الدكتور محمد عليق
لا تَضربه واهجرُه ولا تُطِل!"
بهذه القاعدة التربوية الذهبية، يجيب الإمام موسى الكاظم (عليه السلام ) أحد أصحابه وقد سأله عن كيفية التعامل مع بعض تصرفات ابنه الخاطئة وبأنه يريد ضربه(1).
يتم طرح مسألة الضرب والعقاب الجسدي أحيانا، من قبل بعض الأهل والمربين كأسلوب ووسيلة تربوية حاسمة ونافعة حين تعجز الأساليب الأخرى عن تصحيح سلوك سيئ ما عند الأبناء أو التلاميذ، وحجّتهم في ذلك بأنّ الضرب سابقًا وحتى لسنوات مضت كان متعارفًا ورائجًا في البيوت والمدارس، ويضيف بعضهم - من البيئة المتدينة مثلًا - بأنّ الشرع يجيز ضرب الولد للتأديب، محاولًا إضفاء صبغة دينية على فكرته أو فعله أو أمنيته بضرب ذلك الولد العنيد المشاكس "حتى يفهم"!
ويستفيض بعض البعض بدليل "عملي" قاطع، ليقول: "نحن وصغار كان أهلنا يضربونا والأساتذة كمان ..!! وها نحن الآن بأحسن حال!" مدلّلًا نظريته بطرائف الضرب وفنونه وأنواعه .. متحسّرًا على قلة الضرب حاليًّا وهو ما يفسد هذه الأجيال!
أهم النتائج الخطيرة والآثار السلبية للضرب :
1-إحساس الطفل بالإهانة والاحتقار لنفسه ولمن يضربه، وحين يشعر المتربي بالإهانة مرة بعد أخرى، فمن الصعب ترميم ثقته بنفسه وإعادة الاحترام لذاته بسهولة، وسيكون مصداقًا للحديث التربوي الشريف "من هانت عليه نفسه فلا ترج خيره" أو "..فلا تأمن شرّه ".(2)
2-تنمية روحية الاستسلام وقبول الذل وهي من أقبح الخصال وأخطرها؛ التربية الإسلامية تريد للإنسان أن يكون حرًّا عزيزًا لا يرضخ للتسلط والهيمنة، وبضرب الطفل يزيد احتمال أن يتقبّل منطق التسلط عندما يكبر، فلا يدافع عن حقّه ونفسه وكرامته، ويرى الظالم القوي محقًّا فيقبل أن يكون مظلومًا، بينما القاعدة القرآنية الكريمة {لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمون}.(3)
3-إيجاد الحقد في نفس الطفل ضد المربين وحب الانتقام منهم، وهذا ما نلاحظه بوضوح عند بعض الأولاد حيث يستخدمون وسائل متنوعة للانتقام وتفريغ الحقد (عدم الدرس، التهاون بالصلاة والحجاب والالتزام، الفوضى واللامبالاة و...الخ)، بينما المطلوب علاقة عاطفية وعقلية متوازنة ولا تصل لتراكم الأحقاد بين المربي والمتربي.
4-المهارة في تكرار السلوك الخاطيء: وخلافًا لما يدّعيه "أنصار الضرب" بأنّ الضرب يصلح الطفل ويجعله يترك السلوك السيئ، فإنّ الولد حينها سيبتكر أساليب أخرى وبدقة أكبر لإخفاء عمله عن الأهل والمربين، دون تغيير واقعي في نظرته للعمل والسلوك السلبي .
5-الاضطراب والقلق عند الطفل والفتى والخشية من تعرّضه للضرب والتعنيف الجسدي واللفظي عند قيامه بأعمال مشابهة "للجريمة" التي ارتكبها! ما يؤدي لزيادة روح الخوف والانزواء والابتعاد عن الجو العام للمنزل خشية التعرّض للضرب وخاصة أمام الآخرين (بمن فيهم إخوته، الذين سيعانون من أزمات عديدة أخرى وإرباك في التعامل معه).
