الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ كانت ثورتُه وكان قيامُه وكانت حركتُه امتداداً لقيام وثورة وحركة جَدِّه الإمام الحسين عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، امتداداً كلياً، امتداداً في الجوهر والمضمون، في الروح والهدف، امتداداً في الموقف، امتداداً في التوجه، امتداداً في طبيعة الظروف والدوافع.
هي امتدادٌ لحركة الإسْـلَام، حركة الإسْـلَام في حقيقته في مبادئه في جوهره في قيمه في أَخْلَاقه، امتدادٌ لحركة الإيمان بالاستجابة لله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى، ونحن حينما نُحيي هذه الذكرى نحيها بعدة اعتبارات كواقعة وحادثةٍ تأريخية مهمة لها تأثيرُها الكبير، وامتد هذا التأثير في الأُمَّـة جيلاً بعد جيل، لها أهميتها في كُلّ شيء، في مضمونها، في أسبابها، في مستوياتها، في أهدافها، في تأثيرها، فيها من العِبَر والدروس التي نحتاج إليها اليوم، نستفيدُ منها كواقعة تأريخية لها صلة بالتأريخ الذي امتدَّ تأثيرُه إلَـى الحاضر، فما حاضرُها اليوم بكل ما فيه إلا امتداد لذلك الماضي.
نُحييها باعتبارها ذكرى لعَلَمٍ عظيمٍ من أعلام الهدى، من رموز الإسْـلَام، رجلٍ عظيمٍ حمل رايةَ الإسْـلَام في الأُمَّـة، ورفع صوت الحق في زمن السكوت، وتحَـرّك في أوساط الأُمَّـة كُلّ الأُمَّـة؛ بهدف إنقاذها من الضلال والظلمات والظلم والقهر والطغيان، فهو باعتباره رمزاً من رموز الإسْـلَام، وعَلَماً من أعلام الهُدى، هو في موقع القدوة، وفي موقع الأسوة، نتطلع إليه، إلَـى جهاده، إلَـى سيرته، إلَـى مواقفه، إلَـى أقواله، إلَـى علومه، إلَـى كُلِّ ما قدمه للأُمَّـة، وما قدمه إنما قدمه من خلال ما اهتدى به وما التزم به وما تحلّى به من مبادئ الإسْـلَام وقيم الإسْـلَام وأَخْلَاق الإسْـلَام وتعاليم الإسْـلَام، فهو رمزٌ إسْـلَاميٍ نرتبطُ به في الدين قدوةً وعَلَمَ هدى، وهو أيضاً رمزٌ للأُمَّـة فيما قدمه للأُمَّـة، لقد جرى في العُرف الإنساني أن تحتفلَّ الشعوبُ وتحتفلَّ الأمم بذكرى أمجادها، وبذكرى عظمائها، وأن تخلّدَ لعظمائها ذكراهم الذين أسهموا في أُمَمِهم بما قدموه لها على مستوى الإنقاذ لها الدفاع عنها، النهضة بها، الإصلاح في واقعها، جرى عُرف البشرية أن تمجد عظماءها وتخلد ذكراهم، وأن تجعل منهم فيما كانوا عليه وفيما قدموه أن تجعل منهم القدوة التي ينجذب إليها الجميع ويقتدي بها الجميع ويتأثر بها الجميع، فيكون للذكرى ويكون لذلك الارتباط الوجداني والنفسي والثقافي أثَرُه الكبيرُ في حياة الأمم، في نهضة الأمم، في نشاط الأمم، في تحمل الأمم للمسؤولية، وفي استعدادها لتحمُّل أعباء المسؤولية.
الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ قدّم للأُمَّـة الكثير الكثير، مَن يقرأ التأريخ يعرف ذلك، من يقرأ التراث الإسْـلَامي يعرف ذلك.
وعلى كُلٍّ نحن عندما نُحيي هذه الذكرى نحيها من واقع نحن في أمسِّ الحاجة فيه إلَـى الاستفادة من الإمامِ زيدٍ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، من الاستفادة من أعلام الهُدَى ومن رموز الإسْـلَام، إلَـى الاستفادة من حركة التأريخ بكله، في ما يزيدُنا وعياً ويزيدنا بصيرة ويزيدنا همة ويزيدنا فهماً للمسئولية وفهماً لما علينا أن نقدم ويزيدنا عزماً وصبراً وثباتاً في مواقفنا.
الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ تحَـرّكَ بكل ما يحمله من مبادئَ وقيمٍ وبكل تلك الأهداف العظيمة والمهمة التي أعلن عنها ونادى بها في أوساط الأُمَّـة واستشهد مظلوماً وكانت مظلوميته أيضاً مظلوميةً سطرّها التأريخ مؤلمةً جداً تقدم بذاتها وبنفسها الكثيرَ من الحقائق والدروس والعبر، استشهد الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، أُخرج بعد الاستشهاد من قبره، صُلب لسنوات عديدة، عُرّي جسده الشريف وبقي مصلوباً، في نهاية المطاف، أنزلوا جسدَه الشريف من على العود الذي كان مصلوباً عليه وقاموا أيضاً بإحراقه، ثم ذروه في نهر الفرات حتى لا يبقى منه أي أثر، ولا يبقى له أي ذكر، لكن مع كُلّ ذلك بقي الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ في أوساط الأُمَّـة بقي منهجاً، بقي ثورة بقي موقفاً بقي درساً كبيراً للأُمَّـة، بقي في الوجدان مشاعرَ حُبٍّ وإعزاز، وبقي في التراث عَلَماً ومعرفة وهداية، وبقي موقفاً يذكر وموقفاً يعتبر وموقفاً يؤثر في إحياء الأُمَّـة وتحريك الأُمَّـة واستنهاض الأُمَّـة.
الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، ما الذي حرّكه؟، ما الذي دفعه؟، ما الذي جعله ينهض في ظروف صعبة وحساسة ويضحي تلك التضحية؟، مَن يعود إلَـى التأريخ ويستقرئ الظروف التي تحَـرّك فيها الإمامُ الشهيدُ زيدٌ بنُ علي عليهما السلامُ يعرفُ جيداً أن تلك إنما كانت هي حركة الإسْـلَام وحركة القرآن وحركة النهج المحمدي الأصلي قام بها ونهض بها وجسّدها وأحياها الإمامُ الشهيدُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ.
لقد عانت الأُمَّـةُ من التسلُّط الأموي الذي استفاد من موقعه في السلطة وكان وصولُه كارثةً كبيرةً على الأُمَّـة في كُلّ شيء على الأُمَّـة في دينها ودنياها على الأُمَّـة في حاضرها ومستقبلها، حاضرها آنذاك ومستقبلها الممتد عبر التأريخ وعبر الأجيال.
التسلُّطُ الأموي كان يشكِّلُ خطورةً كبيرةً جداً على الأُمَّـة؛ لأنه يتناقَضُ في أهدافه، وفي سلوكه، وفي ممارساتها، مع كُلّ مبادئ هذه الأُمَّـة مع مشروعها الأساس الذي من المفترَضِ أن تُبنى عليه في واقعها بكله، في نظام أمرها، في السلطة، في الحكم، في شأنها الاجتماعي، في شأنها السياسي، في واقعها الأَخْلَاقي، في دورها الحضاري، في كُلِّ ما يتصل بها، إن هذه الأُمَّـة هي أمة الإسْـلَام، هي أمة محمد، هي أمة القرآن.
ومن المفترض وما هو طبيعي في حقنا أن يُبنى واقعُها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأن يحدّدَ دورها حضارياً طبقاً لذلك، طبقاً للمبادئ، طبقاً للتعاليم، طبقاً للأَخْلَاق، طبقاً للقيم التي أتى بها هذا الإسْـلَام، التي تضمنها القرآن، التي بلغها محمد، وأقامها محمد، وسعى لإحيائها رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وهي المبادئ العظيمة، المبادئ السامية، الأَخْلَاق الكريمة، التي أرادها اللهُ لعباده، والتي هي متطابقةٌ مع الفطرة الإنسانية، {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
للإسْـلَام مشروع سمو، مشروع أَخْلَاق، مشروع كرامة، مشروع عدالة، ولكن لا أبقى الأمويون في الأُمَّـة كرامة، لا أبقوا لها كرامة، ولا أبقوا لها عزة، ولا أبقوا لها سمواً، وكان أداؤهم وممارساتهم الظالمة إنما هي على النقيض من مبادئ هذا الإسْـلَام من جوهر هذا الإسْـلَام مع استغلالهم لما بقي من شكليات لم يروا فيها أنها تؤثرُ عليهم وإنما رأوا فيها أنهم احتووها فصارت ضمن وسائلهم وأدواتهم التي يستغلونها في التحكم بالأمة والسيطرة على الأُمَّـة.
إن مظلومية آل البيت عليهم السلام في التأريخ لم تكن أبداً لشأنٍ يخُصُّهم ولا لأمرٍ لا يتجاوزهم إنما كانت مظلومية الأُمَّـة بكلها، لم يكن لهم ولا لأنصارهم، ولا لمَن تحَـرّك معهم في أوساط الأُمَّـة، أيُّ شأن خاص أَوْ مكاسب شخصية، أَوْ أطماع شخصية، أَوْ نَزَعَات لاعتبارات محدودة، لا، التسلط الأموي استهدف الأُمَّـةَ بكلها منذُ بدايته منذ يومه الأول، واستهدفها في المبادئ؛ لأنه كان يرى أنه لا يستطيع أن يتحكمَ بالأمة، أن يسيطر عليها، إلا بعد أن يهدفَ فيها المبادئ وأن يهدم منها القيمَ والأَخْلَاق والوعي وأن يُخرِجَهَا من النور الذي أتى بها رسولُ الله محمدٌ، وقدمه من خلال كتاب الله الكريم، أن يُخرِجَها من ذلك النور إلَـى الظلمات المتراكمة ظلمات التضليل وظلمات الإفساد.
الرسولُ صلواتُ الله عليه وعلى آله كان قد قدّم إنذاراً مبكراً بخطورة هذا التسلط الأموي وبهذا الدور الهدّام لبني أمية.
