الشيخ محمّد مهدي بن أبي ذرّ النَّراقيّ. وُلد في « نراق » قرية من قرى كاشان ببلاد إيران، ولم يُعرف تاريخ مولده إلاّ من بعض المقارنات بين الوقائع، فيُظَنّ أن يكون وُلد عام 1128 هجريّ، أو قبل ذلك بقليل. أمّا وفاته فكانت سنة 1209 هجريّة في مدينة النجف الأشرف، ودُفن فيها.
والده ( أبوذرّ النَّراقي ) لا يُعرف عنه إلاّ كونه موظّفاً في الدولة بوظيفة متواضعة في قرية « نراق »، ولولا ابنه ( محمّد مهدي ) لَذهب ذِكره. ولا يُعلم ما إذا كان للشيخ إخوة، لكنْ له ولد نابه الذِّكر هو المولى ( أحمد النَّراقي ) صاحب « مُستَنَد الشيعة » المشهور في الفقه، وصاحب التأليفات الثمينة، وهو أحد أقطاب العلماء في القرن الثالث عشر، وأحد أساتذة الشيخ الشهير مرتضى الأنصاريّ.
ولعلّ النراقي الابن ( الشيخ أحمد ) هو أهم أسباب شهرة والده وذيوع صيته؛ لما كان له من اتّباع مساره العلمي، وحذوه حذو تأليفاته.. فالشيخ محمّد مهدي الأب ألّف «مُعتَمَد الشيعة» والابن الشيخ أحمد ألّف « مُستَنَد الشيعة »، والأب ألّف في الأخلاق كتاب « جامع السعادات » والابن ألّف « معراج السعادة »، والأب ألّف « مشكلات العلوم » فيما ألّف ابنه « الخزائن ».. وهكذا نسج الشيخ أحمد على منوال أبيه وأحكَمَ النسج، واشتهر هو، ثمّ به اشتهر والده المترجَم له الشيخ محمّد مهدي النراقيّ.
المنشأ العلميّ
عاش الشيخ النراقيّ كما يعيش عشرات الآلاف من أمثاله من طلاّب العلم، خاملَ الذِّكر فقير الحال، منزوياً في مدرسته لا يُعرف من حاله إلاّ أنّه طالب من أهل كاشان مقيم في مدينة إصفهان لتحصيل العلوم الدينية. وكان لا يتّصل به إلاّ أقرانه في دروسه، ولم يكن يهمُّهم شيء من شؤونه.. أمّا هو فكان يتردّد في دراسته العلميّة بين غرفته ومجالس الدرس، لا يُعرَف من حاله إلاّ ملابسه الرثّة التي ألِف الجميع منظرها، وهي تشير في الظاهر إلى فقره، وفي الباطن إلى زهده وعفّته وعزّة نفسه، إذ لم يتقبّل، بل لم يستطع أن يتقبّل صدقات الآخرين عليه.
هكذا كان النراقيّ في بداية حياته العلميّة، حيث لم يُعرف عنه تدريس أو اجتهاد أو تأليف. ثمّ أخذ بالدراسة جادّاً، حتّى بلغ شأواً دفعه إلى الانتقال إلى مدينة كربلاء المقدّسة ثمّ النجف الأشرف، فواصل دراسته العليا على يد الأعلام: الوحيد البهبهانيّ، والشيخ يوسف البحرانيّ صاحب « الحدائق الناضرة »، والمحقّق الشيخ مهدي الفتّونيّ. حتّى إذا فرغ من التحصيل هناك رجع إلى بلاده واستقرّ في مدينة كاشان، حيث أسّس فيها مركزاً علميّاً يُهاجَر إليه، وحوزةً علميّة مرموقة بعد أن كانت كاشان مقفِرة من العلم والعلماء.. فزَهَت بالشيخ النراقيّ ومشاريعه الموفّقة وجهوده المباركة في نشر علوم القرآن والسنّة الشريفة.
المنزلة العلميّة
• كتب الشيخ محمّد رضا المظفّر حول الشيخ محمّد مهدي النراقي يعرّفه، فقال فيه: أحد أعلام المجتهدين في القرنَين: الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة المباركة، ومن أصحاب التآليف القيّمة.
• وفي كتابه ( روضات الجنّات 20:7 ) كتب الميرزا محمّد باقر الخوانساريّ: كان الشيخ النراقيّ من أركان علمائنا المتأخّرين، وأعيان فضلائنا المتبحّرين.. مصنّفاً في أكثر فنون العلم والكمال، مسلَّماً في الفقه والحكمة والأصول والأعداد والأشكال [ أي الرياضيات والهندسة ].
