هو أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، والده يلقَّب بالطّاهر والأوحد وذو المناقب. كان نقيب الطالبيّين وعالمهم وزعيمهم، جمع كلّ الصفات الحميدة، من علوّ الهمّة وسماحة النفس، والهيبة وغير ذلك.
أما والدته، فهي فاطمة بنت الحسن الملقّب بالناصر الصغير، نقيب العلويين في بغداد وعالمهم وزاهدهم وشاعرهم.
سطع نجمه في شهر رجب العام 355 هجرية/ 966 ميلادية في بغداد، وتوفي فيها في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأوّل من العام 436 هجريّة، وقد دفن في داره أوّلاً، ثم تمّ نقله بعدها إلى جوار مقام جدّه الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام).
والمتأمِّل في نسبه الشّريف، يرى أنّه لا مسافة كبيرة نسبياً بينه وبين الإمام أمير المؤمنين علي(ع)، إذ يوجد عشر وسائط من جهة الأمّ والأب معاً، وبينه وبين الإمام موسىى بن جعفر(عليهما السلام) خمسة آباء كرام.
وكدأب العلماء الكبار في حبّهم للعلم وتشجيعهم له والبذل في سبيله،كان الشريف المرتضى شغوفاً بالعلم، محبّاً لأهله، لذا انصرف إليه دراسةً وتدريساً بهمّة عالية وذهن متّقد، حتى إنه اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة يرتادها طلاب الفقه والكلام والتفسير واللّغة والشعر والعلوم، إلى جانب الفلك والحساب وغيره، وقد اشتهرت هذه المدرسة حتى سمِّيت "دار العلم"، وهي المدرسة الّتي أجرى فيها الشريف المرتضى(ره) الكثير من المناظرات العلميّة المشهورة، وقد ساهم أفقه الواسع، وسعة صدره، ورحابة عقله، ورؤيته الإنسانية التوحيدية، بغضّ النظر عن الانتماءات المذهبية والقومية، في جعلها منارة إنسانية جامعة، قصدها كثير من طلاب العلم من مختلف المذاهب والملل، دون تفريق بين ملّة وملّة ومذهب ومذهب.
فالسيّد المرتضى كان عالماً وحدوياً داعياً إلى الترفُّع عن العصبيّة والطائفية والمذهبية، ومارس ذلك في حياته ومواقفه، وما يلفت، أن مكتبته ضمّت ثمانين ألف مجلّد من مصنّفاته ومحفوظاته ومقروءاته، بحسب ما أحصاه تلميذه أبو القاسم التنوخي، ما يدلّ دلالةً قاطعةً على شغفه بالعلم وحبّه لاقتناء الكتب.
عاش الشريف المرتضى في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس الهجريّين، وهي فترة تفتُّت الدّولة العباسيّة وضعفها، وهي من أصعب الفترات التي مرّت بها الدّولة الإسلامية، وانعكس ذلك تعصّباً وفتناً مذهبية وطائفية، دفع الناس فيها ثمناً باهظاً. وفي هذه الأجواء الحسّاسة والحرجة، كان الشريف المرتضى صاحب رأي أصيل ومكانة معروفة لدى الجميع، بما له من وقار وعلم ومقام، كما تميّز بالزهد في الدنيا، داعياً إلى الاعتبار فيها، سالكاً سبيل الزّاهدين، وهذا ما نجده من خلال بعض أبياته الشعرية:
واجعل صلاحك سرمدا
في هذه الدّنيا ومن
إمّا صروف مقبلا
والذلّ موت للفتى
والذّخر في الدّارين إمّا
|
|
فالباقيات الصّالحات
فيها لنا أبداً عظات
ت أو صروف مدبرات
والعزّ في الدنيا حياة
طاعة أو مأثرات
|
يتبيّن من شعره ما فيه من زهد ودعوة إلى التأمّل والاعتبار. وطبيعي من كان في هذه المكانة، أن يكون لأساتذته، كما لتلاميذه، المراكز الدينية والدنيوية الهامّة والمؤثّرة. يكفي أن نذكر من أساتذته ومشايخه:
ـ الشيخ المفيد، العالم المتكلِّم المشهور.
ـ ابن نباتة السعدي الشّاعر المشهور.
