الأوّل: على صعيد الجانب الكوني العام، فمن المعروف أنّ صيام الحيوانات أمر طبيعي، يرتبط بحياتها التكوينية، ونظام غذائها بما يناسب طبيعتها، فبعض المخلوقات تصوم لبضعة أيام وبعضها لفترات طويلة، والنباتات تصوم مدّة من الزمن برقدة تحت أجنحة الشتاء، ثمّ تعود وقد اكتست حلّة جديدة خضراء ندية، وبدأت في استعادة حيويتها بعد تلك الرقدة.
وقد يرى الفلّاح أنّ من الضروري أن يفرض على مزروعاته الصيام فترة من الزمن، لحكمة تكوينية تقتضيها طبيعة النمو للمزروعات.
الثاني: على مستوى الجانب الإنساني، فالمعروف أنّ الأُمم السابقة كانت تفرض على أفرادها عملية الصيام قبل أن تصلها الرسالات السماوية لفترات متعاقبة، إيماناً منها بضرورة التكيُّف على قلّة الطعام، بحكم ارتباط عملية الصيام بحاجة كلّ كائن إلى الخير والعطاء منذ وجوده إلى فنائه.
والإنسان أبرز الكائنات التي تتطلّع إلى الخير والأمان والعزم والقوّة والنقاء والطُّهر، ويعد الصيام كفيلاً أو مساهماً بتوفير ذلك إلى الإنسانية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى عمق هذه الغاية بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).
"والمراد بالذين من قبلكم، الأُمم السابقة من الملّيين في الجملة، ولم يعين القرآن مَن هم، غير أنّ ظاهر قوله: (كَمَا كُتِبَ)، إنّ هؤلاء من أهل الملّة، قد فرض عليهم ذلك ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجود الصيام وفرضه، بل الكتابان يمدحانه ويعظمان أمره؛ لكنهم – أصحاب التوراة والإنجيل – يصومون أياماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة كالصوم عن اللحم، والصوم عن اللبن، والصوم عن الأكل والشرب.
وفي القرآن الكريم قصّة صوم زكريا (ع) عن الكلام، وكذلك صوم مريم (ع) عن الكلام، بل الصوم عبادة مأثورة عند غير الملّيين، ينقل عن مصر القديمة واليونان القديم والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم" (الميزان في تفسير القرآن/ السيد الطباطبائي/ ج2/ ص7)، فإنّا وإن لم نطّلع على تحديد معيّن من الصيام قبل الإسلام، إلّا أنّ المتيقن وجود أوقات وسُنن محدَّدة يصوم على أساسها الملّيون وغيرهم.
فقد نقل القرآن الكريم عن زكريا (ع) قال: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) (مريم/ 10)، وفي خطابه إلى مريم (ع) جاء قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم/ 26).
ومن خلال عمق جذور هذه الفريضة، وأصالتها التأريخية على مستوى الأديان كافّة، نعرف أنّنا والأُمم السابقة نشترك في ضرورة الوصول إلى غايات وأهداف ترتبط بوجودنا كأيّة أُمّة من الأُمم لها دينها ومنهجها.
ولا شكّ في أنّ الغايات التي تنشدها الأُمّة المسلمة هي أسمى الغايات وأنقاها، على المستوى الإسلامي والإنساني معاً، إذ تتمثل في السعي نحو سعادة الدارين، وسر هذه السعادة مرضاة الله تعالى واستمداد رعايته، ودعمه وإسناده لهذا الوجود.
والغاية من تشريع فريضة الصيام، لا تنفصل عن الغاية من الشريعة الإسلامية ككلّ، والتي ترتبط كافة أحكامها وخطوطها بمصالح واقعية، تعود على البشرية في تكوينها وفي كافة نواحي وجودها، وضمان الاستقامة لمسيرتها في الحياة، إلّا أنّ بعض المصالح والأهداف من الالتزامات في الشريعة تكون واضحة بارزة، يتم إدراكها والتوصُّل إليها على مدى تطوُّر الفكر الإنساني وتطلُّعاته، كما هو شأن الكثير من الواجبات والأحكام والتشريعات الإسلامية.
