مسلم بن عقيل موفد الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة
مع تتابع الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام، وهي تحثّه على القدوم إليهم، لم يجد بُدّاً من إجابتهم، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل، وكانت مهمّته خاصة ومحدودة، وهي الوقوف على واقع الكوفيين، ومعرفة أمرهم، فإن صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن.
ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة، وسيف من سيوفهم، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة، وشجاعة فائقة، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم، والتفوا حوله، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام الحسين عليهالسلام، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الأيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الأمة.. ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة، وقد وقفت منها موقف الصمت، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.
ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة، فبادروا إلى الاتصال بدمشق، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان، وطلبوا المبادرة بإقصائه، وتعيين حاكم حازم يستطيع القضاء على الثورة، وإخضاع الجماهير إلى حكمه، وفزع يزيد من الأمر، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون، وكان دبلوماسياً محنّكاً، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة، فأشار عليه بتولّيه الإرهابي عبيدالله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم، فاستجاب يزيد لرأيه، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة، والقضاء على مسلم.
التجسّس على مسلم
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم، ومعرفة نشاطاته السياسية، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيت عليهمالسلام، وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الإمام الحسين عليهالسلام قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه.
ومضى معقل في مهمته، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلىمسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة، وأحد القادة الطليعيين في الثورة، فاتصل به، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهممسلم، فانخدع ابن عوسجة بكلامه، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين، فأدخله على مسلم فبايعه، وأخذ المال منه، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه، وآخر خارج عنه، وقد وقف على جميع شؤون الثورة، وعرف أعضاءها، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث، ولم يخف عليه أي شيء منها.
الهجوم على مسلم
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، محمد بن الأشعث، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية، وينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم.
ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، وتقلّد سيفه، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم.
واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم، وأخرجهم من الدار، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين، عدا الجرحى، وكان من قوته النادرة، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الإنسانية مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوة، وليس ذلك غريباً عليه، فعمّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أشجع الناس، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة.
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح بيوتهم، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم، ولكنها كانت في الأزقة والشوارع، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم، فقد أشاع فيه القتل والدمار، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم، وبهر الطاغية، وأخذ يندد بقيادة ابن الأشعث قائلاً:
"سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة..".
وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً: "أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام". وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز:
أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يخلط البارد سخناً مرّا ردّ شعاع الشمس فاستقرا
كلّ امرئ يوماً يلاقي شرّاً أخاف أن أكذب أو أغرا
أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الأباة والأحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة، ورفعت شعار الحرية، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان، وخضعوا للعبودية والذل، لقد أردت أن تحررهم، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة، فأبوا ذلك، وعدوا عليك يقاتلونك، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم، ومقومات حياتهم.
ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً: "إنّك لا تكذب، ولا تخدع، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك، ولا ضاريّك...".
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين من بين يديه، وهو يحصد رؤوسهم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم: "ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة، كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله صلىاللهعليهوآله، وذريته...".
إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله صلىاللهعليهوآله الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الأمم والشعوب، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.
وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار، وضاق بابن الأشعث أمره، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً: "يا بن عقيل لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي...".
ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء، فردّ عليه قائلاً: "يا بن الأشعث لا أعطي بيدي أبداً، وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً...".
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب، وأخذ العطش القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً، فجعل يقول: "اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي...".
وتكاثرت الجنود على مسلم، وقد استولى عليهم الرعب والخوف، وصاح بهم ابن الأشعث: "إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة...".
فحمل الأوغاد اللئام على مسلم، وجعلوا يطعنونه برماحهم، ويضربونه بسيوفهم، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى السفلى، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.
المصدر: المعارف الاسلامية