ولعلّ منزلته العلميّة تعود ـ من جهة ـ إلى الفتور العلميّ الذي ساد في عصره، وطغيان نزعات فكريّة متطرفة. ومن جهة أخرى، إلى تفنّنه في دراسة العلوم وتدريسها، وعدم اقتصاره على بحوث الفقه والأُصول ومقدّماتهما، فقد شارك في العلوم الرياضيّة كالهندسة والحساب والنجوم.. ثمّ إنّه كان يمتلك أُسلوباً علميّاً خاصّاً في الإرشاد والتوجيه والبحث، إذ جانَبَ طغيان التصوّف من جهة، وعالج طغيان التحلّل الأخلاقيّ عند العامّة من جهة أُخرى، داعياً الناس إلى الاعتدال في السلوك والاستمداد من منابعه الشرعيّة.
ولعلّ مكانة الشيخ النراقيّ تتّضح في بعض جوانبها من خلال مؤلّفاته المتعدّدة القيّمة.
مؤلّفاته
بلغت مؤلفات الشيخ النراقيّ ـ حسبما وصل إلينا واشتهر ـ اثنين وثلاثين مؤلَّفاً، وهي:
في الفقه:
1. لَوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام، كتاب استدلاليّ.
2. مُعتَمد الشيعة في أحكام الشريعة.
3. التحفة الرضويّة في المسائل الدينيّة.
4. أنيس التجّار، في المعاملات.
5. أنيس الحُجّاج، في مسائل الحجّ والزيارة.
6. المناسك المكّيّة.
7. رسالة في صلاة الجمعة.
في أصول الفقه:
1. تجريد الأصول، يشتمل على جميع مسائل الأصول مع اختصاره.
2. أنيس المجتهدين.
3. جامعة الأصول.
4. رسالة في الإجماع.
في الحكمة والكلام:
1. جامع الأفكار، في الإلهيّات.
2. قرّة العيون.
3. اللمعات العرشيّة.
4. اللمعة.
5. الكلمات الوجيزة.
6. أنيس الحكماء، في المعقول.
7. أنيس الموحِّدين.
8. شرح الشفاء ( لابن سينا )، في الإلهيّات.
9. الشهاب الثاقب، في الإمامة.
في الرياضيّات:
1. المستقصى، في علم النجوم.
2. المحصَّل.
3. توضيح الأشكال، في الهندسة في شرح تحرير إقليدس الصوريّ.
4. شرح تحرير اكرثاذوسنيوس.
5. رسالة في علم عقود الأنامل.
6. رسالة في الحساب.
في الأخلاق والمواعظ:
1. جامع السعادات، ثلاثة أجزاء.
2. جامع المواعظ.
3. محرِّق القلوب، في مصائب آل البيت عليهم السّلام.
متفرّقات:
1. مشكلات العلوم، في المسائل المشكِلة من علوم شتّى.
2. رسالة نخبة البيان.
3. معراج السماء.
جامع السعادات.. نظرة منصفة
إنّ التأليف هو أحد الخدمات التي أدّاها ويؤدّيها العلماء للناس، فمن خلاله تُقدّم علوم الرسالة سهلةً مشروحة واضحة للأجيال، تقرأها فتنتفع بها في حياتها العمليّة والفكريّة والاعتقاديّة.
وبديهيّ أنّ الأخلاق لا تُكتسب بالتعلم وقراءة الكتب وحسب، وإنّما الأخلاق صفات ومَلَكات تحصل بالمُجاهَدات النفسية والتربية المعنوية الطويلة، إلاّ أنّ المواعظ والإرشادات والمقالات الأخلاقيّة ـ بلا شك ـ تؤدّي دوراً كبيراً في مضمار توجيه الناس وتذكيرهم وتعليمهم وحثّهم على عمل الصالحات وترك الموبقات.
وقد زخر القرآنُ الكريم والأحاديث الشريفة للنبيّ وآله صلوات الله عليه وعليهم بالحِكم والمواعظ البالغة، وهي أنوار مؤثّرة في مَن شرح الله قلبه للإيمان والتقوى والفضائل والخصال الطيّبة. ومن هنا نجد السبيل إلى إكرام جهود الأخلاقيّين وإعطاء مؤلّفاتهم حقَّها من التقدير، إذ ساهمت في تعريف الأمّة بالقيم الأخلاقية وبيانها الواجبات والمحرّمات والسنن في الحالات والظواهر، وقامت بدورها المؤثّر في دفع الناس إلى التأسّي بالأنبياء والأئمّة الأوصياء صلوات الله عليهم.
ومن بين هذه المؤلّفات النافعة كتاب ( جامع السعادات ) للشيخ محمّد مهدي النراقي، وقد امتاز بثلاث خصائص بارزة، هي:
الأُولى: اهتمام المؤلّف في بعض فصول الكتاب بعلم النفس وقوى النفس، والخير والشرّ والفضائل والرذائل، لا سيّما في الباب الأوّل.. حيث قسّم أبواب الكتاب وفصوله تقسيماً دقيقاً فاق فيه كتب الأخلاق السابقة من هذه الناحية.
