سمي بهذا اللقب وذلك لعدم تعرض قطاع الطرق في الأزمنة القديمة إلى زواره وذلك لخشيتهم منه ذلك لكرامته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى، ومعاجز ظهرت لهم.
وهو الابن الأكبر للإمام الهادي(ع) حيث كان للإمام أربعة أولاد هم:
السيد محمد حرز الدين ـ الذي هو موضوع بحثنا ـ أبو محمد الحسن العسكري(ع)، جعفر، حسين والمدفون مع أبيه الإمام الهادي وأخاه الإمام العسكري’، وقد ذكر الشيخ الجليل عباس القمي في كتابه منتهى الآمال ج2 ص637 أنه ورد في رواية أبي الطيب ان صوت الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه كان يشبه صوت الحسين وجاء في كتاب شجرة الأولياء كان الحسين بن علي النقي من الزهاد والعباد معترفاً لأخيه بالإمامة.
من صفاته
كان السيد محمد منهلاً عذباً لرواد العلم من مختلف البلدان حتى اتسعت شهرته ورجع إليه البعيد والقريب في جميع ما كان يعتريهم من مشاكل ومسائل.
جاءت نشأته وترعرعه في هذا البيت الكريم ولا عجب في هذا فقد نشأ الإسلام في بيوتهم وتفرع الدين على أيديهم. فهم الشجرة الطاهرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تأتي أكلها كل حين بإذن ربها، نعم وترفع نحو العلى والكمال واستمد قيماً ومُثلاً عالياً، ومنذ صغره كان على استعداد عالٍ لاكتساب المعالي من أبيه الإمام الهادي(ع)، وكان معروفاً بجلالة القدر وعظم الشأن، وكفى في فضله قابليته وصلاحه للإمامة وكونه أكبر ولد الإمام علي الهادي(ع) وزعم البعض من الشيعة انه الإمام بعد أبيه لكنه توفي قبل أبيه، فقال الإمام الهادي(ع) بعد وفاة السيد محمد لابنه الحسن العسكري(ع): «يا بنيّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً» البحار ج50 ص240.
أولاده
لقد خلف السيد محمد(ع) من الأولاد تسعة ذكور كما ذكره وأثبته صاحب كتاب بحر الأنساب وهم:
1ـ جعفر (وبه اشتهر بكنيته)
2ـ عبد الله
3ـ لطف الله
4ـ عناية الله
5ـ هداية الله
6ـ محمود
7ـ أحمد
8 ـ علي
9ـ اسكندر
وقد مات بعضهم ودفنوا في خوي وسلماس (مدينتين تقعان في شمال ايران). علماً إن أولاد الأئمة (ع) منتشرون في معظم المدن والقرى من جنوب إيران إلى شمالها وإلى الحدود الروسية وأذربيجان وذلك لهروبهم من بطش الحكام الطغاة العباسيين، ولم يعقب من أولاده سوى أحمد وعلي والله العالم.
الولادة المباركة
ولد(ع) في المدينة المنورة في قرية يقال لها (صريا) وهي قرية أسسها الإمام موسى بن جعفر’ على بعد ثلاثة أميال من المدينة المنورة (ذكر ذلك ابن شهر آشوب في كتابه المناقب ج4 ص382).
المرقد الشريف
كان المعروف عن المكان الذي دفن فيه(ع) من قبل مئات السنين ببعده عن مناطق السكن وعن قراهم، حيث أن بعده عن مدينة بلد القديمة وقبل أن يمتد البناء ويصل إليه كما هو اليوم كان يبعد (5كم)، وأما عن ضفاف نهر دجلة فيبعد حوالي (4كم).
النجم الثاقب
نقل صاحب كتاب النجم الثاقب كما أورده الشيخ عباس القمي في المنتهى ص639 ما يلي:
مزار السيد محمد في ثمان فراسخ عن سر من رأى قرب قرية بلد، وهو أجلاء السادة وصاحب كرامات متواترة حتى عند أهل السنة والأعراب، فهم يخشونه كثيراً ولا يحلفون به يميناً كاذبة، ويجلبون النذور إلى قبره، بل يقسم الناس بحقه في سامراء لفصل الدعاوي والشكايات، ولقد رأينا مراراً ان المنكر لأموال شخص مثلاً إذا طلبوا منه القسم بأبي جعفر كان يرد المال ولا يقسم، وذلك لتجربتهم أن الكاذب لو حلف به يصيبه الضر، ورأينا منه في أيامنا هذه كرامات باهرة، ولقد عزم بعض العلماء أن يجمع تلك الكلمات ويدونها حتى تصير كتاباً يحتوي على فضائله.
