الامام الصادق عليه السلام مؤسس المذهب الجعفري

الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 09:32 بتوقيت غرينتش
الامام الصادق عليه السلام مؤسس المذهب الجعفري

الكوثر - أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، (ولد یوم 17 ربیع الأول 80 هـ فی المدینة المنورة وتوفی فیها فی مساء 25 شوال من سنة 148هـ)، إمام من أئمة المسلمین من ذریة الحسین بن علی بن أبی طالب علیه السلام وله مکانة جلیلة عظیمة لدى جمیع المسلمین.


لُقِبَ بالصادق لأنه لم یُعرف عنه الکذب، ویعتبر الإمام السادس لدى الشیعة الإمامیة (الإثنا عشریة والإسماعیلیة) وباقی فرق الشیعة، وینسب إلیه انتشار مدرستهم الفقهیة والکلامیة. ولذلک تُسمّى الشیعة الإمامیة بالجعفریة أیضاً، بینما یرى أهل السنة والجماعة أن علم الإمام جعفر ومدرسته أساسٌ لکل طوائف المسلمین دون القول بإمامته بنصبٍ من الله، وروى عنه کثیر من کتَّاب الحدیث السنة والشیعة على حدٍ سواء، وقد استطاع أن یؤسس فی عصره مدرسة فقهیة، فتتلمذ على یده العدید من العلماء. ومن الجدیر بالذِکر أن جعفر الصادق یُعتبر واحداً من أکثر الشخصیات تبجیلاً عند أتباع الطریقة النقشبندیة، وهی إحدى الطرق الصوفیَّة السنیَّة.(1)

و أنه من أوائل الرواد فی علم الکیمیاء حیث تتلمذ على یدیه أبو الکیمیاء جابر بن حیان. کذلک فقد کان عالم فلک، ومن علماء الکلام، وأدیباً، وفیلسوفاً، وطبیباً، وفیزیائیاً.(2)

نسبه

 

هو: جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب. وقد سُمی باسم "جعفر" تیمناً بجده جعفر الطیار الذی کان من أوائل شهداء الإسلام. کُنی جعفر الصادق بعدة کِنى منها: أبو عبد الله (وهی أشهرها)، وأبو إسماعیل، وأبو موسى. ولقب بالصادق، والفاضل، والطاهر، والقائم، والکامل، والمنجی. (3)

أم أبیه هی: أم عبد الله بنت الحسن بن علی بن أبی طالب. أمه هی: أم فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر بن أبی قحافة. أمَّا أم أمه فهی: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبی بکر بن أبی قحافة.

وقد اجتمعت فی نسبه خصائص میَّزته عن غیره کما قال الأستاذ عبد الحلیم الجندی: «فجعفر قد ولده النبی مرتین. وعلیّ مرتین، والصدّیق مرتین، لیدلّ بهذا المجد الذی ینفرد به فی الدنیا على أنه نسیج وحده. ومن الناحیة الأخرى ولده کِسرى مرتین. لیدلّ الدنیا - من أعلى مواقعها - على أن الإسلام للموالی والعرب. فذلک هو الدین الذی جاء به رسول الله.».(4)

مولده ونشأته

 

وُلد جعفر الصادق فی المدینة المنورة بتاریخ 24 أبریل سنة 702م، الموافق فیه 17 ربیع الأول سنة 80هـ، وهی سنة سیل الجحاف الذی ذهب بالحجاج من مکة. تنص بعض المصادر على أن ولادته کانت یوم الجمعة عند طلوع الشمس وقیل أیضاً یوم الاثنین لثلاث عشرة لیلة بقیت من شهر ربیع الأول سنة ثلاث وثمانین، وقالوا سنة ست وثمانین، وقیل فی السابع عشر منه.

اعتبره البعض من أتباع التابعین، إلا أن الظاهر أنه قد رأى سهل بن سعد وغیره من الصحابة، وروى عن أبیه، وعن عروة بن الزبیر وعطاءٍ ونافع والزهری وابن المنکدر، وله أیضاً عن عبید بن أبی رافع. وقد وُصف الصادق بأنه مربوع القامة، لیس بالطویل ولا بالقصیر، أبیض الوجه، أزهر، له لمعان کأنه السراج، أسود الشعر، جعده أشم الأنف قد انحسر الشعر عن جبینه فبدا مزهراً، وعلى خده خال أسود.(5)

والده محمد الباقر هو خامس الأئمة عند الشیعة، وقد اتخذ من ولده جعفر وزیراً، واعتمده فی مهمّات أموره، فی المدینة وفی سفره إلى الحج ، وإلى الشام عندما استدعاه الخلیفة هشام بن عبد الملک، وذلک لأنه کان أنبه إخوته ذکراً، وأعظمهم قدراً، وأجلّهم فی العامة والخاصة. فکان أبوه الباقر مُعجباً به، ونُقل عنه أنه قال: «إن من سعادة الرجل أن یکون له الولد یعرف فیه شبه خَلقه وخُلقه وشمائله، وإنی لأعرف من ابنی هذا شبه خَلقی وخُلقی وشمائلی».(6)

