السيد عبّاس نورالدين
اشتهر بين المسلمين ثلاث طرق للمعرفة، وهي:
1-الطريق الذي يعتمد المنهج الكلامي.
2-والطريق الذي يعتمد المنهج الفلسفي.
3-أما الطريق الثالث فهو الذي يعتمد طريقة تهذيب الباطن وتصفية النفس عبر مراحل السّير والسّلوك، وهو الطريق العرفاني.
ولم يكن علماء المسلمين رافضين للمنهج التجريبي، لكنّهم اعتبروه محدودًا في إطار المحسوسات والمادّيّات. فقد تكشّفت النصوص الدينيّة كالقرآن الكريم والسنّة المطهّرة عن غنًى ملحوظ في مجال القضايا والمجالات التي تناولتها، وتمّ عرض وبيان الكثير من الأمور المرتبطة بحياة هي أوسع وأعمق بكثير من هذه الحياة الدنيا. فجذبت هذه القضايا الجديدة الفكر الإسلامي وأشغلته طوال القرون التي أعقبت ظهور الإسلام.
لقد كانت الحياة الآخرة ظاهرة عجيبة في الإسلام نظرًا لحضورها القويّ في تعاليمه. وكان من المفترض أن يؤدّي الاتّجاه نحوها إلى تحوّلٍ نوعيّ في حياة المسلمين، يعقبه تحوّلٌ نوعيّ في العالم كلّه. فوفق هذا التصوّر، يكون العمل للآخرة عاملًا أساسيًّا في إصلاح الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وحتى الأرضيّة. لكن الذي حدث هو أنّ المناخ العام الذي استحوذ على الحركة العلميّة للمسلمين أصبح بيد الحكومات العلمانيّة التي لا همّ لها سوى السّلطة والاستئثار بالمقدرات والثروات.
وهكذا وجدنا كيف أنّ علم الكلام أصبح شغوفًا بالنّزاعات التي كانت السّلطات الحاكمة حريصة على إشعالها. كل ذلك بالطّبع بغرض إشغال المسلمين عن قضاياهم المصيريّة.
وتقوقع المنهج الفلسفيّ في زاوية فلسفة اليونان، التي حرص الحكّام أيضًا على ترجمتها وترويجها، وانشغل بالردّ على إشكالات المعارضين لها والمكفّرين.
أمّا المنهج العرفانيّ، ولكي يحفظ نفسه من قذارة البيئة الحاكمة، فقد اختار العزلة والابتعاد عن الحياة الاجتماعيّة، ممّا أدّى إلى نقصٍ فادحٍ في حاجاته ومتطلّباته. وقد عمل هؤلاء المعتزلون على سدّ هذه النّواقص بحسب تجاربهم الخاصّة في بعض الأحيان.
وهكذا، ابتعدت الحركة العلميّة للمسلمين عن القضيّة الجوهريّة التي جاء الإسلام من أجل جعلها مختبر العلماء ومحلّ الإنتاج الفكريّ والعمليّ لهم.
فطوال التاريخ كان الأنبياء يُبعثون لأجل تعميق الارتباط بالله والسّير إليه (وهو السّير إلى الآخرة باعتبار أنّها محل لقاء الله تعالى). وقد كانوا في طرحهم لهذه القضيّة الكبرى حريصين على جعلها قضيّة اجتماعيّة عامّة لا قضيّة علميّة بحتة. وبعبارةٍ أخرى، كان الهمّ الأكبر للأنبياء هو في توجيه الناس توجيهًا عمليًّا نحو تلك الحياة الحقيقيّة، واعتبار هذه الحياة الدّنيا وسيلةً للوصول إليها، بشرط إصلاحها.
وبهذا التوجّه والسّير العمليّ تتفاعل قوى النفس المختلفة وتنشط استعداداتها وتتكامل بصورةٍ مذهلة وهي تتعرّف إلى الحقائق الغيبيّة؛ فيخرج الناس بذلك من محدوديّة الدّنيا والانشغال بشهوات الجسد ولهوات الخيال، إلى عالم الحقيقة الذي سيحرّرهم من كلّ آلامهم وأسقامهم.
