بسم الله الرحمن الرحیم
الَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا (سورة العنکبوت، آیة 69)
انطلقت مسيرة قاسم سليماني النضالية في أرض المعركة والقيادة منذ رَيْعان شبابه وعلى جبهات الدفاع المقدس، قبل ذلك لم يدرس في أي جامعة عسكرية ولم يتلقّى أي دورات في القيادة العسكرية. حصل معظم قادة وحدات الحرس الثوري على خبراتهم في ميدان المعركة والقيادة والعسكرية خلال فترة الدفاع المقدّس كما في حالة الحاج قاسم، وباتوا قادة كبار أرغموا أكثر جيوش الاستكبار تجهيزا وأعلاها من حيث الميزانية تلك التي تحتل العالم وأكثر المنظمات الهجومية الرهيبة في غرب آسيا على الإفصاح عن عجزها في مواجهتهم.
على الجبهة المقابلة، سعى جنرالات أعتى الجيوش تجهيزا وأحدثها في العالم من الذين لمعت على زيّهم العسكري ميداليات تنوعت ألوانها ونالوا علومهم ومهاراتهم العسكرية على طول مرحلة زمنية لاتقلّ عن العشرين سنة متتالية وبعد اجتياز دورات تخصصية من أفضل الجامعات العسكرية وأعرقها سمعةً متّكئين على أكثر التكنولوجيات تطورا وأضخمها تكلفة، على عشرات المليارات من الدولار، إلاّ أن هؤلاء الجنرالات أنفسهم، ولدى مواجهتهم في ميدان المعركة المئات من قاسم سليماني، أظهروا إمكانيات ضعيفة جدا وأرغموا على التراجع. لماذا؟ ما هي أسرار هذه الإنتصارات؟
كان يعتقد أخي القائد الفريق الشهيد قاسم سليماني علاوة على إحياء ذكرى الشهداء وعمليات الدفاع المقدس، أنه لابد من ذكر النقاط الهامة التعليمية قياديا وإداريا لمرحلة الدفاع المقدس وهذا الأمر تم طرحه خلال أحد مراسم إفطار القادة التي كنت أتشرّف باستضافتها في كل سنة، وشدّد على أنه إضافة إلى استعادة ذكريات الجبهة، سيكون من الجيد رفع مستوى هذه اللقاءات لمناقشة مبادئ الإدارة الجهادية للدفاع المقدس، ثم أعقب ذلك أخي اللواء رشيد الذي ألقى كلمة عميقة وموجزة ومفصلة في هذا الصدد خلال حفل إفطار القادة، والذي يمكن استدراكه في مكانه. هنا سأستغل هذه الفرصة، وأطرح بحثاً حول العلاقة المتبادلة بين قاسم سليماني والدفاع المقدس، آملاً أن تكون روح ذلك الشهيد العالي المقام تراقب هذا البحث وتكمله.
يعود القسم الأكبر للنجاح الدفاعي والأمني المتنامي للثورة الإسلامية والنظام المقدس والشعبي للجمهورية الاسلامية الايرانية إلى النهج الخاص في إدارة رأس المال البشري خلال مرحلة الدفاع المقدس. الحاج قاسم سليماني كان يقول مراراً: "كل ما لديّ كان من مرحلة الدفاع المقدّس". نحن نعلم أيضاً أن كل ما لدى مرحلة الدفاع المقدّس كانت من القاسم سليمانيين، وسرّ هذا التوفيق بالتحديد هو العلاقة المتينة بين هذين الطرفين.
في مدرسة إدارة الثورة الاسلامية والدفاع المقدّس، "التعلّم الجمعي الذكي" مع توأم "التدريب الثنائي أو التدريب المتبادل"، أصبحا أحد أبرز الأسباب التي حوّلت جبهات الدفاع المقدّس الى جامعة شاملة. الامام الخميني (رض) والامام الخامنئي أكدا مرارا على السمة التعليمية للجبهات، ووجوب توجه الباحثين والمحققين في مختلف الجامعات لاسيما جامعة الامام الحسين (ع) نحو هذا الأمر، وأنه ينبغي إجراء دراسات معمّقة في هذا المجال.
المقصود من "التعلّم الجمعي الذكي" في الدفاع المقدّس، إجراء قفزة من التعليم الى التعلّم، ومن التعلّم الفردي الى التعلّم الجمعي، ومن التدريب الفردي الى التدريب المتبادل بين عدّة أطراف، من التعلّم المرحلي الى التعلّم الدائم والمستمر، ومن التعلّم الثابت الى التعلّم الديناميكي.
في الواقع تلك الظاهرة المذهلة والمعجزة الالهية –الانسانية وموهبة الالهام التي تشكّلت في ظل الولاية وببركة الجهاد والشهادة في الجبهات نطلق عليها "التعلّم الجمعي الذكي" أو كما وصفه النص القرآني في سورة العصر المباركة (التواصي)، إنه طيف متنوّع من المناهج والأنشطة التي تحول جميع أنواع الحوافز التنافسية إلى تعاون وتعاضد، ويتطور هذا التعاون ويستخدم في مسار النمو والتنمية والمهارات الفردية والجماعية.
"التعلّم المتبادل" في الدفاع المقدّس، يتفرّع الى في الغالب الى صيغتين:
1 - التعلّم المتبادل بين الفئات العليا و السفلى:
في هذا النوع من التعلّم، يكون قائد الكتيبة مع قائد الفيلق، وقائد الفرقة مع قائد المقرّ، وقادة المقرّات العسكرية مع القائد العام للحرس الثوري كله في حالة ترابط متبادلة، يتعلمون من بعضهم البعض وينقل كل واحد منهم تجاربه وخبراته الى الآخر. لم تكن في الحرس الثوري سلسلة مراتب الضباط تسير باتجاه واحد فقط دون أي ترابط، ولم تكن هناك أية عملية أقوم بها كقائد عام للحرس الثوري دون عقد جلسات مع قادة الكتائب، أو لم أكن قد علّمت فيها أو تعلّمت، ولم تكن هناك عملية قام بها قاسم سليماني وغيره من قادة الفيالق حتى أدنى المراتب في الحرس من قبيل قادة المجموعات وحتى قادة السريات إلاّ وتم بها تطبيق التعلّم المتبادل.
2 - التعلّم المتبادل بين الفئات المتساوية:
في هذا النوع من التعلّم، يقوم القادة المتساويين في الرتب على سبيل المثال قادة المقرّات أو قادة الفيالق مع بعضهم البعض باعتماد أسلوب التعلّم المتبادل.
في المحصلة، يتحقّق "التعلّم الجمعي الذكي" عن طريق مجموعة منظّمة وخلاّقة من الإجراءات والطقوس والعمليات والتعليمات الفردية والجماعية، بشكل يتعلّم فيه الجميع من بعضهم البعض مع الحفاظ على التسلسل الهرمي للقيادة، وبهذا الشكل تم وضع "التدريس الذي يتمحور حول المعلم والفصل" جانباً بحيث بات كل من في هذه الجامعة الشاملة، في أي زمان ومكان، مدرسين وطلاباً على حد سواء، معلمون وملتمسون للمعرفة في الوقت نفسه.
الخطوة التالية والأهم من تحقيق "التعلّم الجمعي الذكي" في الدفاع المقدّس، هو أن يتخطّى هذا النوع من التعلّم المرحلة الزمنية الخاصة به ليغدو حقيقة متواصلة وموجهة نحو المستقبل (مع القدرة على إحداث تغييرات ومرونة وبناء المستقبل) وعند هذه النقطة على وجه التحديد تتولّد القوّة الناعمة.
تكمن القوّة الناعمة للثورة الاسلامية ونظام الجمهورية الاسلامية الايرانية في الأبعاد العسكرية والأمنية في مدى قدرتها على أن تكون مرنة وقابلة للتغييرات، لاسيما أنها تمكّنت من إثبات نفسها في معادلات جنوب غرب آسيا.
يقسّم بعض الخبراء البشر الى أربعة مجموعات أمام التغيير: 1- من هم يصنعون التغيير، 2- يتنبأون بالتغيير، 3- يتماشون مع التغيير، 4- يواجهون التغيير. تكمن القوّة الناعمة للمتخرجين من مدرسة الدفاع المقدّس الذين أثروا على المنطقة بإرادتهم وعملهم في عبورهم من المجموعة الثالثة المذكورة آنفا الى الثانية والصعود من المجموعة الثانية الى الأولى، وبالتالي تمكّنهم من إحداث التغيير وإدارته وفي المحصلة بناء المستقبل.
التعلّم الجمعي في الدفاع المقدس يشمل خاصتين هامتين: "الانسان المتمرّس" و"نظام تعليمي قابل للتغيير". بهذا الشكل تتجذّر المرونة الإبداعية في الفرد والمجموعة على حدّ سواء، بحيث يمكن إعادة تأهيل النفس بسرعة ودقة في التجارب المختلفة اللاحقة، وهنا لن يتم الحفاظ على جودة النفس فقط وإنما سترتقي بشكل متواصل ومتصاعد، وستبلغ "قدرة النهضة والتقدّم" وهذه "القدرة على التبدّل" شرط أساسي للحضارة.
وهنا من المناسب أن أعرّج على ذكر نموذج من بعض الأمثلة الوفيرة على ذلك:
في خريف عام 1985وفي خضم الدفاع المقدس، واجهت ايران أزمة اختطاف طائرات، وفي أحد ليالي شهر كانون الثاني 1985 اتصل المرحوم الحاج سيد أحمد الخميني، كنا حينها مع قيادة عمليات منطقة الجنوب في خضم التحضير لعملية بدر، ونقل حينها أوامر الامام التي جاء فيها: على الحرس الاسراع وتثبيت نقاطه داخل المطارات والقيام بتأمين التحليقات الجوية. بطبيعة الحال، كان الحرس الثوري يفتقر إلى أي خبرة في نشر قواته في المطارات لتأمين الرحلات الجوية، في حين الجميع يعلم أن الحماية والأمن الجوي تتطلبان تدريبا دقيقا ومتطورا وخبرة في مجال الطيران.
إلاّ أن مرونة الحرس الثوري وقدرات أبناء الثورة الاسلامية كانت إلى درجة أن الحرس أنجز هذه المهمة على الفور وسرعان ما تكيف مع هذه البيئة والمهمة الجديدة والمختلفة، ومع نشر القوات في المطارات وتأمين الرحلات بأقل الإمكانيات وأقصر وقت ممكن، تم تحقيق نجاح كبير حتى الآن، حيث أُحبطت عشرات عمليات اختطاف الطائرات، وعلى مدى السنوات الـ 36 الأخيرة، كان الحرس ناجحاً بنسبة 100٪ في هذه المهمة.
على أية حال، ونتيجة لثقافة "التعلّم الجمعي الذكي"، ظهرت قدرة وفعالية القاسم سليمانيين في عملية الفتح المبين على طريق القدس، وتجلّت في عمليات بيت المقدس بشكل أكبر من الفتح المبين، وفي والفجر 8 وكربلاء 5 نشهد بشكل مباشر قدراتهم المتطورة. تمكّن عزيزنا الحاج قاسم بعد انتهاء الحرب وخلال قيادته لمقرّ جنوب شرق البلاد، من وضع حدّ لانعدام الأمن والأعمال الخبيثة التي كانت حينها تعمّ محافظة سيستان وبلوشستان وتمتدّ نحو سيرجان بأقلّ تكلفة وبأكثر الوسائل المتاحة و قواته و من ضمن الاستفادة من مشاركة أهالي المنطقة، كما تألّق خلال حرب الــ33 يوما مع الكيان الصهيوني من خلال نضاله وتوظيف خُبراته الخلاّقة الى جانب قادة حزب الله الشجعان والابطال، وانتصر في المعركة ضد تنظيم داعش الارهابي مستخدما بحنكة وذكاء تجاربه خلال فترة الدفاع المقدّس لدحر التنظيم. هذه الوقائع، مثال بارز على البيان الخالد في جملة الامام الخميني (ره) عندما قال: "نحن في الحرب قمنا بتصدير الثورة الى العالم" وعلى درك أسرار تصريحات الإمام الخامنئي في "بيان الخطوة الثانية للثورة الاسلامية" القائمة على أساس "الجهود المبذولة لتحقيق الحضارة الإسلامية الحديثة".
هذا "الأثر المتبادل" الممزوج بالـ "النمو المتبادل" أو "البناء المتبادل" بين قادة ومحاربي الدفاع المقدس، كان له تأثير ليس فقط بين المحاربين أو في ساحات الجهاد، إنما في التفاعل بين قائدين أو أكثر.
كانت لدى كل واحد من قادة الدفاع المقدس علاوة على "المبادئ المشتركة لمدرسة القيادة الجهادية"، خصائص مميّزة ومختلفة بسبب مشاركتهم الفعّالة والإبداعية في ميدان الجهاد. في الحقيقة، تكشفّت المدرسة الجهادية للدفاع المقدس في كل من القادة البارزين وفقا لخصائص كل قائد خلال حضورهم في ساحة المعركة. القيادة الجهادية للحاج قاسم، واحدة من النماذج الموفقة في مدرسة القيادة الجهادية للدفاع المقدس حيث تجلّت فيه أكثر سمات الإدارة الجهادية إيجابيةً. إضافة الى الانتصارات التي حققها قاسم سليماني في ميدان الجهاد العسكري من ضمن إقناع القوات التي كانت تحت إمرته وخلق نوع من التعاضد والانسجام داخل الجبهة، كانت كل ماسنحت له الفرصة يكشف عن مقدراته الكبيرة في ميدان الجهاد السياسي وفي خوض المباحثات السياسية والعسكرية التي تتطلب قدرة على الإقناع وإظهار المودة والتقارب والمواءمة بين القادة السياسيين في العالم، وشهدنا ذلك عندما وفّق بمباحثاته مع قادة من قبيل بوتين، اردوغان، بشار الأسد وغيرهم من القادة السياسيين.
ببحث الأثر المتبادل بين القاسم سليمانيين والدفاع المقدس، يبدو أن دفاعنا خلال الثماني سنوات لوحة جميلة من حديث رسول الاسلام (ص) الذي جاء فيه: "کلکم راع و کلکم مسؤول عن رعیته". كنا نعلّم ونتعلّم من بعضنا البعض، في الحقيقة لقد صنعنا بعضنا البعض.
الأمر كذلك عندما كنا نقول أن قاسم سليماني متدرب في الدفاع المقدس وأحد مدربي الدفاع المقدس أيضاً. فهو من جهة كان يقوم بتأدية دور في الدفاع المقدّس ومن جهة أخرى، كان يصنعه. الحاج قاسم كان يطلب الشهادة دوماً وحقاً لقد كرّم الله تعالى جهاده بالشهادة.
في الختام أبعث تحياتي الفيّاضة إلى أرواح شهداء العالم الإسلامي لا سيما شهداء فترة الدفاع المقدس وجبهة المقاومة، وعلى وجه الخصوص القائد الفريق الشهيد الحاج قاسم سليماني و الشهيد العزيز الحاج أبو مهدي المهندس ورفاق دربهما، وأتمنّى أن يتعرّف جيلنا الشاب من خلال مطالعة هذا الكتاب القيّم الذي يرى النور بجهود إخواني الذين يستحقون الثناء في جامعة الإمام الحسين (ع)، على أسرار وخفايا الجهاد والتوفيق الالهي الذي لاقاه الحاج قاسم، ويتخذونها منهجاً في أسلوب حياتهم.
ومن الله التوفیق
أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي
تنويه: أسرار قيادة القائد الشهيد الحاج قاسم سليماني باعتبارها أسلوباً في الادارة الاسلامية جلبت انتباه الرأي العام والنخبة في العالم الاسلامي لمحتواها الزاخر بالموضوعات الهامة. دُوّن كتاب مؤخرا تضمّن مجموعة من مقالات نخبة أساتذة الجامعات والخبراء في العلوم الدفاعية والقيادة العسكرية بواسطة جامعة الإمام الحسين (ع) في ايران، وطُلب من القائد اللواء محسن رضائي أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام وقائد الحرس الثوري خلال مرحلة الدفاع المقدس كتابة مقدمة لهذا الكتاب، وفي القريب العاجل سيرى هذا الكتاب النور ويُنشر في الأسواق.