الرئيس ترامب وصف اللقاء بالإيرانيين بأنه "سيكون جيداً لهم، وجيداً لنا، وجيداً للعالم أجمع، خاصة إذا استطعنا أن نفعل شيئاً ذا مغزى لا يكون إهداراً للورق مثل الاتفاق النووي السابق".
الأكثر من ذلك أن غريت ماركيز، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الإميركي، أكد أن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ الإجراءات لإلغاء العقوبات، وإعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية بالكامل والسماح لإيران بتطوير التكنولوجيا، وإعادة دمج الاقتصاد الإيراني بالنظام الدولي الجديد.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة يتعلق بالأسباب التي تقف خلف هذا "الكرم الحاتمي" الإميركي، والتغيير الكبير في اللهجة من التهديد بتدمير إيران، وفرض عقوبات خانقة غير مسبوقة في التاريخ ضدها، ومنعها من تصدير برميل واحد من النفط، والطلب من السعودية زيادة انتاجها بمليوني برميل لإغراق الأسواق وتخفيض الأسعار، إلى دعوة صريحة للحوار مرفوقة بسلسلة من الإغراءات الدبلوماسية والسياسية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن معظم، إن لم يكن كل، ردود الفعل الإيرانية على هذا العرض الترامبي السخي، اقتصرت أولاً على مسؤولين في الصف الثاني، وتركزت على السخرية منه وصاحبه، واشتراط تراجع ترامب عن قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي، ووقف كل العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران.
استراتيجية ترامب باتت مفضوحة، ومعروفة لأصغر مبتدىء في علم السياسة، فهو يصعد تهديداته، ويكبّر أحجاره، أملا في إرهاب الخصم، لجره إلى مائدة المفاوضات، نزولاً عن الشجرة العالية التي صعد إليها، فهذا الرجل ضبع بلا أسنان، ولا يجرؤ على خوض الحروب، وكيف يخوضها وهو لا يعرف غير الصفقات التجارية، وفرد عضلاته أمام الحسان؟
***
علينا أن نتذكر دائما أن هذا الانقلاب في موقف الرئيس ترامب وإدارته جاء بعد أن أدرك جيدا بأن التهديدات التي أطلقها بخنق إيران اقتصاديا، والتلويح بالحرب ضدها، وتأسيس "حلف ناتو عربي سني" تكون إسرائيل العضو التاسع فيه، استعداداً للهجوم عليها، لم ترهب الإيرانيين مطلقاً، وجاء ردهم عليها عملياً بإعطاء الضوء الأخضر لحلفائهم "أنصار الله" اليمنيين بإطلاق الصواريخ على بوارج عسكرية وناقلات نفط سعودية قرب باب المندب، لتوجيه تحذير إلى إميركا وحلفائها بأن معظم خطوط الملاحة الدولية، ونصف صادرات النفط في العالم، باتت تحت رحمة الحلف الذي تتزعمه طهران وصواريخه، فاليوم باب المندب وغداً مضيق هرمز، وهذه مجرد "فاتحات شهية" قبل وجبات الصواريخ الرئيسية من مختلف الأبعاد والأحجام.
ترامب تراجع صاغراً بعد أن هدده الرئيس حسن روحاني بـ"أم الحروب" التي ستكون رداً على أي عدوان سيشنه على إيران، وحذره الجنرال قاسم سليماني، قائد فليق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إذا بدأ الحرب فإن إيران هي التي ستحدد طبيعة نهايتها، وإغلاق مضيق هرمز سيكون جزءاً بسيطا من الرد الإيراني.
ما غاب عن ذهن الرئيس ترامب، في غمرة انشغاله بفضائحه النسائية، وأدائه السيء، والمهين، في قمة هلسنكي التي عقدها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وظهر فيها مثل التلميذ الصغير المرعوب أمام استاذه، أن إميركا وباعترافه خسرت الحرب في سوريا بعد أن انفقت 70 ملياراً، وعلى يد من؟ الروس والسوريين والإيرانيين و"حزب الله"، مثلما لم تربح الحرب في أفغانستان بعد 17 عاما من خوضها، ولا تعرف كيف ستخرج من مصيدتها وتتفاوض حاليا مع الطالبان في الدوحة على أمل تقليص الخسائر، وباتت إميركا بفضله أكثر دولة مكروهة في العالم، والدول الأوروبية الحليفة على وجه الخصوص.