الثانية: جمع المؤلف في كتابه هذا ـ إضافة إلى الأمور العلميّة ـ جوانب روحيّة وفكريّة ونفسيّة وعقائديّة. فهو يخاطب العقل مرّة والنفسَ مرّة أُخرى، والقلب مرّةَ ثالثة والروح رابعة.. وهكذا يثير الدفائن ويحرّك الأحاسيس ويوقظ الضمائر وينبّه الأفكار، فيدخل الكتاب إلى مراكز التأثير والتغيير، فيبدّل حال من يقرأ هذا الكتاب بإمعانٍ وانبساط.
الثالثة: يحسّ القارئ لكتاب ( جامع السعادات ) أنّ هناك تأثيراً منعكساً من روحيّة المؤلّف نفسه. وفي هذا أكبر الأثر في اجتذاب قلوب الناس، لأنّ قلب الرجل الأخلاقيّ يبرز ظاهراً على قلمه في مؤلّفاته، وكذلك أخلاقه هو بالذات لها أثر في كلماته التي يطلقها أو يدوّنها. وقيمة هذا الكتاب متأتّية من الروح المؤمنة المتقيّة التي يقرأها القارئ في ثناياه، وهي أفضل بكثير من قيمته العلميّة. حتّى أنّه من النادر أن يخرج القارئ لهذا المؤلّف دون أن يتأثّر به تأثيراً عميقاً، لا سيّما إذا كان مستعدّاً للخير والصلاح.
وهذا هو السرّ في إقبال الناس عليه وفي اشتهاره أيضاً، في حين لا يزيد الكتاب من الناحية العلميّة كثيراً على الكتب الأخلاقيّة المتداولة التي لا يجد فيها القارئ ذلك الذوق وتلك الروحانيّة كما يجدها في ( جامع السعادات ). وقد نُقل عن الشيخ النراقيّ الكثير من النوادر والطرائف والقصص التي تحكي تواضعه وطيبة قلبه وأدبه الرفيع وأخلاقه المحمودة، فجاء كتابه فيما بعد يجمع لقارئه ومطبّقه سعادات الدنيا والآخرة، ويجمع لمؤلفه كرامة الدنيا وحسن ثواب الآخرة، إذ هو « جامع السعادات » بحقّ.
خصال عالية
مع علمه الفيّاض.. يمتاز الشيخ محمّد مهديّ النراقيّ بشخصيّة قويّة وملكات نفسيّة فريدة، فقد عُرف عنه الصبر وقوّة الإرادة، وتفانيه في طلب المعرفة، وعزّة النفس. وهذه الصفات كانت راسخة في أعماق نفس النراقي، وعلى درجة ملحوظة، فممّا يُنقل عنه: أنّه كان فقير الحال شديد الفاقة أيّام تحصيله الدراسيّ، حتّى أنّه لَيعجز عن تدبير ثمن السِّراج الذي هو من زيت أو شمع في ذلك العصر، فيدعوه حرصه على العلم إلى المطالعة ليلاً في ممرّات المدرسة ودهاليزها، وتأبى عليه عزّته أن يدَعَ غيرَه يشعر به وبحاله.
ونُقل أيضاً: أنّ أحد الكسبة ـ وكان حانوته في طريق المدرسة العلميّة بكاشان حيث كان النراقي يسكن فيها ـ قد لاحظ على هذا الطالب رثّة ثيابه، وكان معجَباً بأخلاقه وسَمْته حينما كان يشتري منه بعض ما يحتاج كسائر الطلاب. فرأى هذا الكاسب أن يكسوه تقرّباً إلى الله تعالى، فهيّأ له ثياباً تليق بشأنه وقدّمها له عندما اجتاز من أمامه، فلم يقبل النراقيّ ذلك إلاّ بعد إلحاح، ولكنّه عاد في اليوم الثاني إلى الكاسب وأرجع إليه الثياب قائلاً له:
_ إنّي لمّا لبستها لاحظتُ على نفسي ضَعةً لا أُطيقها، لا سيّما حينما اجتاز عليك، فلم أجد نفسي تتحمّل هذا الشعور الثقيل. ثمّ أرجعها إليه شاكراً، ومضى معتزّاً بكرامته.
ونُقل كذلك: أنّه لم يسافر إلى خارج إصفهان موطن دراسته؛ لانشغاله بطلب العلم، إلاّ بعد أن أخبره أُستاذه إسماعيل الخاجوئيّ بمقتل أبيه ( أبي ذرّ النراقيّ ). فذهب لتصفية التركة ولتقسيم الإرث ولشؤون أُخرى، وكان عازفاً عن حطام الدنيا، فلم يمكث في « نَراق » إلاّ ثلاثة إيّام، بعدها عاد إلى إصفهان على بُعد الشقّة وكثرة المشقّة يومذاك.
وكما عُرف الشيخ النراقيّ بغزارة العلم، عُرف أيضاً بدماثة الأخلاق وحسن المعاشرة، فكان حليماً طيّب النفس متواضعاً متسامحاً غاضّاً طَرْفه عن إساءات الآخرين إليه، وبذلك ترجم ما كتبه إلى سلوك حياتيّ.
رحمه الله، وأسكنه فسيح جنّاته، ونفع بعلومه المؤمنين.