سبع الدجيل
كانت المنطقة تسمى الدجيل قديماً نسبة إلى نهر الدجيل المشهور في التاريخ. والمعروف بالمصطلح اللغوي أن دجيل مصغر من دجلة (أي إنه فرع من نهر دجلة) وهذا النهر يمتد من شمال مدينة بلد وحتى جنوبها ليصل إلى مدينة الدجيل الحالية.
وكان الزائرون في الأزمنة القديمة ـ قبل مئات السنين كما يرويها المؤرخون عند زيارتهم لمرقده الشريف المبارك(ع) ـ في خوف ووجل وخصوصاً من اللصوص وقطاع الطرق وذلك لضعف الحكومات المركزية قديماً، إلا أن الزائرين لمرقده المقدس وعند وصولهم إلى القبر المبارك كانوا يشاهدون أسداً ضارياً يجوب حول القبر الشريف، وربما شاهدوه وهو رابض على القبر ليلاً ونهاراً لا يدع أحداً بشراً كان أم حيواناً من أن يدنوا إلى زواره أو الحرم الطاهر المبارك.
لذا كان الزائرون ينعمون بالراحة والاطمئنان ما داموا في حرمه المقدس.
ويقال إن السبع (الأسد) كان موجوداً حتى الأربعينيات من القرن العشرين تقريباً، وبتطور المنطقة وامتداد العمران وبظهور الحكومة المركزية وسيطرتها، وبناء حرمه الشامخ المبارك لم يشاهد السبع هناك منذ زمن بعيد نسبياً وشاهده الخاصة والعامة. ونقلوا حكايات كثيرة وكرامات عجيبة. لذا سمي بسبع الدجيل.
شهادته عليه الرحمة
لما بلغ الرابعة والثلاثين من عمره الشريف مرض مرضاً شديداً مفاجئاً لم يمهله طويلاً حتى فارق الحياة في مكان قبره الشريف المبارك ودفن فيه في (الآخر من جمادى الثانية سنة 252 هـ) وقيل مات مسموماً شهيداً، ولا نستبعد ذلك لأنه كان أكبر أولاد الإمام الهادي(ع) وله مؤهلات عالية ظن الأعداء إنه سيكون الإمام من بعد أبيه(ع)، فسعوا إلى قطع هذا الطريق أمامه، ولا شك في أن السلطة العباسية في زمن الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري’ كانت تراقبهما بحذر شديد ولهذا استدعت الإمام الهادي(ع) من المدينة المنورة إلى سامراء ليكون تحت نظارتهم، وإن منهج التصفية الجسدية كان متّبعاً من قبل بني العباس وقد مورس مع آباء السيد محمد وأجداده بكل وضوح.
آراء الأعلام
فيما يلي جانب من آراء العلماء المختصين بالسيرة والتاريخ حول السيد محمد رضوان الله عليه.
رأي العلامة القرشي:
كان السيد محمد أبو جعفر انموذجاً رائعاً للأئمة الطاهرين، وصورة صادقة لأفكارهم واتجاهاتهم، وقد تميز بذكائه، وخلقه الرفيع، وسعة علمه، وسمو آدابه حتى اعتقد الكثيرون من الشيعة أنه الإمام من بعد أبيه الهادي(ع).
قول العارف الكلاني:
ما رواه العارف الكلاني عن وقاره، ومعالي أخلاقه رضوان الله عليه فقال:
صحبت أبا جعفر محمد بن علي الرضا(ع) وهو حدث السن، فما رأيت أوقر، ولا أزكى، ولا أجل منه وكان خلفه أبو الحسن العسكري بالحجاز طفلاً، فقدم عليه مشيداً كما ذكر المجدي في النسب المخطوط. فقال إنه كان ملازماً لأخيه أبي محمد(ع) لا يفارقه، وقد تولى(ع) تربيته، فغذاه بعلومه وحكمه وآدابه.