ـ المرزباني، وهو محمد بن عمران المعروف بالمرزباني،كان راوية للأخبار والآداب والشّعر.
ـ ابن جنيقا، وهو أبو القاسم بن يحيى الدقّاق، وكان محدِّثاً ثقةً مأموناً حسن الخلق.
ـ أبو عبد الله القمي، وهو الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه، أخو الشيخ الصّدوق، وكان جليل القدر، عظيم الشّأن في الحديث، وقد وثّقه أصحاب التراجم، وأخباره مشهورة في كتبه.
ومن تلامذته:
ـ الطوسي، وهو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطّوسي، الفقيه الأصولي والمحدِّث الشّهير.
ـ سلاّر بن عبد العزيز الديلمي، كان ينوب عن أستاذه المرتضى في التدريس، وهو فقيه متكلّم.
ـ أبو الصلاح الحلبي، وهو الشيخ تقي الدّين بن نجم الحلبي، خليفة المرتضى في البلاد الحلبيّة، ومن كبار علماء الإماميّة.
ـ ابن البرّاج، وهو أبو القاسم القاضي السعيد عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البرّاج.
ـ أبو الفتح الكراجكي، وهو الإمام العلامة الشيخ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، عالم فاضل متكلّم فقيه محدِّث ثقة جليل القدر.
ـ عماد الدين ذو الفقار الملقّب بـ"حميدان" كان فقيهاً عالماً متكلّماً ورعاً.
ـ الدوريستي، أبو عبدالله جعفر بن محمد الرازي الدوريستي، من أكابر علماء الإمامية، اشتُهر في جميع الفنون.
ومن تلامذته أيضاً، خلفاء وأمراء ووزراء، ما يدلّ دلالة قاطعة على منزلته العلمية التي جعلته مقصداً للعوام والخواص. فمن الخلفاء: الطائع لأمر الله، والقادر، وابنه القائم بأمر الله، وأبو العباس محمد بن القائم بأمر الله.
ومن الملوك: بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، وركن الدين جلال الدولة.
ومن الوزراء: أبو غالب محمد بن خلف، وأبو علي الرخجي، وأبو علي الحسن بن حمد، وأبو سعيد بن عبد الرحيم، وأبو الفتح، وأبو طالب بن سليمان البغدادي.
ومن الأمراء: أبو الغنائم محمد بن فريد، وأبو منصور بويه بن بهاء الدولة.
ومن العلماء والقضاة والأدباء:الشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد، وأبو الحسين الحاجب، وأبو إسحاق الصابي، وابن شجاع الصوفي، وأبو الحسين أحمد بن علي الكاتب، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو الحسن السمسمي، والشاعر أبو بكر محمد بن عمر العنبير.
هذه النبذة عن أصحاب الشّأن الّذين تتلمذوا على يدي الشريف المرتضى، والذين كان لهم التأثير الكبير في مشهد الحياة العامّة.
وطبيعي من كان بهذه المنزلة الرّفيعة، أن يكون محطّ مدح العلماء وثنائهم، حتى قيل فيه الكثير، ومن هؤلاء "الثعالبي"، حيث قال في تتمة "يتيمة الدّهر":
"قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشّرف والعلم والأدب والفضل والكرم، وله شعر في نهاية الحُسن".
وذكره ابن بسام في أواخر "الذّخيرة"، فقال: "كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، وإليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وجامع شاردها وآنسها، وكانت ممن سارت أخباره، وعرفت له أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، إلى تواليفه في الدّين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنّه فرع تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل...
وعن الصّفدي أنه قال في "الوافي بالوفيات": "كان فاضلاً ماهراً أديباً متكلماً".. وعن السيوطي في "الطبقات" عن ياقوت عن أبي القاسم الطوسي، أن المرتضى "توحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مثل الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب من النحو الشعر ومعانيه واللغة وغير ذلك، وله تصانيف".
وعن السيد علي خان الشيرازي في كتاب "الدّرجات الرفيعة" أنه قال: كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه. أمّا والدة الشّريف المرتضى، فهي فاطمة بنت السيد بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب..
