وتعمل الإمارات على دعم المجلس العسكري الانتقالي المناهض للثورة الشعبية في السودان حتى لو كان ذلك على حساب دماء المتظاهرين الذين قضى منهم المئات خلال الأيام الأخيرة.
وبشوارع تخنقها الحواجز خرجت الخرطوم من عيدها الحزين لتنخرط في ترتيبات قوى إعلان الحرية والتغيير للعصيان المدني المعلن عنه مطلع الأسبوع، بعد سلسلة من الإضرابات والمظاهرات الغاضبة بعد استباحة قوات المجلس العسكري الانتقالي دماء المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش.
وفي ساعة مبكرة يوم الاثنين الماضي، اقتحمت قوات الأمن السوداني ساحة الاعتصام وسط الخرطوم، وفضته بالقوة، بحسب قوى المعارضة التي أعلنت آنذاك عن مقتل 35 شخصا على الأقل، قبل أن تعلن الخميس ارتفاع عدد القتلى إلى 113، مقابل حديث حكومي عن أن العدد بلغ 61 لأحداث الفض وما تلاها.
وقبيل فض الاعتصام بأيام زار رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان كلا من مصر والإمارات، كما زار نائبه -وهو قائد قوات الدعم السريع- محمد حمدان (حميدتي) السعودية. وذكرت وسائل إعلام غربية أن الزيارات كانت تهدف لأخذ ضوء أخضر لفض الاعتصام.
وتكرر أن يرفع متظاهرون في السودان شعارات منددة بما يعتبرونه تدخلا من مصر والسعودية والإمارات في بلدهم، مشيرين إلى معاداة الدول الثلاث لثورات البلدان العربية خوفا على مصالهم ووصول الثورات لبلدانهم.
وبهذا الصدد كشف صحفي استقصائي أميركي أن سيارات مصفحة إماراتية الصنع شاركت في فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش بالعاصمة السودانية الخرطوم، وما تلاه من أحداث عنف.
ونشر الصحفي كريستيان تريبرت على صفحته بموقع تويتر صورا ومقاطع فيديو تؤكد استخدام قوات الدعم السريع -التي يُنسب إليها فض الاعتصام- سيارات مصفحة من طراز “عجبان 440A”.
وتبين أن هذه السيارات أحد منتجات شركة نمر للسيارات الإماراتية التابعة بدورها لشركة توازن القابضة التي تعود ملكيتها إلى مجلس التوازن الاقتصادي.
وتنتج الشركة 16 نوعا من الآليات العسكرية تُستخدم في العديد من المهام من قبيل حروب المدن، والاستطلاع، ومراقبة الحدود، والدعم اللوجستي، ومكافحة الشغب.
وقالت صحيفة غارديان البريطانية إن الحملة العنيفة المفاجئة على المتظاهرين بالخرطوم أعقبت سلسلة من الاجتماعات بين قادة الطغمة العسكرية والأنظمة العربية الاستبدادية (في إشارة إلى السعودية والإمارات) التي تحاول تشكيل مستقبل السودان.
وأوضحت الصحيفة نقلا عن مصادر محلية، أن حكام السعودية والإمارات يقاومون أي توجه نحو الديمقراطية في المنطقة ويعملون معا لإحباط تطلعات حركة الإصلاح في السودان مؤكدة أن تلك الدول كانت تدعم المخلوع عمر البشير، ومنذ الإطاحة به في أبريل/نيسان الماضي ظلوا يتآمرون لإثارة ثورة مضادة ضد الاحتجاجات الشعبية.
في هذه الأثناء أكدت مصادر أن وفدا سعوديا إماراتيا رفيع المستوى قام بزيارة خاطفة إلى الخرطوم والتقى بالفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الحاكم في السودان قبل وصول رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد إلى الخرطوم.
وذكرت مصادر من مطار الخرطوم، أن نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان ووزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش ومستشار ولي عهد أبوظبي محمد دحلان وصلوا الى السودان على طائرة خاصة قادمين من أبوظبي وكان في استقبالهم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان ، وقد اجتمع الوفد ببرهان وحميدتي وغادر السودان إلى السعودية ومنها إلى أبوظبي.
وتشير المعطيات إلى أن الوفد كان يحضر اللقاء بالمجلس العسكري قبل زيارة رئيس الوزراء الاثيوبي الى السودان. وتشير المصادر إلى أن الأمير خالد بن سلمان وصل إلى أبوظبي أولا ومنها توجه إلى الخرطوم برفقة قرقاش ودحلان.
وعلى الأرض تستمر تظاهرات النشطاء السودانيين والعرب أمام مقرات سفارات دولة الإمارات العربية المتحدة في العالم ضد دور أبو ظبي التخريبي في السودان مطالبين بوقف تدخل الإمارات في السودان.
واستهجن النشطاء في العاصمة البلجيكية بروكسل دعم الإمارات وحلفائها السعودية ومصر للمجلس العسكري الانتقالي في السودان خدمة لمصالحهم ونفوذهم على حساب تقويض الثورة الشعبية ومطالبها بالحرية والديمقراطية وضمان حقوق الإنسان في البلاد.