مرض أبو جعفر مرضاً شديداً، واشتدت به العلة، ولا نعلم سبب مرضه هل إنه سقي سُمّاً من قبل أعدائه وحساده العباسيين الذين عزّ عليهم أن يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إياه، أم أن ما مني به من مرض كان مفاجئاً؟
وعلى أي حال فقد بقي أبو جعفر(ع) أياماً يعاني السقم حتى ذبلت نضارة شبابه، وكان الإمام أبو محمد الحسن(ع) ملازماً له. وقد ضاقت به الهموم على أخيه الذي كان من أعزّ الناس عنده، ومن أخلصهم له، إضافة إنه كان أخاه الأكبر.
وثقل حال أبي جعفر وفتك به المرض فتكاً ذريعاً، واشتد به النزع فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم، ويمجد الله حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها كما تصعد أرواح الأنبياء والأوصياء تحفها ملائكة الرحمن.
وتصدع قلب أبي محمد(ع)، فقدْ فقدَ شقيقه الذي كان عنده أعز من الحياة، وطافت به موجات من اللوعة والأسى والحسرات، وخرج وهو غارق بالبكاء والنحيب، وقد شق جيبه لهول مصيبته بأخيه وتصدعت القلوب لمنظره الحزين، وألجمت الألسن، وترك الناس بين صائح ونائح قد نخر الحزن قلوبهم.
وجهز الإمام الهادي(ع) ولده أبا جعفر فغسله وكفنه وصلى عليه، وحمل جثمانه الطاهر تحت هالة من التكبير تحف به موجات من البشر وهي تعدد فضائل أبي جعفر، وتذكر الخسارة الفادحة التي مني بها المسلمون، وجيء به إلى مقره الأخير فواراه فيه، وأقيم له مرقد هو من أقدس المراقد في الإسلام، ففي كل لحظة لا يخلو من الزائرين، فقد صار منزلاً وملجأً لذوي الحاجات، وقد آمن الناس على اختلاف أفكارهم وميولهم ومذاهبهم على إنه ما توسل به أحد بإخلاص، وتشفع به إلى الله إلاّ وقضى الله حاجته، وأرجعه إلى أهله قرير العين.
رأي السيد محسن الامين:
وأما ما رواه السيد محسن الأمين في كتابه (أعيان الشيعة المجلد العاشر ص5): إنه السيد أبو جعفر محمد بن علي الهادي(ع) المتوفي سنة 252 هـ.
فهو سيد جليل القدر عظيم الشأن، كانت الشيعة تظن إنه الإمام من بعد أبيه(ع) فلما توفى نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن(ع) وكان أبوه خلّفه في المدينة طفلاً عندما جيء به إلى العراق. وبعد عقود قدم عليه في سامراء، ولما أراد الرجوع إلى الحجاز، وهو في طريقه القرية التي يقال لها (بلد) على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها. ومشهده الآن معروف ومزور. ولما توفى شق أخوه أبو محمد الحسن(ع) ثوبه وقال في جواب مَن لامَه على ذلك العمل (قد شق موسى على أخيه هارون).
وسعى العلامة المحدث الشيخ النوري (رضوان الله عليه) في تشييد مشهده وتعميره، وكان له فيه اعتقاد عظيم.
قول العلامة القزويني:
كما يقول العلامة السيد محمد كاظم القزويني& في كتابه (الإمام الحسن العسكري(ع) من المهد إلى اللحد ص23) ويعتبر موته حتف أنفه مشكوكاً فيه لأن أعداء آل محمد(ص) كانوا ينتهزون كل فرصة لقطع خط الإمامة في أهل البيت(ع)
ألا بورك ضريحك يا أبا جعفر، ونحن نهتدي وننهل من منابع بركاتك وكراماتك التي منّ الله عليك غادية ورائحة فما أعظم عادتك على شيعتك خاصة وعلى المسلمين عامة حياً وميتاً.
ونحن اليوم نجلس في عزائك يا أبا جعفر تأسياً بأبيك الهادي وأخيك العسكري’ لأننا نسير على خطى ومنهاج آبائك وأجدادك الطاهرين، وكما قال جدك الإمام الصادق(ع): «شيعتنا منا، خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا».
__________________
مقتطفات من كتاب «السيد محمد بن الإمام الهادي (ع)»، عبد الهادي الشهرستاني
المصدر: مجلة المصطفى