نسبه:
هوالملاّ أحمد بن محمد الأردبيلي النجفي. ولد في مدينة أردبيل، ولقِّب الأردبيلي نسبة إلى بلدته.
ولادته:
لما سأل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «ما أفضل الأعمال؟ قال: الورع عن محارم الله».
فكلما كان الإنسان متحفظا في مأكله وطعامه،كان نباته حسنا، وأعظم شيء يذكر في هذا المجال قصة المحقق الأردبيلي، فهو نتاج لقمة الحلال، وطهارة النطفة التي تعتبر أساساً لمخلوق جيد:
فقد جاء والده إلى قناة يملأ قربته ماءً فرأى تفاحة تجري على الماء، فأخذها وأكلها، ولكنه وقف فجأة يفكر، كيف أكل التفاحة، ولم يستأذن من صاحبها، فأخذ يعاتب نفسه على هذا التصرف الذي لا ينبغي صدوره منه، ولذا فكر في أن يمشي باتجاه معاكس لجريان الماء، لعله يصل إلى صاحب التفاحة، فيسترضيه على أكله لها، مشى مسافة حتى وصل إلى مزرعة التفاح، فلقي صاحب المزرعة، وكان عليه سيماء الصالحين فقال له: إن تفاحة كانت تجري على الماء في القناة، فأخذتها وأكلتها أرجوك أرض عني!
أجابه الرجل: كلا لن أرضى عنك. قال: أعطيك ثمنها. قال: لا وبعد الإصرار والإلحاح الشديدين وافق صاحب المزرعة، أن يرضَ عنه ولكن بشرط واحد!
قال الشاب: فما هو الشرط؟
أجاب الرجل: عندي ابنة عمياء، صماء، خرساء، مشلولة الأرجل، إذا وافقت أن تتزوجها أرضَ عنك وإلا فلا!
يقول (صلى الله عليه وآله): «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلاّ مخافة الله إلاّ أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة».
فلما رأى الشاب أنه لا سبيل إلى جلب رضاه إلا بالموافقة على هذا الشرط الصعب، دعاه إيمانه إلى الموافقة. وهو يندب حظه ويسترجع (يسترجع: أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون) على هذا البلاء العظيم جراء تفاحة.
مضت الأمور كما يريد أبو البنت، وقرأ العقد، وتزوج الشاب، وعند دخوله على عروسه فوجئ بعروس ذات قامة ممشوقة، وهي في غاية الجمال، أنها مواصفات نقيضة للمواصفات التي ذكرها له أبوها. فخرج الشاب مسرعا (خشية حدوث خطأ في الزواج فتحدث له مشكلة أخرى) وإذا بالرجل ينتظره مبتسماً قال: خيراً إلى أين؟
قال الشاب: إن البنت التي ذكرت لي وصفها ليست هي العروس التي دخلت عليها؟
أجابه الرجل: إنها هي. لأني حينما وجدتك جاداً في جلب رضاي لأكلك تفاحة خرجت عن حيازتي، وسقطت في الماء وأخذها الماء مسافة بعيدة وجئت تطلب الحل، علمت أنك الشاب الذي كنت انتظره منذ أمد لأزوجه ابنتي الصالحة هذه.
ولقد قلت لك: إنها عمياء خرساء، فلأنها لم تنظر، ولم تكلم رجلا أجنبيا قط. وقلت لك: إنها مشلولة، فلأنها لم تخرج من المنزل لتدور في الطرق، وإنها صماء، فلأنها لم تستمع إلى غيبة أو غناء، أليست هذه فتاة مؤمنة يستحقها شاب مثلك؟
فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): «ترك لقمة الحرام أحب إلى الله من صلاة ألفي ركعة تطوعًا».
وكان ثمار هذا الزواج المبارك ولادة إنسان اشتهر في ورعه وتقواه وقربه إلى الله وحبه للنبي (صلى الله عليه وآله) ومودته العميقة لأهل البيت (عليهم السلام) وعرف عنه كثرة ملاقاته لمولانا صاحب العصر والزمان، وهو المقدس الجليل الشيخ أحمد الأردبيلي.