6-تقوية روحية التسلط على من هو أضعف منه؛ فحين يتعرّض الولد للضرب لأيّ سبب كان، فهو سيستخدم هذا الأسلوب مع من هو أضعف منه (إخوته أو أطفال آخرين) ويستضعفهم، فالطفل يتماهى مع أهله ومربّيه وسيستخدم الأساليب وحتى الألفاظ والحركات نفسها ويعيد تمثيل ما يحدث معه، وهذا ما نراه بوضوح وقديمًا قيل "خذوا أسرارهم من صغارهم"؛ المعلمات يلاحظن سلوك الأهل في لَعب تلاميذهنّ وكلامهم، وكذلك يلاحظ الأهل أسلوب المعلمة وشخصيّتها من خلال لَعب طفلتهنّ الصغيرة لدور المعلمة مع الدمى والأطفال الأصغر سنًّا منها!
وهذه بعض الآثار والنتائج للضرب وليست كلها؛ تشير إحدى الدراسات المتخصّصة بأنّ الضرب"إن استطاع منع سلوك غير مطلوب - وغالبًا لا يتمكّن حتى من هذا المنع الظاهري - فإنّه يساهم في خلق وتقوية لثلاثة عشر سلوكًا سلبيًّا آخر!".(4)
العقوبات الرادعة
بطبيعة الحال فإنّ التربية الإسلامية للأبناء عملية تفاعلية واقعية ولديها تعريفها ومبانيها وأهدافها وأصولها وأساليبها وتتعامل بذكاء ودقة مع مراحل رشد البناء وخصائصهم العمرية (السبعة الأولى والثانية والثالثة )؛ وبالتالي لا تغفل عن الحالات والظروف والمواقف التي تستدعي أنواع من القصاص والعقوبة والتأنيب والإجراءات التأديبية، ضمن رعاية الأصول التربوية الأساسية، والتي تأتي ضمن سياق عقلاني وعاطفي ونفسي وأخلاقي بصير، بعيدًا عن العنف الانفعالي والضرب والتعنيف الجسدي والروحي المدمّر للمتربي - وللمربي كذلك ! - وهنا مرور مختصر على بعض العقوبات المقترحة ولا نسمّيها "بدائل الضرب"، لأنّ الضرب ليس أصلًا ولا أسلوبًا تربويًّا لكي نفتّش له عن بدائل.
ومن الضروري هنا التنبيه، إنّ الأصل الأساسي في التربية الإسلامية هو التشجيع والدعم وإظهار المحبة والعفو بسرعة والتغافل والصبر على المتربين و... غيرها من القيم الإيجابية الطيّبة والبناءة للتعقّل والحب والكرامة.. وتأتي العقوبات كتدابير استثنائية لوضع حدّ لسلوك وفعل خاطئ بعد استخدام كل الأساليب التربوية المذكورة وغيرها، لإعادة المسار للتربية العقلية والعاطفية والروحية الإيجابية.
وكذلك فإنّ العقاب للمتربي يكون بعد تكراره للخطأ وعدم تجاوبه مع التنبيه والتحذير السابق، ويجب أن يتم تكرار شرح الخطأ والعقوبة عليه وتحذير الطفل من إعادة ارتكابه على قاعدة "قبح العقاب بلا بيان" وأن لا يتم بدافع التشفّي والانتقام وتقصّي الزلات أو فقدان السيطرة؛ العقوبة موجّهة لسلوك وفعل الطفل وليس له ولكرامته وشخصيته المحترمة دومًا، فالقصاص هو للتنبيه بحرص وشفقة وليس بغضب وانتقام {ولكُم في القِصَاصِ حياةٌ يا أُولي الألبَابِ لعَلّكُم تَتّقون}.(5) وبالطبع بعد التأكّد من أنّ هذا العقاب يردع المتربي ويمنعه عن تكرار فعله ويشجعه على الفعل الحسن والسلوك المحبوب.
نماذج من العقوبات المطلوبة
- الحرمان المؤقّت للطفل من بعض الامتيازات والإمكانات العادية كالخروج واللعب ببعض الألعاب ومشاهدة التلفاز وبعض المشتريات والهدايا وغيرها (بشرط عدم الحرمان من الحاجات الأساسية كالطعام والنوم)، وكذلك لا مانع من الطلب منه أن يدخل إلى غرفته أو يقف في مكان محدد لفترة (الأطفال بعد الثالثة لثلاث دقائق مثلًا وليس أكثر، مع عدم التخويف أو الوضع في مكان مظلم)، وكذلك الحرمان من المصروف المدرسي والنزهات والهوايات.
