستةَ آلاف فارس وتكامل عسكره مع باقي الرايات ثمانين ألفَ فارس من أهل الكوفة نازلين قريباً من عسكر الحسين عليه السّلام.. بَعَث ابنُ سعد إلى الإمام الحسين عليه السّلام كُثَيرَ بن عبدالله الشعبيّ ـ وكان فاتكاً ـ فقال له: إذهَبْ إلى الحسين وسَلْه ما الذي جاء به! قال كثير: اسأله، فإن شئتَ فتكتُ به. قال عمر بن سعد: ما أريد أن تفتك به، ولكن أريد أن تسأله (4).
فأقبل كُثَير الشعبيّ إلى الإمام الحسين عليه السّلام.. فلمّا رأه أبو ثمامة الصائديّ قال للحسين عليه السّلام:
ـ أصَلَحك الله يا أبا عبدالله، قد جاءك شرُّ أهل الأرض وأجرأُهم على دمٍ وأفتَكُهم!
ثمّ قام أبو ثُمامة إلى كُثَير قائلاً له: ضَعْ سيفَك.
قال كثير: لا ولا كرامة، إنّما أنا رسول، فإن سَمِعتُم منّي أبلغتُكم ما أُرسلتُ به إليكم، وإن أبيتُمُ انصرَفَتُ عنكم.
فقال له أبو ثمامة: فإني آخذُ بقائمِ سيفِك، ثمّ تكلّمْ بحاجتك.
قال: لا والله ولا تَمسُّه!
فقال أبو ثمامة له: فأخبِرْني بما جئت، وأنا أبلّغُه عنك، ولا أدَعُك تدنو من الحسين؛ فإنك فاجر!
قال الراوي: فآسْتَبّا.. ثمّ رجع كثير إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فأرسل ابنُ سعد قُرّةَ بن قيس التميميّ الحنظليّ مكانه، فكلّمَ الحسينَ عليه السّلام (5).

ظهيرة عاشوراء
حَمَل شمرُ بن ذي الجَوشَن في الميسرة، فثَبَت له أصحاب الحسين عليه السّلام وطاعَنُوه وقاتَلوه قتالاً شديداً مع كونهم اثنين وثلاثين فارساً، وكانوا يحملون على عسكر ابن زياد فيشكفونه عن مكانه، فدعا عمر بن سعد بالحُصَين بن نُمَير في خمسمائةٍ من الرُّماة حتّى دَنَوا من الحسين وأصحابه، فرَشَقوهم بالنَّبل.. فلم يَلبثُوا أن عَقَروا خيولَ أصحاب الحسين عليه السّلام واحتَدَم القتال حتّى انتصف النهار، ولم يَقِدر جندُ ابن سعد أن يأتوا عسكرَ الحسين عليه السّلام إلاّ من جانبٍ واح، لاجتماع أبنيةِ الأصحاب وخيامهم.
ولم يَزَل يُقتَل من أصحاب الحسين الواحدُ والاثنان فيبين ذلك لقلّتهم، ويُقتَل من أصحاب عمر بن سعد العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم. فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة الصائديّ، ورأى شمس عاشوراء قد علَت نحو الزوال والحربُ قائمة.. قال للإمام الحسين عليه السّلام:
ـ يا أبا عبدالله، نفسي لنفسك الفداء، إنّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منك، ولا واللهِ لا تُقتَلُ حتّى أُقتَلَ دونك إن شاء الله، وأُحِبّ أن ألقى اللهَ ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتُها.
فرفع الإمام الحسين عليه السّلام رأسَه الشريف إلى السماء، ثمّ قال: ذكرتَ الصلاة، جَعَلَك اللهُ من المصلّينَ الذاكرين. نَعَم، هذا أوّلُ وقتها.
ثمّ قال عليه السّلام: سَلُوهم أن يكفُّوا عنّا حتّى نصلّي.
وقال عليه السّلام لزهير بن القَين وسعيد بن عبدالله الحَنَفي: تقدّما أمامي حتّى أُصلّيَ الظهر.
فتقدّما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه، حتّى صلّى بهم (6).
وتلك صلاةٌ تُسمّى بصلاة الخوف، يصلّيها المؤمن المجاهد في ساحة الجهاد والقتال خوفاً من أن يُستشهَدَ فتفوته، فيُؤدّيها في وقتها على كيفيّة ذكرها القرآنُ الكريم في قوله تعالى:  وإذا كنتَ فيهم فأقَمْتَ لَهمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائفةٌ مِنهم مَعَك وَلْيأْخُذُوا أسلحتَهم فإذا سَجَدوا فَلْيكونوا مِن ورائِكم وَلْتأْتِ طائفةٌ أُخرى لم يُصَلُّوا فَلْيُصلُّوا معَكَ ولْيَأْخُذوا حِذْرَهم وأسلحتَهم، ودَّ الذينَ كفروا لو تَغَفُلونَ عن أسلحتِكُم وأمتعتِكُم فيَميلُونَ عليكُم مَيلَةً واحدة..  (7)، وفي هذه الصلاة يقول الشاعر:

وصلاة الخوفِ حاشـاها فمـا     رُوِّعَتْ، والموتُ منها كان قابا

ما لَواهـا الموقفُ الدامـي وما   صَدَّها الجيشُ ابتعـاداً واقترابا

زَحفَتْ ظامئـةً والشمـسُ مِن    حَرِّهـا تَلتهبُ الأرضُ التهابـا

هزّتِ الجيشَ وقـد ضاقتْ بـه  عرْصةُ الطفِّ سُهولاً وهضابـا

سائِلِ الميـدانَ عنـها سَتَـرى    كيف أرضَتْه طِعـاناً وضِـرابا

كيف حامَتْ حُـرَمَ اللهِ فـمــا     خدشَتْ عِـزّاً ولا ذَلَّتْ جَنـابـا

كيـف دونَ اللهِ راحتْ تَـدَّري   بَهَواديـها سهامـاً وكِعـابا (8)