ولكي نعلم كيف صار الشيخ المقدس، هكذا لننظر إلى أمه ماذا تقول حينما سُئلت كيف صار ولدها الشيخ بهذا المقام؟
فأجابت: أني لم آكل في حياتي لقمة مشبوهة، وقبل إرضاع طفلي كنت مداومة على إسباغ الوضوء، ولم انظر إلى رجل أجنبي بريبة قط، وسعيت في تربية طفلي أن أراعي النظافة والطهارة، وأن يصاحب الأولاد الصالحين.
ونحن حينما نتأمل هذه الحادثة العظيمة نعرف كيف يكون أثر لقمة الحلال، وكيف يؤثر الاجتناب عن المحرمات، وردع النفس عن الاقتحام في الشبهات والمحظورات. فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): «ترك لقمة الحرام أحب إلى الله من صلاة ألفي ركعة تطوعًا»(عدة الداعي: 65).
دراسته:
درس المقدس الأردبيلي في مدينة أردبيل، مسقط رأسه. حيث نشأ وترعرع فيها. ثم انتقل إلى مدينة شيراز، ودرس العلوم العقلية والنقلية. حسب ما صرّح به صاحب كتاب رياض العلماء، للمرحوم الميرزا عبد الله الأصفهاني.بعدها انتقل إلى النجف الأشرف حيث درس الفقه والأصول بأساليب متعددة. لقد بلغ الأردبيلي مراتباً رفيعة في العلم، من خلال بحوثه ودقته وتقصِّيه للحقائق،غير أن شخصيته نهضت على تلك الروح الشفافة،والنفس الصافية. فكان فريد عصره ووحيد زمانه، حتى لقِّب بالمقدّس. الذي اختص به دون سائر علماء الشيعة.
أساتذته:
لم يعرف عن أساتذته الكثير من التفصيل، ولكن ذكر العلاّمة الأمين في أعيان الشيعة نقلاً عن حدائق المقربين: "ومن مشايخه المولى جمال الدين محمود، تلميذ جمال الدين الدَّواني، والمولى عبد الله اليزدي، صاحب حاشية تهذيب المنطق للتفتازاني، والمولى الميرزا جان الباغندي.
تلامذته:
نمت علوم الأردبيلي، وغزرت حتى التفّ حوله طلاب العلوم الدينية لينهلوا من فيض نبعه الصافي علوماً متعددة، وقد تخرج على يديه علماء كبار، منهم:
1ـ الشيخ حسن بن زين الدين الجبعي العاملي، المعروف بابن الشهيد الثاني.
2ـ السيّد محمّد بن علي الموسوي الجبعي العاملي.
3ـ الشيخ فضل الله التفريشي.
4ـ الشيخ مير غلام التفريشي.
5ـ الشيخ عناية الله القهبائي.
6ـ الشيخ عبد الله التستري.
ويروى أن جملة من الأجلاء الكبار كصاحبي المعالم والمدارك لمّا وردا العراق، طلبا منه درساً خاصاً بهما، وأن يبيِّن وجهة نظره فقط، إن كان له نظر مخالف في المسألة. فأجابهما إلى ذلك، فكانا يقرآن كثيراً من المسائل بدون أن يتكلم فيها بشيء، فأخذ بعض تلامذته يهزؤون بهما، فقال لهم الأردبيلي: قريباً يذهب هذان إلى جبل عامل ويصنفان المصنفات، وتقرؤون فيها، فكان كما قال: حيث صنّف الشيخ حسن (المعالم)، والسيد محمد (المدارك)، وجاءت إلى العراق وقرأ فيها الناس.
مؤلفاته:
1ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان.
2ـ زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن.
3ـ حديقة الشيعة في تفصيل أحوال النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
4ـ إثبات الإمامة (بالفارسية).
5ـ إثبات الواجب تعالى.
6ـ تعليقات على شرح المختصر العضدي.
7ـ تعليقات على خراجية المحقق الثاني.
8ـ حاشية على إلهيات شرح التجريد.
9ـ إثبات الإمامة، باللغة الفارسية.
10ـ رسالة إثبات الواجب.
11ـ رسالتان في الخراج.
12ـ استيناس المعنوية.
13ـ أُصول الدين.
وله رسائل وتعليقات، وكتب باللغة الفارسيّة.