آلت الإمامة إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربیعه الرابع والثلاثین (34 سنة)، وذلک بعد أن استشهد والده مسموماً (وفق المصادر)، مثل کتاب الفصول المهمة لابن الصباغ المالکی، وکان ذلک فی ملک هشام بن عبد الملک، وتشیر المصادر إلى أن الأخیر کان وراء سمّ الباقر. وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصادق قال: «قال لی أبی ذات یوم فی مرضه: "یا بنی أدخل أناساً من قریش من أهل المدینة حتى أشهدهم"، فأدخلت علیه أناساً منهم فقال: "یا جعفر إذا أنا متّ فغسلنی وکفنی، وارفع قبری أربع أصابع، ورشّه بالماء"، فلما خرجوا قلت له: "یا أبت لو أمرتنی بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل علیک قوماً تشهدهم"، فقال: "یا بنی أردت أن لا تُنازَع، وکرهت أن یُقال أنه لم یوصِ إلیه، فأردت أن تکون لک الحُجة"».ووفق المعتقد الشیعی فإن الإمام الباقر رغب من وراء هذا أن یُعلم الناس بإمامة الصادق من بعده. وفعلاً فقد قام الإمام الصادق بتغسیل والده وتکفینه على ما أوصاه، ودفنه فی جنَّة البقیع إلى جانب الصحابة الذین توفوا قبله.(7)

زوجاته وأبناؤه :

 

تزوَّج الصادق من نساءٍ عدیدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسین الأثرم بن الحسن بن علی بن أبی طالب علیه السلام ، وکان أبوها ابن عم زین العابدین، ومنهن حمیدة البربریَّة والدة الإمام موسى الکاظم علیه السلام ، واتخذ إماء أخریات. وکان له عشرة أولاد، وقیل أحد عشر ولداً؛ سبعة من الذکور وأربع إناث، فأما الذکور فهم: إسماعیل (وإلیه ینسب المذهب الإسماعیلی)، وعبد الله، وموسى الکاظم، وإسحاق، ومحمد، وعلی (المعروف بالعریضی)، والعبَّاس. وأما الإناث فهن فاطمة وأسماء وفاطمة الصغرى وأم فروة. کانت زوجة الصادق الأولى هی فاطمة بنت الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب، وهی أم إسماعیل وعبد الله وأم فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسیة، یرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حمیدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشرع والدین ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشیعة وبالأخص نسائهم؛ لورعها وتقواها وحکمتها، وعُرفت باسم " حمیدة خاتون" و"حمیدة المصفّاة" بسبب ما قاله زوجها عنها: «حمیدة مصفّاة من الأدناس کسبیکة الذهب».(8)

وکان الإمام شدید الولوع بولده البِکْر إسماعیل وکثیر الإشفاق علیه؛ ولذا کان قومٌ من الشیعة یظنون أنه الإمام بعد أبیه، والأشهر أنه مات فی حیاة أبیه سنة 145هـ. ویفید أتباع المذهب الإثنی عشری أنَّ الامام الصادق علیه السلام کشف عن وجه إسماعیل مرات عدیدة بعد وفاته، وأشهد ثلاثین من صحابه على موته فشهدوا بذلک، کما أشهدهم على دفنه، لکن على الرغم من ذلک بقی فریق من الشیعة یعتقدون بإمامته وحیاته حتى بعد وفاة والده الصادق. وکان إسماعیل رجلاً تقیاً عالماً باراً مطیعاً لأبیه، أمَّا أخوه عبد الله فقد اتُهم بمخالفة أبیه فی الاعتقاد، وبأنه کان یخالط الحشویة، ویمیل إلى مذهب المرجئة، کما عارض أخاه موسى فی الإمامة، وادّعى الإمامة بعد أبیه لنفسه، احتجاجاً بأنه أکبر أخوته الباقین، واتّبعه حشدٌ من الناس قبل أن یرجعوا لإمامة موسى. وأقام نفر من الناس على القول بإمامة عبد الله؛ وهو النفر المعروف بالفطحیة تیّمناً بعبد الله الذی کان یُکنى بالأفطح، لأنه أفطح الرأس أوالرجلین - أی کان عریض الرأس والرجلین - على أنَّ عبد الله لم یعش بعد أبیه الصادق إلا سبعین یوماً ومات. وأما إسحاق فقد کان محدّثاً جلیلاً وقال بإمامة أخیه موسى. وأما محمد فکان سخیاً شجاعاً وفارساً، وقد خرج على الخلیفة العبَّاسی المأمون بمکة، لکنه خسر القتال، وصحبه العبَّاسیون إلى بغداد حیث عاش مُکرَّماً بقیَّة أیامه. وأما علی بن جعفر فقد کان راویاً للحدیث وقد لزم الإمام موسى الکاظم وروى عنه، وکذلک کان العباس.(9)

حیاته خلال العهد الأموی :