بعد الصلاة.. حيّ على الجهاد
لمّا فرغ الإمام الحسين عليه السّلام من الصلاة.. التَفَتَ إلى أصحابه فقال:
ـ يا كرام، هذه الجنّةُ قد فُتِحتْ أبوابُها، واتّصلَتْ أنهارُها، وأينَعَتْ ثمارُها، وهذا رسولُ الله والشهداءُ الذين قُتِلوا في سبيل الله يتوقّعون قُدومكم، ويتباشرون بكم؛ فحامُوا عن دِين الله ودِين نبيّه، وذُبُّوا عن حَرَم الرسول.
فقالو له: نفوسُنا لنفسك الفِداء، ودماؤنا لدمك الوقاء، فَوَاللهِ لا يَصلُ إليك ولا إلى حَرَمِك سوءٌ وفينا عِرقٌ يَضرِب (9).

نحو الأفق الأعلى
وثارَتْ غَيرةُ المؤمنين على دِينهم، وحُرمة نبيّهم، وحياة إمامهم، وحُرَم آل الرسول صلّى الله عليه وآله، فرَأوا أنفسهم رخيصةً يقدّمونها فداءً وحبّاً ونخوة على الإسلام، يطلبون مرضاةَ ربّهم تبارك وتعالى، ويُرضون بدمائهم ضمائرَهم، وكيف يستقرّ لهم جَنانٌ والحسين بن فاطمة عليهما السّلام يعيش الغربةَ في صحراء طفّ كربلاء ؟! وكيف تسكنُ جوارحُهم عن الإقدام والنصرة والشهادة والحسين بن عليّ عليهما السّلام يحيط به خطر الأعداء هو وعياله وأهل بيته من كلّ صوبٍ ومكان ؟! وكيف تتحمّل غَيرتُهم أن تنظر أعينُهم إلى قوم سوءٍ يتجاسرون على حُرمة إمامهم ؟! فتقدّموا يتسابقون على المنيّة، مُستأذنين سيّدَ شباب أهل الجنّة أبا عبدالله الحسين عليه صلوات ربّنا أن يشرّفهم بقبول تضحياتهم بين يديه الشريفتين.

بأبـي مَـن شَـرَوا لقـاءَ حُسَـينٍ        بفــــراقٍ النـفـوسِ والأرواحِ

وَقَفـوا يـدَرأونَ سُمْـرَ العَـوالـي      عنـه والنَّبـلَ وِقـفــةَ الأشبـاحِ

فَـوَقَـوه بِيـضَ الظُّبـى بـالنُّـحو      رِ البِيض، والنَّبلَ بالـوجوهِ الصِّباحِ

باعَـدوا بيـن قُـربِهم والمَـواضي    وجُـسـومِ الأعــــداءِ والأرواحِ

أدركـوا بـالحـسـينِ أعظمَ عيـدٍ     فَغَدَوا في مِنى الطفوف أضاحي (10)

وخرج جملةٌ من الأصحاب، يقاتلون بين يَدَي إمامهم أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، حتّى يتهاوَوا كالنجوم على ثرى الطفّ مُضمَّخين بدماء الشهادة الزاكية، فيقف عليهم سيّدُ الشهداء سلام الله عليه يؤبّنُهم ويقرأ قوله تعالى:  فمِنْهم مَن قضى نَحْبَه ومِنْهم مَن يَنتظرُ، وما بدّلُوا تبديلا ،  إنا للهِ وإنّا إليه راجعون ، ويقول: عند اللهِ أحتسِبُ نفسي وحُماةَ أصحابي (11).
وخرج أبو ثُمامة الصائديّ ـ ولم يُطِق بعد هذا صبراً ـ فقال للإمام الحسين سلام الله عليه وقد صلّى:
يا أبا عبدالله، إنّي قد هَمَمتُ أن أن ألحقَ بأصحابي، وكَرِهْتُ أن أتخلّفَ وأراك وحيداً مِن أهلِك قتيلاً.
فقال له سيّدُ الشهداء عليه السّلام: تَقَدّمْ؛ فإنّا لاحقون بك عن ساعة. فيتقدّم أبو ثمامة كأنّه أسدٌ يجوب في ساحة المعركة، فيقاتل قتالاً شديداً حتّى يُثخَنَ بالجراحات، وكان مع عمر بن سعد ابنٌ عمّ لأبي ثمامة يُقال له « قيس بن عبدالله الصائديّ »،وكان بينه وبين أبي ثمامة عداوة، فشدّ قيسٌ على ابي ثمامة فقتله (12)، فنال أبو ثمامة بُغيتَه وأُمنيّتَه، والتحق بركب الشهداء الأبرار الذين شرّفهم الإمامُ المهديّ المنتظر صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين بزيارته، ذاكراً فيهم هذا الشهيد السعيد: السلامُ على أبي ثُمامَةَ عُمَرِ بنِ عبدِاللهِ الصائديّ... السلام عليكم يا خيرَ أنصار، السلام عليكم بما صَبَرتُم فنِعْمَ عُقبى الدار، بَوّأكُمُ اللهُ مُبَوَّأَ الأبرار (13).