زهده:
كانت شخصية الأردبيلي شخصية فذَّة تتحلى بأخلاق حسنة عالية، وجليلة، وكان قوي النفس، كثير المعروف والصدقة، وكان في كل عام يقاسم الفقراء ما عنده من الأطعمة ويبقي لنفسه سهم واحد منهم.
"يحكى أن بعض الزوار، رآه في النجف فحسبه لرثة ثيابه من بعض الفقراء المتكسبين، فسأله هل تغسل هذه الثياب بالأجرة قال: نعم، وواعده مكاناً في الصحن، ليأتي بها إليه في الغد، فأخذها وغسلها بنفسه، وأتى إلى الصحن في الوقت المضروب، فوجد صاحبها، فأعطاه الثياب وأراد أن يعطيه الأجرة، فامتنع، فأخبره بعض المّارة أن هذا المقدس الأردبيلي، فوقع على أقدامه معتذراً بأنه لم يعرفه، فقال: لا بأس عليك، إن حقوق إخواننا المؤمنين أعظم من هذا".
وكان المقدّس يأكل ويلبس ما يصل إليه بطريق الحلال ردّياً كان أم جيداً، وإذا أهدي إليه شيء من الثياب النفيسة لبسها وخرج بها إلى الزيارة فإذا سأله أحدهم شيئاً أعطاه إياها.
صفاته وأخلاقه:
جاء في الأنوار النعمانية للسيّد نعمة الله الجزائري: (كان في عام الغلاء يقاسم الفقراء فيما عنده من الأطعمة، ويبقي لنفسه مثل سهم واحد منهم، وقد اتفق أنّه فعل في بعض السنين الغالية ذلك، فغضبت عليه زوجته وقالت: تركت أولادنا في مثل هذه السنة يتكفّفون الناس، فتركها ومضى عنها إلى مسجد الكوفة للاعتكاف، فلمّا كان اليوم الثاني جاء رجل دواب حاملها الطعام الطيّب من الحنطة الصافية والطحين الجيّد الناعم، فقال: هذا بعثه إليكم صاحب المنزل، وهومعتكف في مسجد الكوفة، فلمّا جاء المقدّس الأردبيلي من الاعتكاف، أخبرته زوجته بأنّ الطعام الذي بعثه مع الإعرابي طعام حسن، فحمد الله تعالى، وما كان له خبر منه).
كراماته:
لقد تميز المقدَّس الأردبيلي بأنَّ له الكثير من الكرامات، وقد ذكر السيد نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار، كرامات عدة له، نذكر منها:
كان للمقدس الأردبيلي تلميذ من أهل تفريش، اسمه الميرغلام، يقول الميرغلام، كانت لدي غرفة في الصحن المطهَّر لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي ليلة كنت قد أنهيت المطالعة، فخرجت من حجرتي، وكانت الليلة شديدة الظلام، فرأيت رجلاً يمر بجانب الحرم، فقلت لنفسي: لعله سارق جاء يسرق قناديل الحرم، فنزلت واقتربت من الرجل بحيث أراه ولا يراني، فرأيته قد توجه ناحية الحرم.
ووقف، فوقع القفل وفتح، وكذلك فتح الباب الثاني فوصل إلى القبر المطهر، وألقى السلام، فجاءه الجواب من القبر فعرفت صوته، وأدركت أنه أستاذي، فتكلم مع الإمام عليه السلام في مسألة علمية.
ثم خرج، متوجهاً إلى مسجد الكوفة، فلما وصل إلى المحراب سمعت صوته يتكلم مع رجل آخر في تلك المسألة، ثم عاد إلى النجف، فعندما وصل إلى الباب، كان قد طلع الصبح، فقدمت إليه وقلت له: إني كنت معك من الأول إلى الآخر فأخبرني مع من كنت تتكلم، فقال لي: يا بني إن بعض المسائل قد تشتبه عليَّ، فأتوجه إلى القبر المطهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأسأله الجواب وهذه الليلة سألته فأحالني إلى مولانا الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وقال لي: إنّ ولدي المهدي (عليه السلام)، موجود هذه الليلة في مسجد الكوفة، فاذهب إليه، واسأله عن مسألتك، فالشخص الآخر هوالمهدي (عليه السلام).