الرسولُ رأى في منامه يوماً ما أن بني أمية ينزون على منبره الشريف نَزْوَ القردة، فأزعجه ذلك جداً، وعرَفَ بما عرّفه اللهُ، بما أخبره الله بوحي الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى، أنهم سيتمكنون يوماً من الوصول إلَـى التحكم بمقاليد أمر الأُمَّـة، وأنهم سيصلون يوماً ما إلَـى موقع السلطة وموقع القرار في هذه الأُمَّـة ومن ثم ستكون ممارساتهم في الأُمَّـة في كُلّ ما يفعلونه في واقع الأُمَّـة، سياساتهم، توجهات، أسلوبهم في الحكم تصرفاتهم بكلها، كلها خارجةً وشاذةً عن النهج الإسْـلَامي وعن النهج الفطري، عن الفطرة الإنسانية؛ لأنها ستقوم على الظلم والتسلط والاستهتار واللامبالاة.
الرسولُ كان أخبَرَ عنهم أنهم في المرحلة التي يتحكموا بها، سيكون برنامجهم في الأُمَّـة إنما هو البرنامج الشيطاني والبرنامج النفاقي، وقال عنهم وهو يصف الحالة التي إن وصلوا إليها ماذا سيعملون (اتخذوا دينَ الله دَغَلا، وعبادَه خَوَلا، ومالَهُ دُوَلا).
كلماتٌ جامعة، كلمات معَبِّرةٌ، كلمات مهمة، تستحق التأمل، وتستحق الترديد، وتستحقُّ التذكار، كلماتٌ من تأملها يدرك من خلالها الخطورة الرهيبة، الخطورة القصوى لذلك الدور الهدام، والهدام جداً والهدام إلَـى أسوأ ما يمكن أن نتصور، دينُ الله الذي هو نور يُخرِجُ الناسَ من الظلمات الذي هو بصائر الذي هو وعيٌ، الذي هو السمو للإنسان، الذي هو السبيلُ لترشيد هذا الإنسان ليكونَ إنساناً راشداً، واعياً، فاهماً، تصوُّراته مفاهيمه، أفكاره نقية سليمة، لا تشوبها الخرافة، ولا تشوبُها الأباطيل، ولا يشوبها الظلام والضلال.
دينُ الله الذي هو زكاءٌ لنفسية الإنسان، وتطهيرٌ لنفسية الإنسان، فتسمو نفسَه وتزكو وتطهر نفسيته، ويطهُر قلبه، فحمل كُلَّ مشاعر الخير، وكل الإحساس الإنساني، وكل الوجدان الخيري، حتى يتأصَّلَ في تفكيره وفي وجدانه وفي نفسيته الخيرُ كُلّ الخير، الدينُ دينُ الله، الذي هو بتعاليمه والذي هو بمنهجه والذي هو بنظامه يرمي إلَـى إحقاق الحق وإقامة العدل في الحياة، والسمو بهذا الإنسان لاستنقاذه من الضياع في هذه الحياة، لا يضيع كالحيوانات والأنعام بلا هدفٍ سامٍ، بلا مشروعٍ عظيم ومقدِّس يليق بهذا الإنسان، يليق بالكرامة التي كرّمه الله بها، يليق بالدور الذي أراده اللهُ له، يتخذونه دَغَلا، كيف؟ جناية مباشرة على الدين، استهدافٌ مباشرٌ إلَـى الدين، كيف هو هذا الاستهداف إنه من خلال التزييفِ والتحريف، التزييف الذي يعمدُ إلَـى تقديم قوالبَ جديدةٍ باسم الدين نفسه، محسوبة على الإسْـلَام نفسه، قوالب جديدة، تصورات جديدة، مفاهيم جديدة مختلفة، هي تخدمُهم، هي تمكّن لهم، هي تهيئُ لهم الظروف الملائمة لفعل ما يشاؤون ويريدون، لقد صنعوا في الإسْـلَام وداخل الإسْـلَام إسْـلَاماً من نوعٍ آخر، مفاهيم كثيرة، حسبت على الإسْـلَام، وليست من الإسْـلَام، وهم عمدوا إلَـى لبس الحق بالباطل تماماً كما فعل بنو إسرائيل، وثبتوا ضمن العقائد ضمن المفاهيم الثقافية والفكرية ضمن التصورات ضمن المبادئ ضمن السلوك والأعمال والتعاليم العملية، ضمّنوها الكثيرَ والكثير مما كُتب مما خطب به على المنابر، مما لقن بها الأجيال أَوْ ذلك الجيل، داخل المدارس، داخل الكتاتيب، المساجد، في حلقات الدراسة والعلم، فاستهدفوا المضمون الديني في تعاليمه، في منهجه، في مبادئه، فحرّفوا وزيّفوا وغيّروا، وبدلوا، حتى قولبوا شكلاً للإسْـلَام شيّد فيه الكثير من الباطل وبقي فيه القليل من الحق، واختلط به الكثير من الظلام، وتضاءلت نِسَبُهُ في ذلك الظلام، حتى صارت في مراحلَ كثيرةً من التأريخ على نحو ضعيف لا يكاد يُرى إلا أنه بصيص من النور من نوافذَ محدودةٍ.
