(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، (سورة الأعراف، آية: 199)
في الآية الكريمة إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) فتقول في البداية خذ العفو.
العفو: قد يأتي بمعنى الزيادة في الشئ أحيانا، كما قد يأتي بمعنى الحد الوسط، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، وتأتي أحيانا بمعنى استسهال الأمور.
والقرائن الموجودة في الآية تدل على أن الآية محل البحث لا علاقة لها بالمسائل المالية وأخذ المقدار الإضافي من أموال الناس، كما ذهب إليه بعض المفسرين. بل مفهومها المناسب هو استسهال الأمور، والصفح، واختيار الحد الوسط .
ومن البديهي أنه لو كان القائد أو المبلغ شخصا فظا صعبا، فإنه سيفقد نفوذه في قلوب الناس ويتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم: (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) [آل عمران، 159].
ثم تعقيب الآية بذكر الوظيفة الثانية للنبي (صلى الله عليه وآله) وتأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها الله عز وجل قائلة: وأمر بالمعروف.
وهي تشير إلى أن ترك الشدة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئا.
أما الوظيفة الثالثة للنبي (صلى الله عليه وآله) فهي أن يتحمل الجاهلين، فتقول: وأعرض عن الجاهلين.
فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفرادا متعصبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتهم، ويسيؤون الظن بهم ويحاربونهم.
فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الاكثرات بمثل هذه الأمور. والتجربة خير دليل على أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك.
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا آية في القرآن أجمع في " المسائل " الأخلاقية من هذه الآية " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين " .
قال بعض الحكماء في تفسير هذا الحديث: إن أصول الفضائل الأخلاقية وفقا لأصول القوي الإنسانية " العقل " و " الغضب " و " الشهوة " تتلخص في ثلاثة أقسام:
1 - الفضائل العقلية: وتدعى بالحكمة، وتتلخص بقوله تعالى: وامر بالعرف.
2 - والفضائل النفسية في مواجهة الطغيان والشهوة، وتدعى بالعفة، وتتلخص ب " خذ العفو ".
3 - والتسلط على القوة الغضبية، وتدعى بالشجاعة، وتتلخص في قوله تعالى وأعرض عن الجاهلين.
وسواء كان الحديث الشريف يدل على ما فسره المفسرون وأشرنا إليه آنفا، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ، فهو يبين هذه الحقيقة، وهي أن هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمن منهجا جامعا واسعا كليا في المجالات الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإيجابية البناءة والفضائل الإنسانية. وكما يقول بعض المفسرين: إن إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإيجاز في المبنى، والسعة في المعنى، يتجلى في الآية محل البحث تماما.
وينبغي الالتفات إلى أن الآية وإن كانت تخاطب النبي نفسه إلا أنها تشمل جميع الأمة والمبلغين والقادة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٥ - الصفحة ٣٤١