هذا الرجل، أي ترامب، لا يستأسد إلا على العرب، وفي المنطقة الخليجية فقط، حيث يرضخون لإملاءاته، ويطيعون أوامره، ويلبون كل مطالبه المالية الابتزازية، ومعايراته بالحماية دون أي مقابل، إيثاراً للسلامة فقط، وتطبيقاً لنظريته بأنهم لا يستمرون أسبوعاً في الحكم دون الحماية الإميركية.
الرئيس روحاني قال إنه رفض ثمانية عروض للقاء الرئيس ترامب، لأنه لا يثق برجل لا يحترم توقيعه، تجسيداً لمقولة السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى التي ترى في هذه اللقاءات "مضيعة للوقت"، وهذا هو الفرق بين زعمائنا العرب الذين يستجدون لقائه، وبين نظرائهم الإيرانيين.
لا نستبعد أن يتحلى الإيرانيون بالمرونة ويذهبوا إلى لقاء ترامب، إذا لمسوا تجاوباً لشروطهم، وبما يؤدي إلى تخفيف معاناة سبعين مليوناً من شعبهم، تماماً عندما توصلوا إلى الاتفاق النووي بعد خمس سنوات من المفاوضات، وعايرهم به بعض العرب، ووصفوهم بالإذعان، ليعود هؤلاء، لينتقدوا انسحاب ترامب منه، ويطالبون بالحفاظ عليه، تجنباً للعواقب والتبعات، وأبرزها سباق التسلح النووي في المنطقة الذي ستفوز فيه إيران التي قطعت شوطاً في هذا الميدان.
الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، قَبِلَ دعوة نظيره الإميركي للحوار، وذهب إلى قمة سنغافورة مرفوع الرأس، وتوقع الكثيرون من الشامتين أن يرضخ ويرفع الراية البيضاء، وها هي صحيفة "الواشنطن بوست" الإميركية تكشف أنه بدأ تطبيق برامج صاروخية جديدة أقوى بكثير من تلك التي تزدحم بها ترسانته العسكرية، ويمكن أن تضرب العمق الإميركي بفاعلية أكبر، ولم نسمع كلمة واحدة من ترامب الذي ابتلع لسانه، وتحلى بفضيلة الصمت.
***
الأمر المؤكد أن أعضاء حلف الناتو العربي الذي أمر ترامب بتشكيله، بالتنسيق مع نتنياهو، لشن حرب على إيران يتصببون عرقا، وهم يتابعون هذا الانقلاب في موقف معلمهم ترامب، وبسطه يد الحوار مع طهران ودون شروط، ولعلهم سيضربون كفاً بكف ندماً على انهيار رهاناتهم بهجوم إميركي إسرائيلي يدمر إيران، ويعيدها إلى العصر الحجري مثلما يأملون، وعلى إنفاقهم مئات المليارات لشراء طائرات وصواريخ استعداداً للمشاركة في هذا الحدث العظيم.
نتمنى على "زعمائنا" العرب الذين يهدرون ثرواتنا لهثاً وراء سراب الحرب مع إيران، سعياً لتدميرها، مثلما دمروا العراق وسوريا واليمن وليبيا، والاستعانة بإسرائيل وإميركا لإنجاز هذه المهمة نيابة عنهم، نتمنى أن يتعلموا من دروس دهاء الأكاديميتين الإيرانية والكورية الشمالية، وما تحمله في طياتهما من أصول الكبرياء والكرامة وعزة النفس، فهذا هو أحد الطرق الرئيسية لبلورة مشروع عربي حقيقي ومشرف لتحقيق التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وإنشاء قوة ردع عربي إقليمي فاعل ومؤثر، في مواجهة إسرائيل، العدو الأكبر للأمة، وتحقيق التوازن العسكري مع إيران أيضا.
هل سيتجاوب هؤلاء؟ لا نعتقد.. وإلا لما وصلنا إلى هذا الوضع المؤسف الذي جعلنا مضرباً للمثل في الغباء والتخلف والإذعان في العالم بأسره.
* عبد الباري عطوان