هكذا عملوا، وكان لهذا تأثيرٌ كبيرٌ، تأثير كبير في مستقبل الأُمَّـة، في مواقف الأُمَّـة، ولذلك وصلوا إلَـى درجة التعطيل الفعلي للمشروع الإسْـلَامي في الحياة، فعطّلوه من أثره العظيم والسامي في الإنسان، فرأينا كيف صنعوا في الإنسان، رأينا الإنسان الذي تأثر بهم، الذي اقتنع لهم، الذي التف حولهم، الذي آمن بهم ونهج نهجهم، كيف صار إنساناً متوحشاً ظلامياً، مفسداً ومتكبراً، ومتوحشاً خالياً من كُلّ المشاعر الإنسانية، لا رحمةَ لديه، جاهزاً لأن يعملَ من أجلهم أي شيء وأن يتصرفَ أيَّ تصرف، وبذلك استطاعوا أن يفعلوا أشياءَ كثيرةً ما كانت لتُفعَلَ في بيئة إسْـلَامية بقيت سليمة، لكن كانوا قد شابوا هذه البيئة الإسْـلَامية وأَوْبَأُوْهَا بما لديهم من ضلال وفساد ونشاط تخريبي، تخريب للقيم وتخريب للمبادئ، تخريب على المستوى الثقافي، تخريب على المستوى النفسي، في تدنيس النفوس بدلاً عن تزكيتها.
فاستطاعوا أن يحرّكوا الجيوش المكونة من الآلاف من المنتسبين لهذا الدين، من الذين يصلون بالصلاة ويصومون الصيام، وحتى يتلوا بعضهم القرآن، وحتى ينتسبون في المشاعر الإسْـلَامية إلَـى هذا الإسْـلَام، ليفعلوا ما يمكنُ أن نتصور أن يفعله المتوحشون من بني الإنسان، مَن انسلخوا عن الفطرة الإنسانية، ما بالُك بالدين؟!، ما بالك بالقيم؟!، ما بالك بتعاليم السماء وبوحي الله وتعاليم الرسل والأنبياء؟!.
استقرئوا أيها الإخْوَةُ بعضاً مما حدث في التأريخ على أيديهم، كيف استهتروا بالإسْـلَام جُملةً وتفصيلا، كيف استهانوا في هذا الإسْـلَام بكل شيء، بالإنسان، أولُ الاستهانة هي بالإنسان، ثم الاستهانة بالمقدّسات، الاستهانة بكل ما هو مقدّس في هذا الإسْـلَام، كانوا يستهترون حتى بالرسول ورسالته، كان قائلُهم من كرسي السلطة وهو يتربَّعُ على موقع المسؤولية كان يستهترُ برسولِ الله ورسالته بشكل عام، فيأتي ليقول:
لَعِبَتْ هَاشِمُ بالمُلْكِ فَلَا خَبَرٌ جاء ولا وَحْيٌ نَزَل
يأتي الآخرُ منهم في الوقت الذي يقدِّمُ نفسَه خليفةً للمسلمين ويقدم نفسَه قائداً للأُمَّـة الإسْـلَامية ليقولَ مما يعتبرُه كرسي الخلافة وكرسي المسؤولية وكرسي السلطة:
تلعَّب بالبرية هاشميٌّ بلا وحي أتاه ولا كتاب
هكذا إنكار بالكامل للرسالة الإسْـلَامية.
يأتي الخطيبُ من وُلاتهم في مكة ليناديَ في أوساط الحجاج فيقول لهم: أيها الناس إن خليفتَكم أفضلُ من رسولكم، إن خليفةَ الله أفضلُ من رسول الله.
ليقولَ لهم بكل وقاحة إن زعيمه الفاجر الفاسق الظالم الباغي الجاهل المتوحش المنسلخ من كُلّ القيم والأَخْلَاق أفضلُ من رسول الله محمد صلوات الله عليه وعلى آله.
تذهب جيوشُهم إلَـى مكّة المكرمة فتستبيحها وتستبيح قداستها، يستهدفون الكعبة، الكعبة المشرّفة بنفسها، يرمونها بالمنجنيق، يحرقونها مرة، ويهدمونها تارة أخرى، وهم يستهدفونها بالمنجنيق، بلا مبالاة، اليوم يا أيها المسلمون، اليوم أليس من أكثر وأكبر ما يمكن أن نتخوفه على مقدساتنا أن تستهدف الكعبة، أليس أقسى ما يمكن أن نتوقعَها في مقّدساتنا، سواء من الإسرائيليين أَوْ من الأمريكيين أن يستهدفوا الكعبة باعتبارها من المقدّسات وفي أولى المقدسات الإسْـلَامية، أولئك فعلوا ذلك، لم يرعوا حُرمةَ هذا المقدَّس أبداً.