بعد وفاة الإمام محمد الباقرعلیه السلام بفترةٍ قصیرة وتولّی جعفر الصادق علیه السلام مقالید الإمامة الشیعیة، خرج عمّه زید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب أبو الحسین المدنی - خرج على هشام بن عبد الملک بالکوفة یرید قتاله وإرجاع الخلافة إلى بنی هاشم. وکان زیدٌ قد واعد أصحابه على الخروج فی اللیلة الأولى من شهر صفر عام 122هـ، الموافق لشهر ینایر فی عام 740م، لکن یوسف بن عمر والی العراق کان الأسرع إلى التحرّک، بعد أن بلغته أنباء التحضیر للثورة، فأمر عامله على الکوفة، الحکم بن أبی الصلت، أن یضع حداً لهذه الحرکة. فدعا هذا الوالی الناس إلى اجتماعٍ فی المسجد قبل خروج زید بیومٍ واحد، وهدّد کل من یتخلَّف منهم. فلما اجتمعوا حبسهم. وأضحى زید مهیض الجناح فلم یجد معه سوى مائتین وثمانیة عشر رجلاً ممن بایعوه. وواجه مع أصحابه القلائل قوَّات الوالی فی شوارع الکوفة وأزقتها، فأصابه سهم، وتوفی متأثراً بجراحه. على الرغم من مقتل عمَّه على ید الأمویین، فإنَّ الامام جعفرالصادق علیه السلام لم یثر على الدولة، ورفض فکرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة، وقد حاول عدد من أتباعه حثّه على الثورة ودعم قضیتهم الهادفة إلى إقامة الخلافة الإسلامیَّة الحق فی ذریَّة علی بن أبی طالب علیه السلام ، وتشیر مصادر أهل السنة والجماعة إلى أنَّ بعض هؤلاء الأتباع من الذین رأوا أن أبا بکر وعمر وعثمان قد اغتصبوا الخلافة غصباً، حاولوا إقناع الامام الصادق علیه السلام بالتبرؤ منهم، لکنه رفض ، بالمُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ الصادق کان یؤمن بأنه الأحقّ فی الخلافة التی أوصى بها الرسول لعلیّ وذریته من بعده، لکنه رفض الثورة على الحکومة الأمویَّة ، (10)

 

حیاته خلال العهد العبَّاسی :

خلال أواخر العهد الأموی نشأت حرکة مُناهضة عُرفت بالحرکة العبَّاسیَّة، نظراً لأن مؤسسیها محمد بن علی بن عبد الله وأخوه أبو العبَّاس یرجعان بنسبهما إلى العبَّاس بن عبد المطلب أصغر أعمام النبی محمد، تولّى أبو العبَّاس شؤون الحرکة العباسیة بناءاً على دعوة أبو مسلم الخراسانی بعد وفاة شقیقه؛ وقد نجحت الحرکة العبَّاسیة فی خلع آخر خلفاء بنی أمیَّة عن العرش والقضاء على هذه الأسرة الحاکمة فی دمشق، وبویع أبو العباس بالخلافة ولقب بالسفّاح لکثرة سفکه الدماء،خصوصاً لدى دخوله دمشق حاضرة الأمویین، إذ نهب بیوت الأسرة الأمویة والمقرّبین منها وأحرق قصورهم ثم نبش قبور خلفائهم. وقد استمال العبَّاسیون الشیعة الناقمین على الحکم الأموی، فساعدهم هؤلاء فی التغلّب على الأمویین، وتوقعوا أن تؤول الخلافة إلیهم،لکن حصل عکس ذلک، فبعد وفاة أبو العبَّاس السفَّاح أخذت البیعة لأخیه أبی جعفر المنصور والذی کان السفاح قد عیّنه ولیًا للعهد. ولمَّا تولّى المنصور الخلافة وضع نصب عینیه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن یقضی علیها: منافسة عمه عبد الله بن علی له فی الأمر، وقد کان موکلاً بتدبیر جیوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزیرة الفراتیة والموصل لیغزو بهم الروم، واتساع نفوذ أبی مسلم الخراسانی حتى أصبح وکأنه شریک ذو سطوة وسلطان فی حکم الدولة الإسلامیَّة، والقضاء على بنی عمومته من آل علی بن أبی طالب علیه السلام الذین لا یزال لهم فی قلوب الناس مکان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زید والامام جعفر الصادق علیه السلام ، فخاف أبو جعفر أن یحاولا الخروج علیه،لا سیَّما وأنهما یُمثلان التیَّار الذی ساعد بنی العبَّاس فی الوصول إلى الحکم رغبةً بتولّی الخلافة.

وفی واقع الأمر فإنَّ الامام جعفر الصادق علیه السلام کان مُدرکاً لعاقبة تعاطیه السیاسة والتقرّب إلى الحکَّام منذ أن أخذت الدولة الأمویة تلفظ أنفساها الأخیرة، حیث أنَّ أبا مسلم الخراسانی حاول أن یزجّ الإمام فی الثورة العبَّاسیَّة نظراً لکلمته المسموعة بین الشیعة خصوصاً الذین یرونه معصوماً، وبین سائر المسلمین الثائرین، لکنه رفض المشارکة فی الثورة العبَّاسیَّة، وتملَّص من الدعوة، وتفرَّغ لعمله الأهم الذی یعتمد علیه قیام الدین الإسلامی فی مواجهة الأفکار الدخیلة والمذاهب الفکریَّة المنحرفة عن الطریق الذی یدعو إلیه الإسلام. وقد استغل الإمام جعفر الصادق علیه السلام انشغال أبی العبَّاس السفَّاح فی بدایة العهد العبَّاسی فی القضاء على الفتن الصغیرة وتوطید دعائم الدولة الجدیدة، فعمل على نشر العلم والدین والمعرفة، وحضر مجالسه علماء کبار وتناقشوا فی أمور الدین والدنیا، ومنهم الإمامین أبو حنیفة النعمان ومالک بن أنس، وقد أدَّت هکذا مناظرات إلى تشکیل المذاهب الإسلامیَّة الکبرى الباقیة حتى العصر الحالی. على الرغم من انصراف الإمام جعفرالصادق علیه السلام إلى شؤون العلم الدینی والدنیوی وابتعاده عن السیاسة، إلا أنه بقی محط أنظار الخلیفة العبَّاسی، لا سیَّما وأن عدداً من أتباع زید بن علی انضموا إلى مجالسه واستمعوا لکلامه ومواعظه وإرشاداته بعد أن لاحقهم العبَّاسیّون بلا هوادة، فأقدم العبَّاسیّون على اعتقال الامام الصادق علیه السلام غیر مرَّة، وزُجَّ بالسجن لفترة من الزمن على أمل أن تنقطع الصلة بینه وبین تلامیذه الذین یُحتمل أن یهددوا استقرار الدولة وینفذوا انقلاباً على الخلافة. وقد تحمَّل الامام الصادق علیه السلام ما تعرَّض له من مضایقات من قِبل الحکومة العبَّاسیَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمر یقیم مجالسه العلمیَّة ومناظراته الدینیَّة مع کبار علماء عصره من المسلمین وغیرهم من أهل الکتاب والملاحدة.(11)