ومنها:
أنه رأى في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد جلس عنده موسى كليم الله، فسأل موسى رسول الله (صلى الله عليه وآله): من هوهذا الرجل؟ فقال: اسأله. فقال موسى (عليه السلام) للمقدس: من أنت: قال المقدس: أحمد بن محمد من أردبيل أسكن في الزقاق الفلاني، والبيت الفلاني، فقال له موسى (عليه السلام) إنما سألتك عن اسمك، فلماذا هذا التفصيل؟! فقال له المقدس:
إن الله سألك ما تلك بيمنك، فلماذا ذكرت له كل ذلك؟ فتوجه موسى (عليه السلام) لنبينا وقال له: صدقت، إذ قلت علماء أمتي مثل أنبياء بني إسرائيل".
ومنها:
قال العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار: أخبرني جماعة عن السيّد الفاضل أمير علاّم قال: كنتُ في بعض الليالي في صحن الروضة المقدّسة بالغري ( النجف الأشرف ) على مشرِّفها السلام، وقد ذهب كثير من الليل، فبينا أنا أجول فيها إذ رأيت شخصاً مقبلاً نحوالروضة المقدّسة، فأقبلت إليه، فلمّا قربتُ منه عرفتُ أنّه أستاذنا الفاضل العالم التقيّ مولانا أحمد الأردبيليّ قدّس الله روحه، فأخفيتُ نفسي عنه حتّى أتى البابَ وكان مغلَقاً فانفتح له عند وصوله إليه، ودخل الروضة، فسمعته يكلّم كأنّه يناجي أحداً، ثمّ خرج وأُغلق الباب، فمشيتُ خلفه حتّى خرج من الغريّ وتوجّه نحومسجد الكوفة، فكنتُ خلفه بحيث لا يراني، حتّى دخل المسجد وصار إلى المحراب الذي استُشهِد عنده أمير المؤمنين عليه السّلام، ومكث طويلاً.. ثمّ رجع وخرج من المسجد وأقبل نحوالغريّ، فكنتُ خلفه، حتّى قرب الحنّانة فأخذني سُعال لم أقدر على دفعه، فالتفتَ إليّ فعرفني وقال: أنت أمير علاّم ؟ قلت: نعم، قال: ما تصنع ها هنا ؟ قلت: كنت معك حيث دخلتَ الروضة المقدّسة إلى الآن، وأقسم عليك بحقّ صاحب القبر أن تُخبرني بما جرى عليك الليلة من البداية إلى النهاية، فقال: أُخبرك على أن لا تخبر به أحداً ما دمتُ حيّاً. فلمّا توثّق ذلك منّي قال: كنتُ أفكّر في بعض المسائل وقد أُغلِقتْ علَيّ، فوقع في قلبي أن آتيَ أمير المؤمنين عليه السّلام وأسأله عن ذلك، فلمّا وصلتُ إلى الباب فُتح لي بغير مفتاحٍ كما رأيتَ، فدخلتُ الروضة وابتهلتُ إلى الله في أن يجيبني مولاي عن ذلك، فسمعتُ صوتاً من القبر أن ائتِ مسجد الكوفة وسَلِ القائم صلوات الله عليه؛ فإنّه إمامُ زمانك، فأتيتُ عند المحراب وسألته عنها وأُجِبت، وها أنا أرجع إلى بيتي.
ومنها:
كان الشيخ احمد الأردبيلي الملقب بالمقدس، احد الزّهاد الورعين، ومن اتقى أتقياء عصره. كان الشيخ لا يقطع صلاة اللّيل أبدا، ولا يشغله أي شيء عن عبادة الله.
وذات مرة ذهب الشيخ احمد الى البئر ليستقي من الماء ويتوضأ. ولكنه لما اخرج الدلورآه مملوء بدل الماء بالأحجار الكريمة.سبحان الله ما هذا؟
فأعادها الشيخ المقدس للبئر. وقال بتواضع: الهي إن احمد يريد الماء لوضوئه وصلاته، ولا يريد الأحجار الكريمة لتشغله عن صلاته وذكر ربه.