يستهدفون المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلواتُ الله عليه وعلى آله، يستهدفون حَرَمَه الشريف ويستهدفون أبناء المدينة من المهاجرين والأنصار، لا احترام، لا للمدينة ولا لمسجد رسول الله ولا لسُكانها من المهاجرين والأنصار وذراريهم، استهدفوا الجميع، قتلوا الكثير من أصحاب رسول الله صلواتُ الله عليه وعلى آله، حتى أنه بعد وقعة الحَــرَّة يقول المؤرخون: لم يبق بدري بعدها، يعني أن كُلَّ الذين كانوا باقين في ذلك الزمن وامتدت بهم الحياةُ إلَـى تلك الواقعة ممن شهدوا بدراً غزوة بدر مع رسولِ الله محمدٍ صلوات الله عليه وعلى آله، الواقعة الشهيرة التي كانت أهمَّ واقعة وأولَ واقعة، مثّلت ضربةً كبيرةً لأعداء الإسْـلَام، أولئك كان يحمل بنو أمية نزعةَ الثأر للانتقام مما حدث فيها، الانتقام للمشركين والكافرين المعتدين الذين حاربوا رسولَ الله صلوات الله عليه وعلى آله، لقد كان الأمويون يحملون نزعةَ الثأر والانتقام من رسول الله ومن أهل بيته، ومن أنصاره، من أصحابه من المهاجرين والأنصار، كانوا يحملون هذه النزعة، نزعة الحقد ونزعة الثأر، وكانوا متوثّبين على الدوام ليومٍ من الأيام ينتقمون فيه من رسولِ الله في أهل بيته وفي أنصاره وفي المهاجرين معه الذين نصروه وجاهدوا معه.
هكذا كانوا بهذه النفسية بهذا الحقد بهذا العداء، واستباحوا المدينة، قتلوا صحابة وقتلوا أولاد الصحابة وقتلوا ذرية الصحابة، وفي نفس الوقت انتهكوا العرض، استباحوا الأعراض، اغتصبوا النساء ونهبوا الممتلكات، ذهب الكثير من أبناء المدينة، البعضُ منهم هربوا إلَـى قبر رسول الله يلوذون به وكانوا يتوقعون أنه سيبقى لدى الجيش الأموي ولو القليلُ من الاحترام لرسول الله ولحُرمة رسول الله ولحرمة مسجده وقبره، فما الذي فعل جنودُ بني أمية، لحقوا بأُولئك وقتلوهم على قبر رسول الله، قتلوا عدداً كبيراً على القبر حتى أغرقوه بالدماء، وكانوا وحشيين لدرجة عجيبةٍ جداً، يروي التأريخ فظائعَ رهيبةً حدثت منهم وعلى أيديهم عندما دخلوا المدينة.
لقد حكى التأريخ أن البعضَ منهم كان الطفل الرضيع وهو في صدر أمة تحضنُه في صدرها فيأخذه برجيله من صدرها ثم يضربُ به عرض الحائط فينثر دماغَه إلَـى الأرض، انظروا أي وحشية هذه، هذا هو النموذج الذي صنعه بنو أميّة محسوباً على الإسْـلَام يحمل كُلّ هذا التوحُّش يتجرَّدُ من الأَخْلَاق، إلَـى هذه الدرجة، يمسك طفلاً رضيعاً من على صدر أمة ويضرب به على عرض الحائط فيكسر رأسه وينثر دماغه في الأرض ويضرب به إلَـى الأرض بلا مبالاة بكل استهتار، يتجرد الإنسانُ من إنسانيته بالكامل، ما بالُك بالإسْـلَام الذي ينمي ما هو مفطورٌ بالإسْـلَام من فطرة الله تعالى.
هذه الصنيعةُ التي صنعها بنو أمية في الأُمَّـة امتدت عبرَ الأجيال وعلى الدوام وفي كُلّ مراحل الأُمَّـة، كان هذا النوع موجوداً ومحسوباً على الإسْـلَام، بل يدّعي أنه هو وحدَه الإسْـلَام، أنه الذي يمثّلُ الإسْـلَام، ثم ينبز بقية أبناء الأمية بالكثير من الأنباز والألقاب السيئة التي يستبيحُ بها دماءَهم وأعراضهَم وحياتهم.
التسلط الأموي بلغ إلَـى حَـــدٍّ عجيب جداً، في زمن الإمام زيد عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، وقد عرفنا في مقدمة ما فعله بنو أمية مع كُلّ هذا ما فعلوه بعِترة رسول الله بأهل بيته، الذين نادى في أوساط الأُمَّـة يقول لها عنهم: ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتُم بها لن تضلوا من بعدي أبداً، كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي، إن اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عَلَيَّ الحوضَ، ثم يقول: أُذَكِّرُكُمُ اللهُ في أهلِ بيتي، أُذَكِّرُكُمُ اللهُ في أهلِ بيتي، أُذَكِّرُكُمُ اللهُ في أهلِ بيتي)) ثلاثاً.