مکانته العلمیة :

 

عُرف عن الإمام الصادق إطّلاعه الواسع وعلمه الغزیر، حیث شهد له بذلک الأکابر من العلماء، منهم تلمیذه الإمام أبو حنیفة حیث نوّه بعلم أستاذه الإمام جعفر الصادق ومقدار فضله حینما سُئل: «"من أفقه من رأیت؟" فأجاب قائلاً: "جعفر بن محمد، لمَّا أقدمه المنصور بعث إلیَّ فقال: یا أبا حنیفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهیّء له مسائلک الشداد، فهیّأت له أربعین مسألة، ثم بعث إلیَّ أبو جعفر وهو بالحیرة فأتیته فدخلت علیه وجعفر جالس عن یمینه، فلما بصرت به دخلنی من الهیبة لجعفر [الصادق]ما لم یدخلنی لأبی جعفر [المنصور]، فسلمت علیه فأومأ إلیّ فجلست، ثم التفتّ إلیه فقال: یا أبا عبد الله هذا أبو حنیفة، فقال: نعم أعرفه. ثم التفتّ إلیَّ فقال: ألقِ على أبی عبد الله من مسائلک، فجعلت ألقی علیه ویجیبنی فیقول: أنتم تقولون کذا، وأهل المدینة یقولون کذا، ونحن نقول کذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جمیعاً، حتى أتیت على الأربعین مسألة فما أخلّ منها بشیء!" ثم قال أبو حنیفة: "ألیس قد روینا: أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس؟!"».(12)

عاش الإمام الصادق فی فترة حاسمة جداً من الناحیة السیاسیة، وهی الفترة التی تلت سقوط الدولة الأمویة وقیام الدولة العباسیة وعادة ما تعطی الدولة الجدیدة هامشاً کبیراً من الحریة والتحرک، ولذا بدأ الإمام الصادق بتأسیس نواة علمیة ووضع أرکان مدرسته الکبرى التی خرّجت الآلاف من الطلاب والعلماء، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الکوفة:«أدرکت فی هذا المسجد 900 شیخ کلهم یقول: "حدثنی جعفر بن محمد"»، مع العلم أن بین الکوفة والمدینة - التی کانت معقل الإمام الصادق - مسافة شاسعة وهذا یدل على مدى التأثیر العلمی الذی أحدثه الإمام جعفر الصادق فی ربوع العالم الإسلامي. وهکذا فحینما ارتفع الضغط الذی کان یمارسه الأمویون على مدرسة الإمام بدأ الطلاب یتوافدون على مدرسته من کل حدبٍ وصوبٍ، ینقل الأستاذ أسد حیدر فیقول: « کان یؤم مدرسته طلاب العلم ورواة الحدیث من الأقطار النائیة، لرفع الرقابة وعدم الحذر فأرسلت الکوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمد أفلاذ أکبادها، ومن کل قبیلة من بنی أسد، ومخارق، وطی، وسلیم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبنی ضبة، ومن قریش، ولا سیَّما بنی الحارث بن عبد المطلب، وبنی الحسن بن الحسن بن علی».(13)

وقد کتبت أقلام کثیرة حول علم الإمام الصادق، وخصّصت کتباً وفصولاً حول ذلک، ویدخل فی هذا السیاق مناظراته العلمیة والدینیة التی دلّت على علمٍ جمٍ وفضلٍ غزیرٍ، فقد کان للإمام جعفر الصادق کثیر من المناظرات مع العلماء وغیرهم فی الدین والعلوم الإنسانیة المختلفة، وقد اتّبع الإمام الصادق منهجاً منطقیاً تسلسلیاً فی المناظرة والنقاش وهو أسلوب علمی یُبرز مکانته العلمیة وقدرته على استحضار کافة جوانب الموضوع وحضور البدیهة فی الرد، وکان من الطبیعی أن یتعرض شخص بهذا المستوى الکبیر من الفهم والعلم والمکانة لأسئلة المستفسرین وإنکار الملحدین ومکابرة کثیر من الفئات المتأثرة بالعلوم المستقدمة من هنا وهناک، ومن تلک المناظرات:

1. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع الملحدین.

2. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع أبی حنیفة فی القیاس.

3. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع رؤساء المعتزلة.

4. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع طبیب هندی.

5. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربیعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم المعروف باسم عبد الله بن الفضل الهاشمی.

6. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع الزنادقة، الملاحدة، المشککین بقدرة الله.

7. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع ابن أبی العوجاء.

8. مناظرة الإمام جعفر الصادق مع أبی حنیفة فی حکم التوسل بالنبی.

9. مناظرة الإمام جعفر الصادق فی الحکمة من الغیبة.

ولم تکن الأسئلة التی تُطرح على الإمام الصادق مختصة بالمسائل الفقهیّة أو الحدیثیّة، فقد کان عصره عصر ترجمةٍ وعلوم، وکان یأتیه علماء ومفکرون متأثرون بتیارات الفلسفة الیونانیة التی کانت منتشرة فی تلک الحقبة من الزمن، ویُلاحظ هذا المعنى واضحاً فی نقاشات الإمام الصادق مع عبد الکریم بن أبی العوجاء الذی کان یشکّک فی الدین والعقیدة الإسلامیة من منطلق فلسفی وکلامی، فقد جاء ابن العوجاء إلى الإمام الصادق وأشکل على الآیة القرآنیة: إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ بِآیَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِیهِمْ نَارًا کُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَیْرَهَا لِیَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ کَانَ عَزِیزًا حَکِیمًا وقال ما مضمونه: إذا عصت الجلود وعذبها الله ثم بدّلها بجلود غیرها وعذبها، فما هو ذنب هذه الجلود الجدیدة حتى تُعذب؟ مع أن الجلود الأولى هی التی عصت؟! فأجابه الإمام الصادق: "هی هی، وهی غیرها"، وأوضح له بأنه لو أخذ طابوقة بناء وصبّ علیها الماء ثم عجنها وقولبها مرة أخرى على شکل طابوقة، فهی نفس الطابوقة من حیث وحدة مادتها وهی غیر تلک الطابوقة باعتبار شکلها الجدید.(14)

وغیرها من المناظرات فی شتى المواضیع، والتی أظهرت للعالم الإسلامی مکانته العلمیة المرموقة ومنزلته السامیة بین علماء المسلمین.

 

مذهبه ومنهجه الاجتهادی :

یتشابه منهج الإمام جعفر ومنهج علماء أهل السنَّة فی أمور أساسیَّة؛ فهو یعتمد بالتدریج على القرآن والسنَّة النبویة والإجماع ثم الاجتهاد. لکنه یضیف إلى ذلک أمراً أساسیّاً عند الشیعة، هو الاعتقاد بالإمامة وما یترتب علیه من تقییم للصحابة وفتاواهم وأحادیثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البیت. ویترتب على المفهوم الشیعی للإمامة القول بعصمة الإمام. فکانت اجتهادات الإمام غیر قابلة للطعن، لأنه معصوم عن الخطأ والنسیان والمعصیة؛ بل إنَّ أقواله واجتهاداته تدخل حکماً فی إطار السنَّة. ولا یمکن لکل فرد أن یُدرک معانی القرآن الباطنة؛ بل هذا أمرٌ خاص بالأئمة فقط، لأن اجتهاداتهم أکثر مطابقة من غیرها لمقاصد الشریعة؛ وذلک أنَّ نوراً إلهیّاً حلَّ فی النبی محمد وفی الأئمة من بعده، فاجتمع عندهم علم الشریعة بظاهرها وباطنها.

وتشدد الإمام جعفر کثیراً فی مسألة القیاس. فلا یُقبل القیاس ما لم یکن الحکم المُقاس علیه معللاً بعلَّة منصوص علیها. أمَّا القیاس المُفتقر إلى علَّة منصوص علیها فیُصبح رأیاً عنده. والفقه بالرأی مرفوض، لأنه فعل إنسانی لیس فیه ضمانة شرعیَّة. ویُقرّ الفقه الجعفری بالإجماع شرط أن یکون صادراً عن أئمة الشیعة. أمَّا إجماع عامَّة الصحابة فلا یکون حجَّة إلّا إذا کان الإمام علی بن أبی طالب طرفاً فیه. فالإجماع هو من حق الأئمة المعصومین. أمَّا الإجماع العام فهو مرفوض، لأنه لا یوفر أیضاً ضمانة شرعیَّة. وإلى ذلک لابدَّ من الاجتهاد واللجوء إلى العقل الصرف عند عدم وجود نص من قرآن أو سنَّة أو إجماع الأئمة وذلک لتأمین مصلحة المسلمین، وهذا نوع من الاستصلاح. فالمصلحة العامَّة تعتبر أصلاً من أصول التشریع عند عدم وجود نص. لکن الاجتهاد لیس لکل الناس؛ إنه أولاً وأساساً للأئمة المعصومین، ثمَّ لفضلاء العلماء المجتهدین، شرط ألّا یُخالفوا باجتهاداتهم ما جاء به الإمام المعصوم الذی یستمد اجتهاداته الفقهیَّة من النور الإلهی الذی حلَّ فیه. لذلک کان رأی الإمام المعصوم موثوقاً لا یتطرّق إلیه الخطأ. والإمام حاضر للظهور إذا أخطأ المجتهدون لکی یُسدد خطاهم؛ ولتبقى الأمَّة على الطریق المستقیم، فالله لا یقطع الحبل الممدود بینه وبین عباده وإلّا فسدت الأرض بمن علیها.(15)