وردد المتظاهرون هتافات تحتج على الدور الإماراتي المشبوه في الشأن الداخلي السوداني وأخرى تطالب الاتحاد الأوروبي بموقف حازم لحماية الثورة الشعبية في السودان ووقف انتهاكات حقوق الإنسان لقمعها.
والأسبوع الماضي تظاهر العشرات من السودانيين ونشطاء حقوق الإنسان أمام السفارة الإماراتية في العاصمة النمساوية فيينا تنديدا بقتل المجلس العسكري السوداني عشرات المدنيين، أثناء فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم يوم الاثنين الماضي.
وقال نشطاء أوروبيون إن عشرات المدنيين قتلوا دون رحمة في الخرطوم وأن العالم لم يُقْدِم على أي خطوة ملموسة، واكتفى بالتفرج على ما يجري في السودان في وقت يتم فيه القمع جراء الدعم العسكري والمالي لديكتاتوريي السعودية والإمارات ومصر للمجلس الانتقالي العسكري السوداني.
وجاء الاعتصام في ظل رفض شعبي واسع في السودان لتدخل الإمارات في الشأن الداخلي للبلاد ومحاولتها التأثير على الثورة الشعبية الجارية في السودان منذ عدة أشهر والتي نجحت قبل أسابيع بالإطاحة بالبشير.
ويمثل موقع السودان الجيواستراتيجي المتميز، وموارده الطبيعية المتنوعة، جواذب بالغة القوة للاستثمار الأجنبي، وكذلك للنهب والسرقة الأجنبيين.
وأتاح نظام عمر البشير عبر سنوات حكمه، بسبب إفلاسه، وبسبب الشهية الشخصية المفتوحة للرئيس ومجموعته للمال، تمكين الدول الخليجية وبعض الدول العربية الأخرى، من أراضي السودان.
ان الجانب الآخر للانغماس السعودي الإماراتي في شؤون الثورة السودانية، ومحاولاتهما المستميتة قطع الطريق عليها، بالإضافة إلى رهاب الديمقراطية الذي تعاني منه الممالك الخليجية، وحرص بعضها الشديد على إفشال ثورات الشعوب العربية، حتى لا تنتقل إليها العدوى، يتمثل في العقود المجحفة لخطف أراضي السودان التي وقّعها الرئيس البشير ومنظومته الفاسدة مع أطراف عربية عدة.
من هذه الأطراف دولة الإمارات، التي تذكر بشأنها صحيفة الاتحاد الإماراتية أنها تستحوذ على 58% من جملة استثمارات الدول الخليجية، في مجال الزراعة في السودان.
السعودية والإمارات تقفان الآن سدا أمام الثورة السودانية، لمنعها من أن تبلغ هدفها في إقامة نظام ديمقراطي. لا تريد هاتان الدولتان اللتان خطفتا مساحات مقدرة من أراضي السودان أن تقوم حكومة سودانية منتخبة، تملك قرارا مستقلا، وخاضعة لمحاسبة شعبها، بمراجعة هذه العقود.
وهي عقود جرى بموجبها منح أراضي السودان، ولفترات تصل إلى قرن كامل. وغني عن القول إن النخب السياسية السودانية التي تنادي بالديمقراطية، لا تقف ضد عروض الاستثمار من الدول العربية في السودان، ومن غيرها من مستثمري العالم. بل هي تعرف أهمية ذلك، وترحب به أشد الترحيب، فالسودان يملك من الأراضي الصالحة للزراعة، ومن المياه، ما لا يملك القدرة على استغلاله، في ظروفه الحالية، لكنها تقف امام العقود غير المنصفة والتي تهدر مقدرات البلاد.
السعودية والإمارات فهما، علاوة على حرصهما على الإبقاء على عقود الاستثمار كما هي، فهما حريصتان على وأد الثورة، لأن وكلاءهما المحليين يمدّونهم بالجنود لحروبهم الإقليمية متسعة الرقعة الجغرافية. تقول كل المؤشرات في اللحظة الراهنة، إن القرار السياسي في السودان يصدر من السعودية والإمارات.
ويقف السودان الآن على مفترق الطرق؛ بين أن يكون دولة مستقلة القرار تدير مواردها لمصلحة شعبها، في ظل نظام ديمقراطي يسمح بمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم، وأن يستمر مستعمرةً بالوكالة تأتي قراراتها من وراء الحدود.
والواضح جدا أن هناك نزعات توسعية إمبراطورية خليجية، تريد المال والرجال للتجنيد من أجل توسيع النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي، فالمال الفائض عن الحاجة موجود، والأطماع التي لا تحدها حدود، وجنون العظمة موجودة أيضا، لكن الجنود والأراضي الواسعة والموارد المتنوعة غير موجودة.
خلاصة القول إنه لا خيار للثورة السودانية الجارية حاليا سوى أن تفرض إرادتها، عبر سلميتها اللافتة التي أبدعت فيها وتفوقت. مستقبل السودان في الاستقرار والنمو والنهضة يمر بمحك فارق، لم يسبق أن مر به، منذ إعلان استقلاله عام 1956. السودان الآن بين أن يكون أو لا يكون، ولا أمل له في غير ثورته هذه، فإما أن تعبر وإما ظلمات بعضها فوق بعض.