ثم ألقى الدلوفي البئر ثانية. وإذا بالدلويخرج للمرة الثانية مملوء بالأحجار الكريمة نفسها. فقال بتضرع: يا رب إن احمد عبدك يريد الماء لوضوئه وصلاته ولا يريد الأحجار الكريمة لتشغله عن ذكرك وعبادتك.ثم ألقى الدلوفي البئر واستقى ثالثة...وإذا بالدلويخرج مملوء بالأحجار الكريمة للمرة الثالثة !!!
فاخذ يردد: رحماك اللهم عبدك احمد يريد منك الماء، لتعبّده وتهجّده، وهويستغيث بك فأغثه بماء طهور يتوضأ. ثم استقى للمرة الرابعة، وإذا بالدلوفي هذه المرة يخرج مملوءا بالماء.فرح الشيخ المقدس بحصوله على الماء، واخذ يتوضأ بكل شوق وإقبال ليمتثل أمام ربّه، ويقوم بين يديه للصلاة والعبادة.
ومنها:
نقل عن حسن سريرة المقدس الأردبيلي مرجع الشيعة في زمانه وسيرته ما يقف له الإنسان حائراً متعجباً؛ إذ قيل إنه كان ذات يوم يمشي في صحن مرقد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، فسأله أحد الزائرين ـ دون علمه بمن يكون ـ عما إذا كان يعرف محلاً خاصاً بغسل الملابس، فقال له المقدس الأردبيلي:
أنا أغسلها لك بنفسي! ضارباً بذلك كل ما يمكن أن يكون عذراً قد يحول ما بين الإنسان وبين أداء الخدمة للمؤمنين والزائرين، الأمر الذي يكشف عن حقيقة السريرة الطاهرة لهذا الرجل النادر المثال، فقام بغسل ملابس الرجل الزائر، وعاد إليه بها في الوقت المحدّد لتسليمها، فشاهده بعض من يعرفه، فقال للزائر: هل تعرف من غسل ملابسك؟ إنه المرجع الأعلى! فأخذ الرجل يبدي كل الاعتذار، فردّه المقدس الأردبيلي قائلاً: إنما أنت صاحب الفضل عليّ، لأنك من زوّار أمير المؤمنين سلام الله عليه..
يُنقل أنّ الإمام سلام الله عليه، كان قد كافأه بأن كان يرحّب به في أيّ وقت أراد الزيارة حيث كانت الأبواب تفتح له دون مفتاح. وما أعظم ذلك من قدسية وفضل!
قال العلاّمة المجلسي: المحقّق الأردبيلي في الورع والتقوى والزهد والفضل بلغ الغاية القصوى، ولم أسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين، جمع الله بينه وبين الأئمّة الطاهرين.
خصال تحقيقيّة
للمقدّس الأردبيلي فضائل حميدة وسيرة كريمة في التحقيق والنقد والاستنباط، تستفاد من خلال بحوثه ومصنّفاته، منها:
• قوله في الإخلاص:
الأمر الضروريّ المهمّ الذي لابدّ منه، ولا تصحّ بدونه العبادة، هو: الإخلاص، الذي هومدار الصحّة وبه تتحقّق العبودية والعبادة، وهوصعبٌ ونادر (مجمع الفائدة)
ـ إنّ المدار على النيّة والإخلاص، وهوأمرٌ قلبيّ لا يخصّ الجهر والإخفاء، فقد يقع الرياء خَفاءً أكثر من الجهر ( زبدة البيان)
• وقوله في الظنّ:
ـ ينبغي الاحتياط التامّ؛ فإنّ الطريق صعب، وظنّي لا يُغني من جوعي، فكيف جوع غيري! ـ.... لكنّ ظنّي لا يغني من العلم شيئاً، فعليك طلبَ الحقّ والاحتياط ما استطعت..... فتأمّلْ لعلّك تجد غلطي (مجمع الفائدة).
