الهويّة الرساليّة
هو جُنادة بن كعب بن الحرث الخزرجيّ، الأنصاري.. وللأنصاريّين خصوصيّة في المجتمع الإسلاميّ الأوّل؛ فقد أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله العهدَ على الأوس والخزرج ليلة العَقَبة: تَمنعوني ممّا تَمنعون أنفُسَكم، وتَمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادَكم (1).
وقد حافظ معظم الأنصار على ذلك العهد، كما حافظوا على ولائهم لأهل البيت عليهم السّلام والمودّةِ لهم والدفاع عنهم، وكان ذلك ملحوظاً في إسراعهم لبيعة أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، وصاروا في طليعة جيشه في حروبه ضدّ: الناكثين والقاسطين والمارقين. ثمّ صاروا في جُند الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، وفي مقدّمتهم قيس بن سعد بن عُبادة الأنصاريّ المعروفه بمواقفه قبال معاوية.
وتَوارَث الأنصارُ هذا الولاءَ الصادق لأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله، وورّثوه أبناءهم.. حتّى ضمَّ جيشُ الإمام الحسين عليه السّلام عدداً من خيرتهم، منهم:
1 ـ عَمرو بن قرظة الأنصاريّ.
2 ـ عبدالرحمان بن عبدربّه الخزرجيّ الأنصاريّ.
3 ـ نعيم بن العَجْلان الخزرجيّ الأنصاريّ.
4 ـ سعد بن الحرث العجلانيّ الأنصاريّ.
5 ـ أبو الحُتوف بن الحرث الأنصاريّ.
6 ـ جُنادة بن كعب الخزرجيّ الأنصاريّ ( المُترجَم له هنا )، وابنه عمرو بن جُنادة الأنصاريّ، وزوجة جُنادة بَحريّة بنت مسعود ( الخررجيّة الأنصاريّة ) (2).
فكان هؤلاء وعدّة من الأنصار.. قد ثبتوا على ولايتهم لآل رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى البراءة من أعدائهم، فتقدّموا لنصرة سيّد شباب أهل الجنّة أبي عبدالله الحسين صلوات الله عليه والذَّبّ عنه بأنفسهم، وفيهم جُنادة بن كعب الأنصاريّ رضوان الله عليه.
الأسرة المجاهدة
أصبح صباح العاشر من المحرّم لعام 61 هجريّة، فصلّى الإمام الحسين عليه السّلام بأصحابه صلاة الفجر، ثمّ خطبهم قائلاً:
ـ إنّ الله قد أذِنَ في قتلكم؛ فعليكم بالصبر (3).
ثمّ صَفّهم للحرب، وكانوا نَيفاً وسبعين رجلاً، عندها توجّه نحوعسكر عمر بن سعد خطيباً وواعظاً، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بيّنة، وَيَحْيَ مَن حَيَّ عَنْ بيّنة (4)، فخشيَ ابنُ سعد أن يؤثّر الإمام الحسين عليه السّلام على الموقف ببيانه وحُججه، فانبرى شمرُ بن ذي الجَوشَن يكلّم الحسينَ عليه السّلام بلغةٍ جافّة، فردّ عليه حبيبُ بن مظاهر الأسديّ غَيرةً منه على حُرمة إمامه. ثمّ استمرّ أبو عبدالله الحسين سلام الله عليه في خطبته، وسمح لبعض أصحابه بإلقاء خُطبهم على جيش عبيدالله بن زياد.. حتّى نَفِد صبرُ ابن سعد، فتقدّم نحو عسكر الحسين عليه السّلام ورمى بسهمٍ وقال: اشهَدوا لي عند الأمير ( يقصد أميره عُبيدَالله بن زياد ) أنّي أوّل مَن رَمى! ثمّ رمى الناس، فلم يَبقَ من أصحاب سيّد الشهداء عليه السّلام أحدٌ إلاّ أصابه من سِهامهم.. فنادى عليه السّلام بأصحابه: قُوموا ـ رَحمَكم الله ـ إلى الموت الذي لابدّ منه؛ فإنّ هذه السِّهامَ رُسُل القوم إليكم.
فحملَ الأصحاب الأوفياء حملةً واحدة، واقتَتَلوا ساعة.. فما آنجَلَتِ الغُبرةُ إلاّ عن خمسين شهيداً، كان مِن بينهم الشهيد البارّ: جُنادةُ بن كعب الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه (5).
وبينما كان الإمام الحسين عليه السّلام يرتّب البقيّة الباقية من أصحابه الذين لم يُستَشهَدوا في الحملة الأولى.. إذا بغلامٍ ابنِ إحدى عشرةَ سنة يحمل السلاح وقد قُصِّرتْ له حَمائلُ السيف، هو عمرو بن جنادة.. أقبَل على الإمام الحسين عليه السّلام يستأذنه للدخول إلى ميدان المعركة، فأبى سيّد الشهداء وقال: هذا غُلامٌ قُتِل أبوه في الحملةِ الأُولى، ولعلّ أُمَّه تكره ذلك. قال الغلام: إنّ أُمّي هي التي أمَرَتْني.
فإذِنَ له الحسين عليه السّلام، فما أسرَعَ أن قُتِل هذا الغلام ورُميَ برأسه إلى جهة الإمام الحسين عليه السّلام، فأخذته أمُّه ومَسَحت الدمَ عنه وضَرَبت به رجلاً من جيش ابن سعد كان قريباً منها فمات (6).