وكان الشريف المرتضى أوحد أهل زمانه فضلاً وعلماً وكلاماً وحديثاً وشعراً وخطابةً وجاهاً وكرماً إلى غير ذلك.. قرأ هو وأخوه الرضي على ابن نباتة صاحب الخطب وهما طفلان، ثم قرأ كلاهما على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان.. وكان المفيد رأى في منامه أن السيّدة فاطمة الزهراء(ع) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ، ومعها ولداها الحسن والحسين(ع) صغيرين، فسلّمتهما إليه وقالت علِّمهما الفقه، فانتبه الشيخ وتعجّب من ذلك، فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا، دخلت إليه فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها، وبين يديها ابناها علي المرتضى ومحمد الرضي صغيرين، فقام إليها وسلّم عليها، فقالت له: أيها الشيخ، هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه، فبكى الشيخ وقصّ عليها المنام، وتولّى تعليمهما، وأنعم الله عليهما، وفتح الله لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدّنيا وهو باقٍ ما بقي الدّهر.
وعن العلامة الطباطبائي في فوائده الرجالية، أنه ـ أي المرتضى ـ يُعرف بأبي الثمانين خلف بعد وفاته، ثمانين ألف مجلّد من مصنفاته ومقروآته ومحفوظاته. وعن الثعالبي في "اليتيمة"، أنها قوِّمت بثلاثين ألف دينار بعد أن أهدى إلى الرؤساء والوزراء منها شطراً عظيماً، وصنّف كتاباً يقال له الثمانين، وعمره ثمانون سنة وثمانية أشهر.. وعن القاضي التنوخي، صاحب السيّد المرتضى، أنه قال في حقّه: بلغ في العلم وغيره مرتبة عظيمة، قُلِّد نقابة الشّرفاء شرقاً وغرباً، وإمارة الحجّ والحرمين، والنظر في المظالم وقضاء القضاء، وبقي على ذلك ثلاثين سنة، وهي مدى حياته بعد أخيه الرضي.
ومن العجب، أنّه مع تقلُّده لهذه الأعمال، ومزاولته لتلك الأشغال وحوزة تلك الأموال، برز منه هذه المصنّفات الّتي أكثرها عقليات، وها من أعظم الكرامات.. ومصنفاته عديدة تستفيد الناس بها في كلّ زمان، قال العلامة الطباطبائي: وكتبه كلّها أصول وتأسيسات غير مسبوقة بمثال من كتب مَن تقدَّمه.
وللإشارة أيضاً إلى سعة علمه وأدبه وفقاهته، يقول الدكتور العلامة عبد الرزاق محي الدين، وكان قد أعدّ رسالة دكتوراه في جامعة القاهرة تحت عنوان "أدب المرتضى من سيرته وآثاره"، وهو عضو في المجامع العربية اللغوية: "كان مما انتهيت إليه في تقدير المرتضى في ثقافته الأدبيّة، أنه كان في طليعة المفسّرين للقرآن الكريم بالرّأي من الشيعة، فقد كان غالبهم مفسّرين بالأمر من قبل ذلك، وأنه كان من سابقيهم دعوةً إلى فتح باب الاجتهاد في الفقه، وأسبقهم تأليفاً في الفقه المقارن، وأنه كان واضع الأسس لأصول الفقه لديهم، ومجلّي الفروق بينها وبين أصول العقائد لدى الشيعة وسواهم، وأنه في علم الحديث، كان أول من نادى الشيعة برفض شطر كبير من الحديث، وبخاصّة ما كان من خبر الآحاد فيها، وكان لعمله هذا فضل كبير في تمحيص أحاديث أهل البيت وفحصها، وأنه في علم الكلا، كان قرَن القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة وشيخهم الّذي إليه انتهت زعامتهم في القديم والحديث.. وكان يعتبر مجدِّد المذهب الشيعي الإمامي وباعثه في القرن الرابع الهجري".
ويتابع الدّكتور عبد الرزاق محيي الدّين في معرض حديثه عن أدب السيّد المرتضى قائلاً: "ولقد رأيت في المرتضى أديباً ناقداً يُعتبر في طليعة الناقدين، وأديباً ثائراً من خير المترسّلين، وأديباً شاعراً يسلك به في الشعراء الآليّين الّذين يملكون المادّة الصالحة، والآلة المرهفة، ولا يملكون القدرة على الانتفاع بها من أجل تحويلها إلى بضاعة تدخل سوق الأدب، فتصيب خطاباً بالغاً من تقدير ورواجٍ".