- الهجر والحرمان العاطفي؛ وهو من العقوبات المؤثّرة والفعالة، حيث يتعمّد الأهل والمربين إظهار الغضب والانزعاج وعدم التفاعل إيجابيًّا مع طلبات الولد؛ تحديد وقت محدّد يمنع على الابن التحدّث مع أهله "لا تكلّمني لمدة عشرين دقيقة وفكّر بحلّ لهذه المسألة، أكتبه على ورقة، سأقرأه ثم نرى ..".
مع التحذير هنا في هذا الأسلوب من الابتزاز العاطفي غير المقصود والذي قد يمارسه بعض الأهل بشكل عفوي وخاصة مع الأطفال الصغار في سنواتهم الأولى، كأن تهدّد الأم ابنها مثلًا "إن فعلت هذا فلن أحبّك مجددًا!" بينما ينبغي أن يتم تحييد الحب وتثبيته، فيقال مثلًا: "أنا أحبك دائمًا ومهما حدث، لكن هذا التصرّف خطأ وقد تكرّر، وعليه قصاص يساعدك على التخلص منه".
والتحذير الآخر هو عدم إطالة حالة الهجر والجفاء "لا تضربه، واهجره ولا تطل"، ما يتسبّب بفتور عاطفي ويتعوّد المربي والمتربي على الجمود والسكون بدل النشاط والحركة والتفاعل.
- إثارة المشاعر والعواطف عند المتربي من خلال الكلام العاطفي المدروس والواقعي "نحن أهلك نتأذى ونحزن كثيرًا من تصرّفك هذا، إن أردت أن تفرح قلب أمك فلا تقم بهذا العمل .. الخ "، وعدم المبالغة في الكلام "ستقضي علينا بعملك هذا!" أو التعميم "أنت دائمًا تفعل هذا ولا تسمع كلامنا أبدًا"!(6)
- المفاوضات والتوصّل إلى اتّفاق: بحيث يشعر المتربي بأنّه إن لم يهتم بالملاحظات والتوجيهات التي تقولونها له حول سلوك خاطئ، فإنّكم بالمقابل لن تهتموا بتلبية حاجاته وطلباته، ويتم هنا نوع من التفاوض والوصول إلى صفقة واتّفاق (يفضّل أن يكون مكتوبًا وموقّعًا عليه من الطرفين) ويشمل ما ينبغي لكل طرف القيام به وتحديد العقوبات والاجراءات عند عدم الالتزام (اطلبوا منه أن يحدّد هذه العقوبات بنفسه).
- التهديد بالضرب! نعم ولا تتعجّبوا، التهديد بالضرب والعقوبة الجسدية إن لم تنفع الأساليب الأخرى. قديمًا قيل في الأمثال الشعبية الحكيمة "لوّح بسيف العزّ ولا تضرب به"، التهديد هنا يؤثّر أكثر من الضرب نفسه، لا بأس بأن يشعر الولد عندها بأنّه تجاوز الخطوط الحمراء وأنّ هناك تصعيد غير مسبوق، مع إفساح المجال له للإصلاح والعودة عن الخطأ وتسهيل التوبة، فالتائب حبيب الله وحبيب أهله أيضًا!
وتذكر ابنة الإمام الخميني (سلام الله عليه) بأنّ الإمام لم يكن يضرب أبناءه أبدًا، حتى إذا تجاوز أحد الصبيان الحد وارتكب عملًا قبيحًا جدًّا، كان الإمام ينادي مثلًا بصوت مرتفع يسمعه الولد المخطئ أحضروا لي العصا! ثم يبدأ بفك أزرار أكمامه وطيّها بهدوء في تمثيل واضح، مانحًا الفرصة لذاك الصبي للهروب الى آخر الحيّ... ثم الرجوع بعد أن تكون هدأت الأجواء والاعتذار و ..."يا سريع الرضا"!
يذكر آية الله محي الدين الحائري الشيرازي (قدس سره) بأنّ والدته كانت رائدة ذكية في تربية أبنائها، فكانت حين يرتكبون عملًا سيّئًا، تمنعهم من المشاركة في أعمال المنزل! وهذا تدبير تربوي جميل وفعّال؛ بدلًا من جعل العمل الجيد عقوبة وبالتالي تكريه الطفل به، كانت تعاقبهم بمنعهم منه، ليشعر الطفل المعاقب لفترة بأنّه غير جدير بالمشاركة وينمو عنده حسّ المسؤولية والهمة العالية، ويدرك بالتدريج أنّ هذا العمل والمشاركة نعمة ودليل رضا الوالدين عنه وتحفيزًا له على العطاء والعمل.
إشارة
وهنا لا بأس من الإشارة العابرة، إننا لا نعثر في سيرة المعصومين والمربين الكمل (صلوات الله عليهم) أثرًا لضربهم للأبناء في عملية التربية، فيما نجد عشرات أو مئات التوصيات والأوامر بالرفق والرحمة والشفقة على الأبناء والستر عليهم واحترام شخصيتهم والتغافل عن أخطائهم ومنحهم العلم والأدب والحنان والعمل.. ما يشكّل موسوعة شاملة ومرجعية أساسية لكل مهتم بالتربية الإسلامية، وأما بعض الأحاديث - وربما ما تبعها من أحكام عند الفقهاء - فلعلّها تعود للأجواء العامة التي كانت سائدة ورواج الضرب والقسوة في التعامل مع الأبناء وغيرهم، حيث نلاحظ أحاديث تضبط الضرب لحدّه الأدنى (ثلاث ضربات ودفع الدية للولد عند شدّة الضرب مثلًا ) وعدم التشفي ونية التأديب وغيرها من الشروط والظروف التي كانت رائجة حينها، وبعضها من مخلفات الجاهلية التي عادت وأطلت برأسها وسادت في المجتمع الإسلامي بعد سنوات من رحيل الرسول الأعظم والمربي الأكبر (صلى الله عليه وآله)، وكذلك ضعف الاجتهاد الفقهي وحتى زواله في كثير من المواضيع (كالتربية والإدارة والاقتصاد والفن والزواج والسياسة و...) لأسباب متنوّعة ومركّبة.. وللبحث صلة.
خاتمة
لا شك بأنّ التربية الإسلامية- بمعناها الواقعي كتربية للنفس ومساعدة للآخرين على تربية أنفسهم - هي علم دقيق وعميق وفن شيّق وعملية تكاملية لطرفيّ العملية، المربي والمتربي معًا، ومن الأخطاء الرائجة والشائعة، اعتبار تربية الأبناء ( فضلًا عن الزواج والحياة الأسرية) والطلاب، مسألة تلقائية عفوية عادية تعتمد على بعض الأعراف الاجتماعية المتوارثة أو الثقافة الغربية المنحطة والواردة بشتّى الأشكال أو بعض الأحكام الفقهية من الرسالة العملية أو يمكن اختصارها بآيتين أو ثلاثة - أربعة أحاديث شريفة، دون امتلاك رؤية فكرية واضحة وقوية حول هذا العلم و الواجب العملي الخطير. ونشاهد للأسف، كيف يتعبّد بعض الناس بإرشادات الطبيب حرصًا على صحّة الأبناء وسلامتهم الجسدية، فيما يتساهلون ويهملون ضرورة التعلّم والمطالعة والتفكّر والتخطيط المسبق والمستمر للتربية في أبعادها المتعددة وأهدافها وأساليبها؛ ولعلها أهم تكليف وأخطر عمل يقوم به الإنسان في علاقاته بنفسه وربّه وأبنائه وبقية الناس ومظاهر الكون كافة.
قال أمير المؤمنين ومربّي الصالحين (صلوات الله عليه):
"فإنَّ العاقِل يتَّعِظ بالأَدبِ والبهائم لا تَتَّعظُ إلّا بالضّرب".(7)
فأي تربية نريد؟!
الهوامش:
1-بحار الأنوار، ج101، ص 99.
2-بحار الأنوار، ج75، ص 300؛ وغرر الحكم، ج2،ص 712.
3-سورة البقرة، من الآية 279.
4- دراسة تحليلية مشتركة بين جامعة ميشيغين وجامعة تكساس وشملت 160 ألف طفل على مدى 50 سنة وتناولت الآثار المباشرة لضرب الأبناء (نفسيًّا واجتماعيًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا...) وغير مباشرة (بعد البلوغ والزواج والعمل والعنف الإجرامي والانحراف وتربية الأطفال والاكتئاب والانتحار و....)
5-سورة البقرة، الآية 179.
6- بتصرف من كتاب "نسيم مهر" (نسيم الحنان) باللغة الفارسية، الجزء الثالث، الطبعة 99، قم، 1389ه.ش (2010م)
دار خادم الرضا (عليه السلام ).
7- بحار الأنوار، ج71، ص 372.
المصدر:موقع أولادنا نحو الكمال