 

سبب تسمیة المذهب الشیعی باسمه:

جمیع الائمة"المعصومین" علیهم السلام، ومنهم جعفر بن محمد الصادق علیه السلام ، على حدٍ سواء من حیث المنزلة، غیر أنه من المُلاحظ نسبة المذهب الشیعی إلى الإمام جعفر الصادق دون غیره، فیُقال "المذهب الجعفری" أو "الطائفة الجعفریة"، فان جملة من الأسباب تقف وراء ذلک، أهمها:

أولاً: إن زمن استقلاله بالإمامة قد جاوز الثلاثین عاماً وهذه الفترة الطویلة نسبیاً قد مکّنته من تأسیس العلوم الرئیسیة للمذهب الشیعی.

ثانیاً: إن أیامه کانت أیام حراک ثقافی واسع ونشاط علمی وفقهی، حیث الکلام والمناظرات، والحدیث والروایة، والبدع والضلالات، والآراء المختلفة والمذاهب المتنوعة، وهذه فرصة جدیرة بأن یبدی العالم فیها علمه، فکان لنقاشه ومناظراته أثر کبیر فی تکوین علم الکلام الشیعی، وتحدید معالمه.

ثالثاً: إِنّه مرّت علیه فترة من الرفاهیّة على بنی هاشم لم تمرّ على غیره من أئمة الشیعة، فلم یتّفق له على الأکثر ما کان یحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضییق علیهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوک أیامهم.

رابعاً: انشغال الدولة العباسیة فی تطهیر الأرض من بنی أمیة وبالتالی لم تعنَ کثیراً بالحرکات الدینیة والثقافیة، فوجد الإمام جعفر الصادق علیه السلام فی ذلک فرصة مؤاتیة لنشر معارفه وآرائه التی أثرت أثراً کبیراً فی تکوین الملامح الأساسیّة للمذهب الشیعی. لهذا ولغیره من الأسباب صارت الطائفة الشیعیة تُنسب إلیه وتُسمى باسمه.(16)

تلامذته :

 

رسم أوروبی من القرن الخامس عشر یظهر فیه أبو الکیمیاء جابر بن حیَّان أبرز تلامیذ المام جعفر الصادق علیه السلام.

کان جعفر الصادق أحد أبرز العلّامات فی عصره، فإلى جانب علومه الدینیَّة، کان عالماً فذّاً فی میادین علوم دنیویَّة عدیدة، مثل: الریاضیَّات، والفلسفة، وعلم الفلک، والخیمیاء اوالکیمیاء، وغیرها. وقد حضر مجالسه العدید من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على یده، ومن هؤلاء أشهر کیمیائی عند المسلمین أبو موسى جابر بن حیَّان المُلقب بأبی الکیمیاء. کما حضر مجالسه وتلقّى من علومه اثنان من کبار الأئمة الأربعة هما الإمامان أبو حنیفة النعمان ومالک بن أنس، وقد نقل الأخیر 12 حدیثاً عن جعفر الصادق فی مؤلفه الشهیر "الموطأ"،بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة.(17)

استشهاده :

قبر الإمام الصادق فی البقیع قبل هدمه.

استشهد  جعفر الصادق سنة 148هـ، الموافقة لسنة 765م کما نصّت على ذلک بعض المصادر التاریخیّة؛ قال ابن کثیر (المتوفى سنة 774هـ): «ثم دخلت سنة ثمان وأربعین ومائة ... وفیها توفی جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق».وقال ابن الأثیر (المتوفى سنة 630هـ) فی معرض حدیثه عن الأحداث التی وقعت فی سنة 148هـ: «وفیها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدینة یُزار هو وأبوه وجده فی قبر واحد مع الحسن بن علی بن أبی طالب». وغیر ذلک من المصادر التاریخیّة المعتبرة. وقد کان الإمام جعفر الصادق فی آخر لقاءاته مع أبی جعفر المنصور یقول له: « لا تعجل، فقد بلغت الرابعة والستین وفیها مات أبی وجدی» فرأى بعض الباحثین أن هذه الکلمة توحی بأن الإمام جعفر الصادق کان یشعر باقتراب موته.

وکان آخر ما أوصى به الإمام الصادق هو الصلاة کما یظهر من بعض الروایات منها هذه الروایة التی نقلها أبو بصیر وقال: «دخلت على أم حمیدة أعزیها بأبی عبد الله [الصادق] فبکت وبکیت لبکائها، ثم قالت: "یا أبا محمد لو رأیت أبا عبد الله عند الموت لرأیت عجباً"، فتح عینیه ثم قال: "اجمعوا کل من بینی وبینه قرابة"، قالت: "فما ترکنا أحداً إلا جمعناه"، فنظر إلیهم ثم قال: "إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة"»(18)

