كل هذه الاتهامات للشاعرة الفلسطينية "دارين طاطور" لأنها كبت قصيدة قالت فيها: «قاوم يا شعبي». هكذا «كفرت» طاطور بإسرائيل، ولا تزال، في قضية لم تنتهِ من خمس سنوات.
لم تفلح إجراءات القمع والتنكيل الإسرائيلية كافة، ومحاولات الإخضاع و«تكسير الرأس» التي مارستها شرطة العدو، بحق الفلسطينية دارين طاطور لثنيها عن كتابة الشعر المقاوم. فهي بعدما سُجنت ثلاثة أعوام ونصف متنقلة بين الحبس والإقامة الجبرية، لم تشعر بأنها نالت حريتها إلا عندما استأنفت على قرار منعها من كتابة الشعر لتسترد حقها بالكتابة. لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقبل بضعة أيام استأنفت النيابة العامة على ما استردته طاطور، وأوصلت القضية إلى «المحكمة العليا».
طاطور شاعرة في الثلاثينيات، وهي من بلدة الرينة الواقعة في الجليل الأسفل شمال فلسطين المحتلة. أُشير إليها أكثر من مرّة بـ«أيقونة المقاومة»، لأنها عُدَّت «مصدراً للإلهام وعنواناً للصمود». بدأت حكايتها قبل خمسة أعوام مع اندلاع الهبّة الشعبية نهاية 2015، ولم تنتهِ حتى الآن. بدأت القضية لما نشرت قصيدة «قاوم يا شعبي»، فاعتقلتها الشرطة الإسرائيلية، وخاطت لها لائحة اتهام تنوعت ما بين «التحريض على العنف» و«تأييد منظمة إرهابية». تقول طاطور لـ«الأخبار»، إنه حتى يضخموا لائحة الاتهام «وضعوا أمامي لقطة شاشة تتضمن خبراً عن الجهاد الإسلامي كنتُ قد شاركته على صفحتي في 2014. وأضافوه إلى التهم الموجهة إليّ، على أنني مؤيّدة للحركة ومنتمية إليها. أنا صحافية وناشطة. لا يوجد أي قانون يمنع إنساناً أو فناناً من التعبير عن رأيه».
استمرت التحقيقات مع دارين لأوقات طويلة ومتباعدة، مارس خلالها المحققون التعذيب النفسي. وتشير إلى أن معظم المدة قضتها في زنزانة منفردة «حتى يجبروني على الاعتراف بأمور لم تحدث. تعرضت لمحاولة تحرش من أحد المحققين. طلبوا مني الاعتذار عن القصيدة، لكنني لم أفعل». ثلاث سنوات ونصف قضتها، بدءاً من 2015-10-11، موزعة بين خمسة أشهر متنقلة في السجون، وثلاثة أخرى في الإقامة الجبرية. ثم أمضت سنتين في مستوطنة بحراسة أمنيّة مشددة، حيث كانت مربوطة بقيد إلكتروني، ومُنعت من استخدام وسائل الاتصال أو الزيارات. أمّا السنة الأخيرة من العقوبة، فقضتها بمنزل عائلتها في إقامة جبرية أيضاً.
في البداية، حاولت الشرطة الإسرائيلية إخضاعها وانتزاع الاعتراف بأنها خالفت القانون، وذلك في إطار صفقة ادعاء مع النيابة. ووعدتها مقابل ذلك بتخفيف العقوبة من ثلاث سنوات إلى ستة أشهر، لكنها آثرت السجن على التنازل. «قلت لهم: إذا كانت القصيدة خطراً وتحريضاً أستطيع حذفها وإقفال حسابي في فايسبوك، لكنهم لم يهتموا وبقيت القصيدة على حسابي وجرى تداولها إلى أن شاركتها وزيرة الثقافة والرياضة المعروفة بمواقفها اليمينية والعنصرية المتطرفة، ميري ريغيف، لتحرض ضدي في أكثر من اتجاه».