وعادت أمّ عمرو إلى المخيّم، فأخذت عموداً لتقاتل به، وقيل سيفاً وأنشأت تقول:
إنّي عجوزٌ في النِّسا ضَعيفة خـاويـةٌ بـاليـةٌ نحيفـة
أضـرِبُكُم بضـربةٍ عنيـفة دونَ بنـي فاطمةَ الشـريفة
فردّها الإمام الحسين عليه السّلام إلى الخيمة.. بعد أن أصابت بالعمود رَجُلين (7).
وفي ( بحار الأنوار ) للشيخ المجلسيّ، برواية محمّد بن أبي طالب: ثمّ خَرَج شابٌّ قُتِل أبوه في المعركة، وكانت أمُّه معه فقالت له: اخرُحْ يا بُنَيّ وقاتِلْ بين يَدَي ابنِ رسول الله. فخرج، فقال الحسين عليه السّلام: هذا شابٌّ قُتِل أبوه، ولعلّ أُمَّه تكره خروجَه. فقال الشابّ: أُمّي أمرَتْني بذلك. فبرَزَ وهو يقول:
أميـري حُسَينٌ ونِعْـمَ الأميرْ سُرورُ فؤادِ البَشـيرِ النذيـرْ
علـيٌّ وفــاطمـةٌ والِـداه فهل تَعلمونَ له مِن نَظيرْ ؟!
له طَلْعَةٌ مِثْلُ شمسِ الضحى له غُـرّةٌ مِثْلُ بَـدرٍ منيـرْ
وقاتَلَ حتّى قُتل، وجُزَّ رأسُه ورُميَ به إلى عسكر الحسين عليه السّلام، فحَمَلَتْ أمُّه رأسَه وقالت: أحسَنتَ يا بُنيّ، يا سُرورَ قلبي وقُرّةَ عيني. ثمّ رَمَتْ برأسِ ابنها رَجُلاً فقتلَتْه، وأخَذَت عمود الخيمة وحَمَلت عليهم وهي تقول:
أنا عجوزٌ ـ سيّدي ـ ضعيفة خـاويـةٌ بـاليـةٌ نحـيفـة
أضـرِبُكُم بضـربـةٍ عنيفـة دونَ بنـي فاطمـةَ الشـريفة
وضَربَتْ رجُلَينِ فقَتلَتْهما، فأمرَ الحسينُ عليه السّلام بصرفها، ودعا لها (8).
وكذا ينقل الشيخ المجلسيّ عن ( مناقب آل أبي طالب ) أنّ جُنادَة بن الحارث الأنصاريّ كان قد خرج وهو يقول:
أنا جُنادٌ وأنا ابـنُ الحـارِثْ لَسـتُ بَخـوّارٍ ولا بنـاكِثْ
عن بَيعَتي حتّى يَرِثْني وارِثْ اليومَ شِلْوي في الصعيد ماكِثْ
قال: ثمّ حَمَل.. فلم يَزَل يُقاتِل حتّى قُتِل رحمه الله (9).
قال: ثمّ خرج من بعده عَمرُو بن جُنادة وهو يقول:
أضِقِ الخِناقَ مِن آبنِ هندٍ وآرمِهِ مِن عامـهٍ بفـوارسِ الأنصـارِ
ومهـاجرينَ مُخَضِّبينَ رِمـاحَهُم تحت العَجـاجةِ مِـن دمِ الكفّـارِ
خُضِبَت على عهـدِ النبيِّ محمّدٍ فاليـومَ تُخضَبُ مِـن دم الفُجّارِ
واليومَ تُخضَب مِن دمـاءِ أراذلٍ رَفَضوا القُـرانَ لنُصرةِ الأشرارِ
طَلَبوا بثـأرِهـمُ ببـدرٍ إذْ أتَـوا بالمُـرهَفـاتِ وبالقَنـا الخَطّـارِ
واللهِ ربّـي لا أزالُ مُضـارِبـاً في الفاسقينَ بمُـرهَفٍ بَتّارِ (10)
قيل فيه
• كتب الشيخ عبدالله المامقانيّ معرّفاً بهذا الشهيد:
جُنادة بن كعب بن الحرث الأنصاريّ الخزرجيّ، ذكَرَ علماءُ السِّيرَ أنّه كان من الشيعة، ومن المخلصين في الولاء، وممّن صَحِب الحسينَ عليه السّلام مِن مكّة.. وجاء معه هو وأهله إلى كربلاء، فلمّا كان يومُ الطفّ، وشَبَّ القِتالُ وحَمَل أهلُ الكوفة على عسكر الحسين عليه السّلام، تَقَّدم جُنادةُ هذا وقاتَلَ حتّى نال شرفَ الشهادة في الحملة الأُولى (11).
• كذلك كتب الشيخ باقر شريف القرشيّ في أسرة هذا الشهيد: وبرَزَ الفتى النبيل عمرُو بن جُنادة الأنصاريّ، وهو أصغر جُنديٍّ في معسكر الحسين عليه السّلام، ولكنّه كان يفوق في عقله ودِينهِ مَن في معسكر عمر بن سعد (12).
فسلامٌ على جُنادةَ وأُسرته البارّة الغيورة،
وعلى جميع الأرواح التي حلّتْ بفِناء الإمام
الحسين عليه السّلام في ساحة الطفّ العسيرة.