هذا يرويه الجميع، هذا واردٌ في تراث الأُمَّـة، ليس محسوباً على فرقةٍ بعينها، واردٌ في تراث الأُمَّـة، معترَفٌ به في تراث الأُمَّـة، الرسولُ نادى في أوساط الأُمَّـة (أذكرُكم اللهَ في أهل بيتي)، بل إن البخاري يروي في مجموعه وهو من أئمة الحديث، للتيار الآخر أن أبا بكر قال: (أُرْقُبوا محمداً في أهل بيته، ارقبوا محمداً في أهل بيته).
على كُلٍّ ما فعلوه بعترة رسول الله بالإمام الحسين عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ سيد شباب أهل الجنة سبط رسول الله، امتداده في حمْلِ النور والهدى والحق، في أوساط الأُمَّـة، حمل الإسْـلَام بمشروعه كاملاً في أوساط الأُمَّـة (حسينٌ مني وأنا من حسين) وما فعلوه بأسرته الكريمة، بأهل بيته، بأنصاره الخُلَّصِ الذين كانوا إلَـى جانبه قلة قليلة وفية وعزيزة ومؤمنة وصابرة.
ثم الفظائع الكثيرة التي سجّلها التأريخُ وأصبحت محتوى للكثير والكثير من مجلدات الكُتُب لا يمكن أن تتحدثَ بها في كلمة أَوْ في محاضرة أَوْ مناسبة، مجلدات من الكتب كلها صفحات سوداء سطّرها أولئك، إجراماً، بغياً، تضليلاً، فساداً بكل أشكاله، إلَـى زمن الإمام زيد عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ، بعد صولات وجولات في الأُمَّـة، كانت السلطة الأموية قد استحكمت قبضتُها من جديد بعد أن تعرضت لاهتزازاتٍ كبيرةٍ بعد ثورة الإمام الحسين عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ واستشهاده، لكن من جديد كانت قد استحكمت قبضتُهم على الأُمَّـة ووصلوا إلَـى الذروة في تمكُّنهم وتغلبهم.
وفي زمن هِشام الوالي الأموي يأتي ليقول: واللهِ لا يقولَ لي أحدٌ اتقِ اللهَ إلا ضربت عُنَقَه.
شوفوا النموذج الأموي، انظروا من هو النموذج الأموي، له هذه الرؤية لديه هذا التفكير، ما الذي ينبئ به هذا التفكير، هذه النفسية.
اللهُ يأمر عباده بكلهم بتقواه حتى أنبياءه في القرآن يقول {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} يوجه خطابه إلَـى المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.
وأكثر ما ورد الأمر في القرآن الكريم بالتقوى والتوجيه بالتقوى للمؤمنين أصلاً، للمسلمين أصلاً، هذا لديه التوجه الطغياني {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد} يأتي ليقول (لا يقول لي أحد اتق الله إلا ضربت عنقه) يعني مَن يأمرني بتقوى الله سأقطع رأسه، أقتله، هكذا كانوا.
وماذا يكون في بقية تصرفاته؟!، إنسان من هذا النوع كيف سيكون منهجه في الحكم، تفكيره نظرته للأُمَّـة من حوله إلا ما قال عنه الرسول (اتخذوا دينَ الله دغلا، وعباده خولا) لا يرى فيهم إلا العبيد.
هشام طغى وتجبّر وزاد طغيانه، الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ تجاه هذا الواقع بكله تحَـرّك حفيدُ الحسين عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ امتداداً لثورة جده، لمنهجه، لمبدئه، للدافع الإيماني ذاته، تحَـرَّكَ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ وكانت حركتُه إنما تعبر عن مبادئ الإسْـلَام، لم تكن نظرة شخصية أَوْ موقفاً شخصياً لاعتباراتٍ شخصية نهائياً، إنما كانت ترجمة عملية لتوجيهات الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى في كتابه الكريم، ولذلك كان يقول: (واللهِ ما يدعُني كتابُ الله أن أسكُتَ وقد خُولف كتابُ الله).
ما يدعني كتابُ الله أن أسكت، توجيهاتُ الله في القرآن، إنها توجيهات كلها تقوم على أساس استنهاض الأُمَّـة وتحريك الأُمَّـة في موقع العمل وفي ميدان المسؤولية.
الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ باتت حركته وثورته منهجاً ومشروعاً كبيراً امتدت في أوساط الأُمَّـة، ليس مقامه فقط في مقام محاضرة، أَوْ في حديث في كلمة، ولكن يمكن أن نأخُذَ جانباً واحداً من جانب حركته عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ.
الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ مما حرص عليه وسعى له، إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ إسْـلَاميٌّ مهم وفريضة إسْـلَامية عظيمة ومهمة، من أعظم فرائض الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى، كما قال عنها الإمام علي عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ (بها تقام الفرائض).
الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مسؤولية أساسية من صميم مسؤوليات الأُمَّـة، ومسؤولية إيمانية ودينية فرضها الله على عباده.
اللهُ سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى قال في كتابه الكريم {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
اللهُ سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى قال في كتابه الكريم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}.
الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى قال في كتابه الكريم في آية مهمة يتضح لنا مقدارُ أهمية هذه الفريضة كمسؤولية مهمة في دين الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم}
وأتت هذه الآية في موقع مُهِمٍّ في سورة التوبة في سياق المقارنة والفرز داخل المجتمع الإسْـلَامي بين خط الإيمان وخط النفاق فتحدث عن المؤمنين والمؤمنات باعتبارهم من مسوؤلياتهم الإيمانية، التي هي بحُكم إيمانهم، التي هي ترجمة لإيمانهم، ترجمة عملية لإيمانهم، التي هي محك للمصداقية في الانتماء الإيماني {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} يتّجهون في حمل المسؤولية مع بعضهم أمة واحدة متعاونة متكاتفة يأمرون وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، إن تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية قبل الحديث عن الصلاة، وفي أولويات ما وصفوا به، له أهمية كبيرة ومدلول مهم جداً.
يأتي ليقولَ قبل أن يتحدثَ عن صلاتهم عن إقامة الصلاة {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} بعدها {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} بعدها وصفاً عاماً {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} هذا يدلل ويبين ويوضع ويكشف عن مدى الأهمية القصوى لهذه الفريضة؛ لأنه هنا أتى بها قبل الصلاة، وقبل الزكاة؛ لأنه بدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يبقى للصلاة تأثيرٌ في واقع الأُمَّـة، لا يبقى للزكاة تأثير إيجابي في واقع الأُمَّـة، كُلّ الفرائض الإسْـلَامية من الصلاة إلَـى غيرها لا يبقى لها إلا التأثير المحدود والبسيط والمتواضع، هي مع المسؤولية هذه لها تأثيرٌ فعال، وعظيم ومهم جداً، لكن تفريغ الإسْـلَام وتفريغ الانتماء والهُوية الإيمانية بمسؤولية كهذه يضرب بقية الفرائض.
نجد أنه في الإطار الآخر حينما يتحدَّثُ عن المنافقين كيف يصفُهم، قبل هذه الآية بآيات.
تحدث عن المنافقين فقال سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَـى في كتابه الكريم {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} شكلية واحدة، طريقة واحدة، اتجاه واحد، سلوك متشابه، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ} هكذا يوصّفهم {نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون، وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم} هذه الآية أيضاً تضمنت فرزاً مهماً توصيفاً دقيقاً لحركة النفاق في الأُمَّـة، المنافقون والمنافقات ليس وجودهم في داخل الأُمَّـة وقوفاً جامداً وراكداً، وليسوا حالةً تعيشُ في واقعها الداخلي نفاقها فلا تتحَـرّك به في أوساط الأُمَّـة، لا، المنافقون والمنافقات هم حركةٌ في واقع الأُمَّـة، في أوساط الأُمَّـة، ليسوا منكفئين بنفاقهم على واقعهم الداخلي، لا، ليسوا حركةً انزوائية وتاركةً للأُمَّـة بسبيل حالها، حركة في أوساط الأُمَّـة، وأي حركة، أمراً بالمنكر، والمنكر عنوان واسع، المنكر فكرة، المنكر سلوكٌ، المنكر عملٌ، المنكر موقفٌ، المواقف التي يدعون الأُمَّـة إليها ويدفعون بالأمة إليها هي مواقف منكرة، هي غلط، هي في الاتجاه الخاطئ، الأعمال والتصرفات التي يحركون الأُمَّـة فيها ويجرون الأُمَّـة إليها هي شاذّة عن النهج الإسْـلَامي، عن القيم والأَخْلَاق، وهكذا الأفكار التي يحاولون أن ينشروها في أوساط الأُمَّـة هي أفكار ظلامية عفنة، ترجمتها العملية في واقع الحياة شر على الناس وسوء في واقع الحياة.
فهم لا يجمدون يأمُرون بالمنكر، لا يكتفون بأن يكونوا هم في تفكيرهم المنكر، ونظرتهم المنكرة، وواقعهم المنكر، وسلوكهم المنكر، إنما يأمرون بهذا المنكر في أوساط الناس، فيتحَـرّكون حركةً استقطابية في واقع الأُمَّـة بُغية أن يعمموا هذا المنكر في أوساط الأُمَّـة.
فتراهم في كُلّ مراحل التأريخ كلما برز موقفُ منكر كانوا هم دُعاتَه ورجالَه وحملتَه، والمستقطبون له، والضلال، والظلام، كُلّ أشكال المنكر لهم نشاط فيها، وينهون عن المعروف، يتحَـرّكون في الساحة حركة مضادة للمعروف، الموقف المعروف، الموقف الصحيح، الموقف الذي ينسجم مع الإسْـلَام في تعاليمه في مبادئه في قيمه في أَخْلَاقه، ينهون عنه، يصدون عنه.
يحاربونه يبعُدون الأُمَّـة عنه، السلوكُ المعروف، العمل المعروف، الفكر السليم، التثقيف الصحيح، المبادئ الصحيحة، كُلّ ما هو معروف من مستوى الفكر إلَـى واقع العمل، هم يتحَـرّكون ضداً له، إما بموقفٍ صارم وكامل، فيستهدفونه بشكل نهائي وإما حركة احتوائية وتزييفية.