وأمّا البعض الآخر من الواجبات، حتى هذا الوقت – وبالرغم من تطوُّر الإدراك البشري وتضلُّعه في الاكتشافات العلمية – بقيت أسرارها وحكمها مغمورة خفيّة، ولم يمكن التوصُّل إليها، مثل عدد الركعات في الصلاة باختلاف أوقاتها، وكعدد السجدات في كلّ ركعة.
وسُمِّي هذا الجانب الخفي من ملامح العبادة بـ(الغيبية في تفاصيل العبادة) لتأكيد روح الانقياد والاستسلام، والارتباط المطلق لله تعالى، "فكما تنمي وترسخ روح الطاعة في نفس الجندي خلال التدريب العسكري بتوجيه أوامر إليه وتكليفه بأن يمتثل إليها تعبُّداً وبدون مناقشة، كذلك ينمي ويرسخ شعور الإنسان العابد بالارتباط المطلق بربّه بتكليفه بأن يمارس هذه العبادات بجوانبها الغيبية، انقياداً واستسلاماً.
فالانقياد والاستسلام يتطلّب افتراض جانب غيبي، ومحاولة التساؤل عن هذا الجانب الغيبي من العبادة، والمطالبة بتفسيره، وتحديد المصلحة فيه، والمطالبة بتفسيره، وتحديد المصلحة فيه، يعني تفريغ العبادة من حقيقتها كتعبير عملي عن الاستسلام والانقياد، وقياسه بمقاييس المصلحة والمنفعة كأيّ عمل آخر.." (مقدمة الفتاوى الواضحة/ السيد محمد باقر الصدر).
وفي فريضة الصيام نفسها توجد بعض التفاصيل ذات الأسرار الخفية الجوانب، التي يتمثّل فيها الانقياد المطلق للمعبود المطلق، مثل تحديد الصيام لفترة النهار فقط، وكونه محدداً بصيام ثلاثين يوماً من كلّ عام، وغير ذلك مما قد يعجز الفكر البشري أن يعطي فيه تفسيراً محدداً، أو مصلحة تجمع عليها الأفكار والأفهام.
ولكن بصورة عامّة عندما تتناول فريضة الصيام على بساط البحث والتحليل، من أجل استقراء بعض الملامح الإيجابية المتوخاة من وراء هذه الفريضة، وبدل الخوض في معرفة أهداف وغايات الصيام بصورة تفصيلية مطولة، لابدّ من معرفة حقيقتين مسلّمتين:
الحقيقة الأُولى: إنّ أيّة مادّة من مواد التشريع الاسلامي والتزاماته، إنما هي من أجل خير الإنسان ومصالحه، والذي ما فتئ يسعى إلى الخير وبطبعه ما وسعه، وليس لله تعالى حاجة لالتزامات الإنسان، لأنّه هو الغني المطلق، وعليه، فهو المتفضل على العبد بالهداية إلى سواء السبيل: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات/ 17).
ومن هنا لم تكن الواجبات والالتزامات طوقاً من قيود العبودية، أو عاملاً من عوامل الإرهاق والإيذاء للعباد، وإنما تحقق للعبد المؤمن نتيجتين في الحياة، هما:
أوّلاً: إنّها روافد تطهير وتزكية للنفس، ومنابع خير ونعمة، من لدن الله تعالى الإنسانية: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة/ 6).
ثانياً: إنّها روابط حبّ، وعلائق مودّة ورحمة بين العبد وربّه عزّوجلّ لا كأيّ من الروابط الأخرى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) (البقرة/ 165).
ولذلك جعل الله تعالى على لسان عبده المؤمن مسألة ومطلباً عظيماً، وهو سؤاله الهداية من ربّه تعالى بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6)، إذ يتكرر هذا المطلب في كلّ صلاة من الصلوات الخمس مرّتين أو أكثر، لما له من دور هام في حياة الإنسان المسلم، لأنّ الهداية منبع نعمة الله تعالى، ومهبط تكريمه وعنايته بعبده، يرتبط هذا المطلب بمواكبة قواعد وضوابط شريعة الله عزّوجلّ، قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16)، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة/ 66).