دُفن جعفر الصادق فی جنَّة البقیع بالمدینة المنورة إلى جانب والده وأجداده وباقی الصحابة. وتفید الکثیر من المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على ید الخلیفة العبَّاسی أبو جعفر المنصور الذی کان یغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فیه: «هذا الشّجن المُعتَرِضُ فی حُلوقِ الخلفاءِ الّذی لا یجوزُ نفیُهُ، ولا یحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعنی وإیّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِکَت فی الذرّیة، وقُدِّست فی الزُّبر، لکان منِّی ما لا یُحمدُ فی العواقبِ، لِمَا بلغنی من شدّة عیبِهِ لنا، وسوءِ القول فینا»،وأنه حاول قتله أکثر من مرَّة، وأرسل إلیه من یفعل ذلک، لکن کل من واجهه هابه وتراجع عن قتله، کما تفید تلک المصادر أنَّ المنصور کان یخشى أن یتعرَّض للإمام؛ لأن ذلک سیؤدی لمشاکل جمَّة ومضاعفات کبیرة. ومما قیل عن الفتور الذی کان بین الصادق والمنصور، أنَّ الأخیر کتب له یقول: "لِمَ لا تزورنا کما یزورنا الناس؟!"، فأجابه جعفر الصادق: «لیس لنا فی الدنیا ما نخافک علیه، ولا عندک من الآخرة ما نرجوک له، ولا أنت فی نعمة فنهنّئک بها وفی نقمة فنعزیک بها». فکتب إلیه مجدداً: "تصحبنا لتنصحنا". فکتب الصادق إلیه: «من یطلب الدنیا لا ینصحک، ومن یطلب الآخرة لا یصحبک».

 

الإمام الصادق کما عرفه العلماء :

أقوال علماء السنَّة فیه :

یرى أهل السنة والجماعة أن جعفر الصادق إمام من أئمة المسلمین، وعالم من علمائهم الکبار، وأنه ثقة مأمون، وأقوال أئمة الحدیث فیه طافحة فی الثناء والمدح، ومن بعض الشهادات التی وردت من علماء أهل السنة بحق الإمام جعفر بن محمد الصادق:

قال الذهبی فی معرض حدیثه عن الإمام الصادق: «جعفر بن محمّد بن علی بن الحسین الهاشمی أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق کبیر الشأن ولیس هو بالمکثر إلا عن أبیه، وکان من جلَّة علماء المدینة، وحدَّث عنه جماعة من الأئمة،منهم أبو حنیفة ومالک وغیرهما.».(19)

وقال النووی: «روى عنه محمّد بن إسحق، ویحیى الأنصاری، ومالک، والسفیانیان، وابن جریح، وشعبة، ویحیى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسیادته، قال عمرو بن أبی المقدام: کنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبیّین

وقال ابن خلکان: «أحد الأئمة الإثنی عشر على مذهب الإمامیّة، وکان من سادات أهل البیت، ولقّب بالصادق لصدقه فی مقالته، وفضله أشهر من أن یذکر

وقال الشبلنجی:«ومناقبه کثیرة تکاد تفوت حدّ الحاسب، ویحار فی أنواعها فهم الیقظ الکاتب(20)».

وقال محمد الصبان: «وأمّا جعفر الصادق فکان إِماماً نبیلاً. وقال: وکان مُجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شیئاً لا یتمّ قوله إِلا وهو بین یدیه».(21)

وقال سبط ابن الجوزی: «قال علماء السیر: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مکارم أخلاقه ما ذکره الزمخشری فی کتابه ربیع الأبرار عن الشقرانی3 مولى رسول اللّه قال: خرج العطاء أیام المنصور ومالی شفیع، فوقفت على الباب متحیّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذکرت له حاجتی، فدخل وخرج وإذا بعطائی فی کمّه فناولنی إِیّاه، وقال: إِن الحَسَن من کلّ أحد حَسَن، وأنه منک أحسن؛ لمکانک منّا، وأن القبیح من کلّ أحد قبیح، وأنه منک أقبح؛ لمکانک منّا. وإِنما قال له جعفر ذلک؛ لأن الشقرانی کان یشرب الشراب، فمن مکارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعریض، وهذا من أخلاق الأنبیاء».(22)

قال الشیخ محمَّد بن طلحة الشافعی (ت 652 هـ): «هو من عُظماء أهل البیت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بیِّنة، وتلاوة کثیرة، یتتبع معانی القرآن الکریم، ویستخرج من بحره جواهره، ویستنتج عجائبه ...».(23)

قال مالک بن أنس إمام المالکیة: «وما رأتْ عَینٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً»،ویقول فی کلمة أخرى: «ما رأت عینی أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وکان لا یخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاکراً، وکان من عظماء البلاد، وأکابر الزهّاد الذین یخشون ربّهم، وکان کثیر الحدیث، طیب المجالسة، کثیر الفوائد».(24)

قال ابن الصبّاغ المالکی: «کان جعفر الصادق - من بین أخوته - خلیفةَ أبیه، ووصیَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعة بالفضل؛ وکان أنبهَهُم ذِکراً، وأجلَّهُم قدراً ...».(25)

قال حسن بن زیاد: «سمعت أبا حنیفة و[قد]سُئل من أفقه من رأیت؟ فقال: ما رأیت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد».(26)

أهم الأحداث المتعلقة به بعد وفاته

 

وقعت وبعد وفاة الإمام جعفر الصادق مجموعة من الأحداث التی ترتبط بشخصه ومن الأحداث التی ترتبط به هو هدم قبره فی المدینة من قِبل الدولة السعودیة، حینما اعتلى الوهابیة سدة الحکم هناک.