هكذا هم، يعني هم حركةٌ تخريبيةٌ في داخل الأُمَّـة؛ لأنهم ينتمون إلَـى الإسْـلَام، ويحاولون أن يكونوا هم المعبّرون عن الإسْـلَام وغيرهم الغلط وهم الصح، ثم إنهم يتحَـرّكون على هذا النحو التخريبي والهدّام في واقع الأُمَّـة، فلذلك أثَـرُهم سيءٌ جداً في واقع الأُمَّـة؛ لأنه يطال حياة الناس وواقع الناس، يمُسُّ بكرامتهم يمس بحياتهم يمس بأمنهم، يمس باستقرارهم، يمس باستقلالهم، يمس بطبيعة الوجود العادي في الحياة، شر على الأُمَّـة، في مقابل حركته هم هذه في الحياة تحدثت الآية عن مستوى عذابهم وسخط الله عليهم بشكل عجيب جداً، جاء الوعيد الإلهي {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} مع أنهم منتمون إلَـى الإسْـلَام، مع أنهم يصلون، مع أن البعضَ منهم لهم مساجدُ الضرار، والبعضُ منهم قد لا يصلي، هم فئات متنوعة، لكن منهم مَن يلبس لباسَ الدين، من لديه مساجدُ الضرار، منهم أيضاً مَن يتحَـرّك تحت عناوينَ إيمانية {مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّـهِ وَبِالْيَوْمِ} يعني كحركة وليس فقط كانتماء، كحركة يتحَـرَّكُ تحت هذا العنوان الإيماني، ولذلك قال (من يقول) لم يقل من قال، من يقول، يكرر ذلك يعني يتحَـرَّكُ تحته كعنوان، حركة تخريبية في واقع الأُمَّـة، مَن ننتظر؟!، مَن؟، ليتصدَّى لهذه الحركة التخريبية في واقع الأُمَّـة، نجدُ بعد أن نقرأ وعيدَ الله لهم برغم من انتمائهم للإسْـلَام {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} لاحظوا في هذه الآية، بدأ بهم قَبل الكفار، في الوعيد الإلهي وذكرهم أولاً، والكفار بعدهم ثانياً {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا، هِيَ حَسْبُهُمْ} هي كفايتهم، جهنميون ليس لهم إلا جهنم، بلغوا مبلغاً فظيعاً من السوء والتخريب والدور السلبي في واقع الناس، {وَلَعَنَهُمُ اللهُ} نعوذُ بالله من سخط الله، هذا يعبّرُ عن سخط كبير جداً عليهم من الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم}، إذاً الدورُ الذي يواجه هذا الدور التخريبي في الأُمَّـة من الداخل هو الدور الإيماني (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، الموقف المعروف في كُلّ زمن، رجالُه، دعاته، أنصاره، حمَلَتُه هم المؤمنون، (وينهون عن المنكر) مَن يقفون ضد المنكر، ضد المنكر موقفاً، ضد المنكر سلوكاً، ضد المنكر والباطل، حكماً وتسلطاً، ضد المنكر بكل أشكاله، المنكرُ الذي هو هدام في واقع الحياة، سلبيٌّ في واقع الحياة، سوءٌ في واقع الحياة، الذي يتصدَّى له من موقع المسئولية وبالقيم والأَخْلَاق والمبادئ والفهم والوعي والبصيرة هم من المؤمنون والمؤمنات (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَه).
هكذا، الحركة الإيمانية هذه، الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ عمِلَ على إحيائها في واقع الأُمَّـة، واتجه الاتجاه الصحيح؛ لأن البعضَ قد يقول: صحيح جيد. نأمُرُ بمعروف وننهى عن منكر، ولكن على البسطاء والمساكين، البعض سيتحَـرّك لإقامة المعروف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن إذا كانت المسألة في حدود التعاطي مع الناس العاديين البسطاء، لا، في حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتجه رأساً وبادء ذي بدء وبشكل أساسي ومركَّز عليه تجاه القضايا الكبيرة، المسائل المهمة، المسائل الكبرى التي تنطوي على كُلِّ التفاصيل وتتفرَّعُ عنها كُلُّ التفاصيل، الإمامُ زيدٌ عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ كان يعي ذلك جيداً كان يعي ما معنى قول النبي صلوات:
(أفضلُ الجهاد كلمةُ حَـقٍّ في وَجْهِ سُلطانٍ جائرٍ).
تحَـرّك الإمامُ زيدٌ عليه السلامُ حركةً شاملة حركة عامة، مواجِهاً لأصل المنكر لمنبع المنكر، السلطة القائمة التي هي منكرٌ بذاتها، منكرٌ بسياساتها، منكر بتوجهاتها، منكرٌ بما تفرضه في واقع الأُمَّـة، منبعٌ للمنكر ومصدرٌ للمنكر، ينتشرُ من خلالها المنكرُ في واقع الأُمَّـة وبقوة وبسلطة، فاتجه هذا الاتجاه نحو القضية المركزية القضية المهمة القضية الرئيسية، وواجه أصلَ المنكر، فتحَـرّك عَلَـيْـهِ السَّـلَاْمُ وهو يعي أهميةَ هذه المسئولية.
110