الحقيقة الثانية: إنّ الإنسان لا يستطيع بنفسه أن يُحدِّد أو يُقدِّم الضمان لمصالحه وخيره، وإنما يحتاج إلى مَن هو أقدر منه على تحديد غاياته ومصالحه، وإلى مَن يرسم الطرق الموصلة إلى تلك الغايات، لأنّ الإنسان محدود في تكوينه وخبراته العقلية، سريع التأثر والانفعال والارتباك والخوف.
قال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج/ 19-23).
فهو ذو طبيعة متزلزلة هلعة متخوفة، تربكها الشرور وتزعزعها المصاعب والنكبات، وتبطرها النعم، وتتحكّم بها أشكال من الميول والأهواء، فيحتاج في حياته الطويلة المضنية، إلى رابطة روحية دائمة بالله تعالى، تستوي من خلالها لديه حالات الشدّة والرخاء، وإلى تخطيط حكيم شامل لتحديد طريقه وأهدافه وواجباته وحقوقه، ولا شكّ أنّ الله تعالى هو وليُّ التخطيط المطلوب، وصاحب الحاكمية المطلقة، والولاية الدائمة على الكون والحياة.
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26).
وفي دعاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) الذي عَلَّمه أبا حمزة الثمالي (رض) والمُسمّى باسمه، والذي يُقرأ في أسحار شهر رمضان قوله: "مِن أينَ لي الخيرُ يا ربِّ ولا يوجدُ إلّا مِن عندك، ومن أينَ لي النجاةُ ولا تُستطاع إلّا بك، لا الذي أحسنَ استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يُرضك خرج عن قدرتك".
وهكذا – إذاً – أينما وضع الإنسان، وفي أيّ موقع من مواقع هذا الوجود، فهو قاصر عن إعطاء الحلول والمعالجات لمشاكله وقضاياه، وهو جاهل بما يمليه عليه المستقبل من ظروف وملابسات، وهو أضعف من أن يملك لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وهو لا تدري نفسه ماذا تكسب غداً ولا تدري بأيّ أرض تموت.
وعلى أساس هاتين الحقيقتين، جاء القرآن الكريم يحمل هذا التخطيط الحكيم لحياة الإنسان، ويقدم له الحلول والمعالجات لمشاكله، وأزماته في كلّ عصر، ويدعوه إلى مواكبة أوامر الله عزّوجلّ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24).
ومن ناحية أخرى جاء يتكفل العناية بتربيته وإعداده للصنع والإبداع في كافة مرافق الحياة، وعلى كافة الأصعدة والمستويات، ليُهيِّئ منه الإنسان الصالح لخلافة الأرض وإعمار الحياة، ولقد قام منهج التربية في القرآن الكريم لبناء شخصية الإنسان وتطوير مواهبه على أسلوبين:
الأوّل- الأسلوب النظري: وهو الذي يتكفّل إعطاء وتنمية المفاهيم والتصوُّرات الفكرية لهذا الإنسان على مستوى أُسس العقيدة والأخلاق والقيم السامية، وتثبيت جذورها في أعماق نفسه بصفتها تُشكِّل مادة التعامل الاجتماعي وأساس الحياة الهانئة، كمفاهيم البرّ والإحسان، والحبّ والوفاء، والأمانة والاستقامة، والصبر... إلى غيرها من المفاهيم التي تعتبر من المسلمات الإيمانية المعمقة في نفس المؤمن.
الثاني- الأسلوب العملي: وهو الذي يتكفّل عملية المسح الطبي لكلّ أمراضه وأدوائه بإعطاء واجبات، وتكاليف، والتزامات عملية منتظمة، يقوم بأدائها الإنسان في حياته مع الله تعالى، ومع المجتمع، ومع الأسرة، وحتى مع نفسه، لأجل أن يخلق منه إنساناً سليماً في كلّ شؤون حياته، وجادّاً مجتهداً متحرِّكاً في كلّ مجالاتها، بالعمل والإبداع المنتج للخير والبرّ الدائمين.
الکاتب : الشيخ عبدالرزاق آل فرج الله