وکذلک کتاب صدر لأحد مؤلفی الوهابیة یتهجم فیه على الإمام الصادق، وهی سابقة لم یظهر لها نظیرٌ فی التاریخ الإسلامی، حیث اتفق علماء الإسلام على احترام الإمام جعفر الصادق علیه السلام وإجلاله.

هدم قبره من قبل الدولة السعودیة

 

عارضت الفرقة الوهابیة الکثیر من العادات التی کانت تنتشر فی جزیرة العرب؛ ومنها التبرک بقبور الأولیاء والصالحین، ولما استقام لهم الحکم والنفوذ فی الحجاز قاموا بالتعاون مع الأسرة الحاکمة بهدم القباب التی کانت مبنیّة فی البقیع وهی قبور بعض الصحابة والتابعین وآل البیت ومنها قبر الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام،وقد جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة فی معرض الحدیث عن الأسباب التی دفعت الوهابیة إلى هدم المقبرة: «وکذلک یرى الوهابیون فی أنفسهم أنهم وحدهم هم الموحّدون، وأن سائر المسلمین مشرکون، وأنهم هم أنفسهم المکلفّون بإحیاء السنة، وهم یرون أن السنة القدیمة وشخصیة النبی وجوهر الإسلام -تبعاً لذلک - قد شوّهت بسبب تقدیس الأولیاء، وهم من أجل ذلک یهاجمون أکثر أماکن الإسلام قداسةً عند أهل السنة وعند الشیعة؛ لأن هذه الأماکن تعتبر فی نظرهم معاقل لعبادة الأوثان». وفی ما یخص هدم البقیع ورد: «وزار بورخارت هذا المکان [بقیع الغرقد] بعد غزو الوهابیین فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالاً فی المشرق».(27)

 

 

ولم یأخذ الوهابیة أقوال بقیة المذاهب بعین الاعتبار ونفذوا ما یرونه هم صحیحاً بالقوة، وهدموا مقبرة البقیع فی الیوم الثامن من شوال سنة 1344هـ. ولم یوافقهم أغلب المسلمین فی ذلک، واحتجوا بأن سیرة السلف الصالح وأئمة المذاهب کانت جاریة على زیارة القبور، فقد کان الإمام الشافعی یتبرک بزیارة قبر الإمام أبی حنیفة النعمان فی بغداد، روى الخطیب البغدادی عن عبد الله بن میمون قال: «قال سمعت الشافعی یقول إنی لأتبرک بأبی حنیفة وأجیء إلى قبره فی کل یوم (یعنی زائراً) فإذا عرضت لی حاجة صلیت رکعتین وجئت إلى قبره وسألت الحاجة عنده فما تبعد عنی حتى تُقضى»،(28) وغیر ذلک من الأدلة الکثیرة.

****************

المراجع

1. السلسة الذهبیَّة عند النقشبندیَّة

2. روائع الحضارة الإسلامیة، للدکتور علی عبد الله الدفاع.

3. راجع: الإمام جعفر الصادق، عبد الحلیم الجندی، ص130.

4. الإمام جعفر الصادق، عبد الحلیم الجندی، ص 115.

5. منبر فاطمة: الإمام جعفر الصادق

6. موقع الشیخ علی الکورانی العاملی. الإمام جعفر الصادق (علیه السلام): سمّاه رسول الله (ص) جعفراً الصادق (ع)

7. ؤسسة الرسول الأعظم: حیاة الإمام محمد الباقر علیه السلام. تاریخ التحریر: 29 ذی الحجة 1428 - 09/01/2008

8. جمعیَّة الأشراف: فصل فی ترجمة الإمام جعفر الصادق علیه السلام / موقع العتبة الکاظمیة المقدسة

9. مؤسسة الإمام الصادق: المقالات العربیَّة، العقائد.

10. الطبری,أبو جعفر محمد بن جریر (1960). تاریخ الرسل والملوک .

11. الدعوة العباسیة ودورها فی نهایة الدولة الأمویة، بحوث ودراسات، 2011/موسوعة الأسرة المسلمة، 2011

12. مناقب آل أبی طالب:3/378 ، وتهذیب الکمال:5/79، وسیر أعلام النبلاء، للذهبی:6/258، والکامل، لابن عدی:2/132.

13. الإمام الصادق 1 : 38 نقلا عن کتاب جعفر بن محمد، لسیّد الأهل .

14. الأمالی، لأبی جعفر الطوسی، ص 581.

15. الوافی فی الفلسفة والحضارات. تألیف: عبده الحلو. دار الفکر اللبنانی (1999). بیروت - لبنان.

16. الإمام جعفر الصادق، محمد الحسین المظفر، ج1، ص 184 - 186.

17. جعفر الصادق من موسوعة لوکلیکس

18. البدایة والنهایة، ابن کثیر، ج 10، ص 112../ الوسائل، الحر العاملی، ج4، ص 26 - 27

19. میزان الاعتدال، ج1، ص192

20. نور الأبصار ص 131

21. إِسعاف الراغبین المطبوع على هامش نور الأبصار ص 208

22. تذکرة خواصّ الاُمّة ص 192

23. مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول: 436.

24. مناقب آل أبی طالب 3/396.

25. شرح إحقاق الحق 33/817.

26. الکامل لابن عدی 2/132، تهذیب الکمال 5/79.

27. دائرة المعارف الإسلامیة، ج7،

28. تاریخ بغداد، الخطیب البغدادی، ج1، ص 135.

 

المصدر: موقع راسخون