ويشير محيي الدّين إلى قوّة الحافظة عند المرتضى وسعة اطّلاعه بالقول: "ويبدو من مؤلفات "السيد المرتضى" ـ وبخاصّة ما كان منها أدبياً ـ أنه كان قوي الحافظة، كثير الرواية والأخذ، وأنه بما أخذه من كتب القدماء، وبما رواه عن أساتذته، لا يقلّ شأناً عن "المبرّد" و"أبي علي القالي" و"ابن الأنباري" وأمثالهم، فقد وقف الرّجل فيما قرأناه من أماليه وغيره، على كثير من مأثور "الأصمعي" و"ابن السكّيت" و"أحمد ابن عبيد" و"ابي بكر العبدي".. قرأنا تاريخ الطبري والملاذري وأبي مخنف، واقتبس من كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة، والكامل للمبرِّد، وديوان الحماسة للبحتري، وترجم لكثير من شعراء المعتزلة والجبرية، وأطال في قصص المعمِّرين وأئمّة الخوارج.
والسيد المرتضى علم الهدى، له شعر في غاية الجودة، يدلّ على مستوى غني وتعبيري راقٍ، ومن شعره قوله:
وطرقتني وهناً بأجواز الرّبا
في ليلة وافى بها متمنّع
يا ليت زائرنا بفاحمة الدّجى
فقليله وضح الضحى مستكثر
|
|
وطروقهنّ على النّوى تخييلُ
ودنت بعيدات وجاد بخيلُ
لم يأتِ إلا والصّباح رسولُ
وكثيرة غلسُ الظّلام قليلُ
|
وقوله:
وقد علم المغرور بالدّهر أنّه
وما المرء إلا نهب يوم وليلة
وكان بعيداً عن منازعة الرّدى
ألا إنّ خير الزاد ما سدّ فاقةً
وإنّ الطّوى بالعزّ أحسن بالفتى
|
|
وراء سرور المرء في الدّهر غمّه
تخبّ به شهب الفناء ودهمه
فألقته في كفّ المنيّة أمّه
وخير تلادي الذي لا أجمّه
إذا كان من كسب المذلّة طعمه
|
وله في أمير المؤمنين(ع):
وهو الّذي ما كان دين ظاهراً
وهو الذي لا يقتضى في موقفٍ
ووقى الرسول على الفراش بنفسه
ثانيه في كلّ الأمور وحصنه
|
|
في النّاس لولا رمحُهُ وحسامه
أقدامه نكص به أقدامه
لما أراد حمامه أقوامه
في النائبات وركنه ودعامه...
|
مؤلّفاته كثيرة لا تحصى، وفي مجالات العلم كافة، وتبيّن كميتها سعة ثقافته واطّلاعه، وما تحلّى به من حبّ للعلم وأهله، فلا ننسى أنّ مكتبته ضمّت ثمانين ألف مصنّف ومجلّد، وكانت مقصداً للعلماء والزعماء.
ومن مؤلفاته: (الذخيرة في الكلام ـ جمل العلم والعمل في الفقه ـ تقريب الوصول ـ دليل الموحدين ـ طبيعة الإسلام ـ تنزيه الأنبياء والأئمة(ع) ـ المقنع في الغيبة ـ الذريعة في الأصول ـ مسائل الخلاف ـ الأمالي ويسمّى الغرور والدّرر ـ المسائل الطرابلسية ـ مسائل البرمكيات ـ إنقاذ البشر من الجبر والقدر...).
وقال ابن الأثير الجزري في مختصر تاريخ ابن خلكان، واليافعي في تاريخه، أنه اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة؛ هل هو جمْعه أو جمْع أخيه الشّريف الرضي، وأعجب منه ما عن الحسن بن سليمان تلميذ الشّهيد من التصريح بأنّ نهج البلاغة تأليف الشريف المرتضى.
هذا غيض من فيض الشّريف المرتضى، وسيرته المشرقة والمعطاءة علمياً وفكرياً، والتي أثرت الحياة العامة في عصره والعصور التي تلته إلى اليوم، حتى غدا علماً من أعلام الإسلام، وطار صيته في الآفاق.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .