في المقطع الأوّل: يستعرض سبحانه لنا ساحة الخلق ثمّ يطلب منّا اتّخاذ الموقف المتناسب مع تلك الساحة العظيمة. الاستعراض يتمّ من خلال مَلك من الملائكة وهو جبرئيل ونحن عباد الله نكرّر ما نطق به الروح الأمين فهو عليه السلام يبدأ باسم الله ثمّ ينطلق إلى الرحمانية والرحيمية ويستمّر إلى أن يوصلنا إلى يوم الدين فهو إذن قد بدأ من الأزل إلى الأبد، وبما أنّه تعالى مالك يوم الدين (لِمَن المُلكُ اليَومَ لِلهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ)(غافر/16). فهو مالك جميع النشئات المتقدّمة لأنّ القيامة حاكمة على جميع النشئات فمالكيته سبحانه شاملة، وكيف لنا أن نسلك هذا الطريق؟ وما هي الوسيلة التي تنقلنا إلى يوم الدين؟
إنّها نفس الوسيلة التي انتقل بها جبرئيل وهي (الحمد لله) فهو المركب الوحيد الذي ينبغي أن يستخدم للوصول إلى المقصد النهائي.
في المقطع الثاني : يطلب منّا نحن أن نتّخذ الموقف (إيّاك نعبد)
هذا المنطق الإلهي (أعني العلاقة بين المعرفة والعمل) منتشر في القرآن الكريم، نذكر مورداً واحداً فيه شبه كبير لفاتحة الكتاب، في سورة البقرة في البداية بيّن سبحانه خلق السماوات والأرض فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرضِ جَمِيعًا ثُمَّ استَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)(البقرة/29). ثمّ (وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً ...)
ثمّ أمر بالسجود له (وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِن الكَافِرِينَ)(البقرة/34( .
والآن نعود إلى فاتحة الكتاب، لماذا قلنا أن القسم الأوّل مرتبط بالمَلائكة؟ لأن المَلَك يعرف ويتابع كلّ ما هو متواجد في المقطع الأوّل أعني (البسملة والحمد ومعرفة الرحمانية والرحيمية ومعرفة مالكية يوم الدين). أمّا القسم الثاني فلا علاقة له بالملائكة بل هو مختصّ بمجموعتين من المخلوقات وهما الإنس والجنّ (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ) (الذاريات/56). فالملائكة لا يواجهون معبوداً غير الله لينفوه، ويحصروا العبادة به تعالى لأنّهم عباد مكرمون تكويناً فلا مجال لأن يقولوا (إيّاك نعبد (.
وأيضاً لا يزاحمهم أحد في طلباتهم لينفوه ويتوجهوا إلى الله تعالى فلا يتأتّى منهم قول (إيّاك نستعين(
وكذلك اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، فالنصف الثاني للعبد لا غير به يعرج إلى الارتفاع لأنّ الصراط ممتد إلى أعلى عليين !
فنحن العبيد من البدء نتوافق مع الملائكة إلى يوم الدين ثمّ هم يبقون في مكانهم من دون حركة، ونحن نتقدّم إلى الأمام إلى أعلى عليين ولا يمكنهم أن يلتحقوا بنا إبداً، ففاتحة الكتاب هو المعراج بعينه، لأنّ جبرئيل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم ولكن بمجرّد ما بلغ الى سدرة المنتهى انتهى الى الحجب، فقال جبريل: تقدّم يا رسول اللّه ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت فذهب وحيداً حتى وصل إلى مرحلة عظيمة هي أعلى من قاب قوسين وقد بيّن ذلك سبحانه في سورة النجم (وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَو أَدنَى فَأَوحَى إِلَى عَبدِهِ مَا أَوحَى مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ المَأوَى)(النجم 7-15 ).هنا ابتعد جبرئيل و ارتفع الحبيب (إِذ يَغشَى السِّدرَةَ مَا يَغشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى)(النجم 16-18). ولا يمكن لأمثالنا أن نتخيّل هذا المقام فضلا عن معرفته فالأفضل أن نسكت و نتدبّر ونقول (ما أدريك ما محمّد ) بل (ما أدريك ما العبد (
فهنيئاً لك أيّها الإنسان هذا المقام العظيم حيث يغبط الملائكة مقامك فاغتنم هذه الحياة الدنيا قبل أن يأتي يوم الحسرة .
إبراهيم الأنصاري