دارين حملت قضية شعبها داخل قضبان السجن، لتخرج بعد ذلك وحملها مضاعف، مثقلة بالهموم بسبب واقع الأسيرات الفلسطينيات. خمسة أشهر قضتها في الأسر لتحصل كما تقول «على شرف مرافقة بعض الأسيرات وعيش معاناتهن عن قرب». ووفق تقارير منظمات حقوق الإنسان، حتى الإسرائيلية، فإن سجن «الدامون» الذي سُجنت فيه «لا يصلح لتربية الحيوانات»، وهو قد شُيّد في عهد الدولة العثمانية واستغل لحفظ التبن أو الدخان ويحتوي على نسبة رطوبة عالية جداً. كذلك فإن حمامات السجن مشتركة، ولا توجد مكتبة فيه. أمّا ساحته، فهي مغلقة ومحاطة بكاميرات مراقبة، الأمر الذي يُضاعف صعوبة التحرك، وينتهك خصوصيّة الأسيرات، خاصة اللواتي يرتدين حجاب الرأس. و«ما يزيد الطين بلة وجود حرّاس ومديري أقسام ذكور».
تروي دارين: «هناك أسيرات مصابات برصاص حيّ ولا يتلقين علاجاً، ويضطررن إلى علاج أنفسهن بأنفسهن». خلال مدد السجن الطويلة التي تصل إلى أحكام بالمؤبد، تُمنع الأسيرات من الزيارات أو لقاء أقربائهن بذريعة أمنية، خصوصاً أسيرات غزة اللواتي لهن حصة الأسد من المعاناة، ويمنعن من استخدام الهاتف للتواصل مع أبنائهن. ولأن الزيارات عادةً تجري من وراء الزجاج العازل للصوت، بالنسبة إلى دارين، كانت المشاهد الأكثر إيلاماً رؤية فتاة تريد أن تحضن أمها الأسيرة ولا تستطيع، «فتكتفي بطبع قبلة على الزجاج».
بعد خروجها من السجن استمرت بالدفاع عن حقها في كتابة الشعر. رفعت قضية وأرفقتها بادعاء مُفصّل حول التعديات التي مورست بحقها خلال التحقيق والسجن. برأتها «المحكمة المركزية» في الناصرة جزئياً، ما يعني إزالة كل التهم المتعلقة بالكتابة وحرية التعبير، فسمحت لها بكتابة الشعر من جديد. وجاء في قرار المحكمة آنذاك: «ما تقومين به جزء من حرية التعبير وأنت موجودة في مكان صراع، ومن الطبيعي أن تعبّري عما تشعرين به بالكتابة». انتزعت دارين حقها في 2019-5-16، لكن المحكمة سمحت للنيابة بالاستئناف حتى 2019-6-30، فاستأنفت الأخيرة محيلة الملف على «العليا» بالقدس المحتلة، لتطلب منع طاطور من الكتابة.
تقدّر الشاعرة السبب في أنها بصدد إخراج كتاب للنور تتحدث خلاله عن تجربتها وتفضح فيه «الممارسات الإسرائيلية ضد الأسيرات الفلسطينيات»، بالإضافة إلى الموندراما التي حاولت خلالها توثيق معاناتها خلال الاعتقال والسجن والتحقيق، وعرضتها في أكثر من بلدة ومدينة في الأرض المحتلة عام 1948. وتقول إن الإجراءات العقابية والملاحقة التي مورست بحقها لكسر إرادتها لن تمرّ هذه المرّة أيضاً. فهي ستستمر في المواجهة، وستحاول إقناع «العليا» برفض الاستئناف. صحيح أنها لا تعلم ماهيّة الحكم الذي سيصدر، ولكنها تنتظر «مولودها» الأول قادماً من تونس: كتابٌ يوثق معاناتها، وسيجوب العالم كله.
المصدر : الأخبار - بقلم : ريهام عثاملة