• وقوله في الدليل:
ـ بالجملة ينبغي حفظ الضابط وعدم الخروج عنه إلاّ بدليل....العمدة تحقيق المسألة بالدليل ( مجمع الفائدة)
• عدم الجرأة في الفتوى:
ـ فتأمّلْ، ولا تقل على الله ما لا تعلم، فإنّ الذي يُتخيّل من استحسان العقل.. باطلٌ بطلاناً واضحاً.. فلا يمكن الجرأة في الأحكام الإلهيّة بمِثل هذه الأشياء (زبدة البيان)ـ وبالجملة، المسألة مجملة، والحُكْم على الوجه الإجمالي مشكل، فينبغي التفحّص والتأمّل في ذلك، وعدم الجرأة والاستعجال... نعوذ بالله من القول بالرأي والهوى (مجمع الفائدة)
• قوله في الاحتياط:
ـ إنّما يأمرُكُم ( أي الشيطان ) بالسُّوءِ والفحشاءِ وأن تقولوا على اللهِ ما لا تعلمون. معنى: أن تقولوا.. أنّ الشيطان يدعوكم إلى أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.. فيُفهم ( من الآية ) حرمة القول على الله.
ـ كلّ ما يُقال أنّه غِناء فهوحرام.. فإن ثبت اعتبار الترجيع والطرب في الغناء فهوالمحرَّم فقط، وما نعرفه، وإلاّ فيحرم الكلّ، والاحتياط في ترك الكلّ.
ـ ( وفي مسألة النظر إلى الأجنبيّة قال: ) الاجتناب أحوط مهما أمكن.(زبدة البيان)
ـ فتأمّل واحتطْ، فلا تخرج ( في السفر ) بعد دخول الوقت من المنزل حتّى تصلّي فيه تماماً لا في خارجه ( مجمع الفائدة).
ـ لابدّ من الاحتياط مهما أمكن؛ فإنّ الدهر خالٍ عن العالم ( لعلّه يشير إلى غيبة الإمام الحجّة عليه السّلام )، والأخذُ من مردّ الكتب من غير سماع عن العلماء والعملُ به مع قلّة البضاعة، والاحتمالُ في الكلام وسوء الفهم والعمل به خصوصاً لغير الفاهم، مُشكِل! واللهُ دليل المتحيّرين، وقابل عذر المضطرّين والمعذورين ( مجمع الفائدة).
ـ والاحتياط طريق السلامة، فلا يُترَك لوأمكن ( مجمع الفائدة).
هذا.. وللمقدّس الأردبيليّ أدبٌ خاصّ في التعامل مع فتاوى العلماء، فيباحثهم ويستدلّ على خلاف رأيهم بأسلوبٍ مهذّبٍ رفيع، وربّما وجّه كلامَهم على حُسن ظنٍّ واحتياط ثمّ أدلى بفتواه رحمه الله.
آراء خالدة في المقدّس:
هذه بعض الكلمات التي قيلت في حق المقدّس والتي نستشف منها المكانة التي يحتلها في قلوبهم:
ـ الشيخ الحر العاملي: مولاي الأجل الأكمل أحمد الأردبيلي، عالم فاضل، مدقق، عابد، ثقة، ورع عظيم الشأن جليل القدر.
ـ المرحوم المامقاني: "وأمر هذا الرجل في وثاقته، وجلالته وفضله، ونبله، وزهده، ودينه، وورعه، وأمانته، أشهر من أن يحط به قلم، أوكتاب، وله مقامات وكرامات.
ـ السيد علي الخامنئي: "لا شك أنّ الفقيه المحقق، المتبحّر الجليل المرحوم الملاّ أحمد المقدس الأردبيلي (قدس الله نفسه) يمثل إحدى النقاط المضيئة في تاريخ الفقاهة الشيعي. ودقة نظره في تطبيق الأدلة، مع الإدعاء الفقهي في كل مسألة، أضف إلى قوّة تحقيقه المقرونة بالتجديد والجرأة العلمية، هي من جملة الخصائص التي جعلته جديراً بصفة شيخ الطائفة والحبر المحقق. أما مكانته من الفذّة التي يضرب بها المثل، من حيث الورع والتقوى، فهي كما وصفها المحشِّي الجليل حين عدّه من جملة الذين تشدّ الملائكة أحزمتها لخدمتهم"
وفاته:
توفي المقدّس الأردبيلي في شهر صفر سنة 993هجرية، في المشهد المقدس الغروي، في مدينة النجف الأشرف، ودُفن في الحجرة المتصلة بالمخزن المتصل بالرواق الشريف. فقدس الله نفسه الزكية وحشرها مع من تحب.