وممّا يؤسف كثيرًا هو تحوّل هذه المواجهة التي كانت تجري بين الأنبياء والنّاس، إلى مواجهة بين الفلاسفة والعوام. ففي المواجهة الأولى نعلم أنّ الأنبياء يمتلكون كل عناصر التّأثير اللازمة لإحداث ذلك التحوّل الجوهريّ في عقليّة النّاس وتوجّهاتهم واهتماماتهم؛ حيث كانت قضيّة المعرفة عندهم قضيّة انسيابيّة ميسّرة قائمة على قواعد لغويّة واصطلاحيّة متينة. فلم يكن هناك من إشكاليّة بين جذور اللغة والحقيقة المعروضة في نصوص الأنبياء وتعاليمهم. بل كانت الحقائق مبنيّة على أصالة اللغة. في حين قامت الفلسفة بشكل أساسي على هذا الافتراق (ولا ننسى ما للترجمة من تأثير هدّام في هذا المجال)، فاضطر الفلاسفة إلى ابتكار مصطلحات غريبة على الأصول اللغويّة، للتعبير عن حقائق لا يطول الزمان حتى تظهر بداهتها!
وهكذا عقّد الفلاسفة طريق الوصول إلى المعارف، التي يُفترض أن تكون نتاج حركة معنويّة نحو الآخرة وفق مدرسة الأنبياء ومنهاجهم. فاتّسعت الهوّة بينهم وبين العوام، وأصبح العوام فريسة سهلة للسلاطين والطواغيت الذين وجدوهم سلاحًا مهمًّا لمحاربة الفلسفة نفسها.
التعقيد الفلسفيّ، الذي أبعد الناس عن المعرفة وأبعدهم عن طريق الأنبياء المعرفيّ، يرجع بالدّرجة الأولى إلى المنهاج الفلسفيّ نفسه، والذي لم يكن يولي اللغة الاهتمام المطلوب. ومن الطّبيعيّ أنّ الذي يهتمّ بالتعليم العام هو الذي يهتم بقضيّة اللغة والتعبير ويدرك ما للّغة من أثرٍ عميق في السّير المعرفيّ والعقليّ. وقد صدح القرآن الكريم بهذه الحقيقة منذ البداية حين قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.(1) والمتعصّبون الجهلة يحسبون أنّ لفظة "عربيّ" في هذه الآية ترتبط بقوميّة خاصّة، في حين أنّ العرب أنفسهم كانوا يستعملون هذه المفردة للدلالة على الوضوح وليس للدلالة على لغة خاصّة. وكانوا يفهمون جيدًا أنّ قوله تعالى: {إنّا أنْشأناهنّ إنشاءً * فَجَعَلنَاهنّ أَبْكارًا * عُرُبًا أتْرابًا}(2) يحكي عن كون حور الجنّة من الأشخاص الواضحين في بيانهم، ممّا يبعث على المزيد من الاستئناس والقرب، بالإضافة إلى التواضع والمتربة.
إنّ العقليّة النخبويّة، التي تتفاخر بالطّبقيّة العلميّة، هي النقيض المضادّ للعقليّة النبويّة الرساليّة، التي جاءت لأجل فتح المجال أمام الناس وتعبيد طرق الوصول إلى الغيب في حرصٍ واهتمامٍ شديدين، كما قال تعالى واصفًا نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(3)} وقد أشار الإمام الخميني قدّس سرّه إلى هذه القضية في وصاياه العرفانيّة بأجمل بيان حين قال: "وإنّها لمعجزة الرسول الأكرم (ص) الذي كان عالمًا بمبدأ الوحي بحيث يكشف له أسرار الوجود، وكان صلّى الله عليه وآله بدوره يرى الحقائق بوضوح ودون أي حجاب: وذلك بعروجه وارتقائه قمّة كمال الإنسانية، وفي نفس الوقت كان حاضرًا في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود. فمَثَّل بذلك أسمى مظهر لـ {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..} كما سعى إلى رفع جميع الناس للوصول إلى تلك المرتبة، وكان يتحمل الآلام والمعاناة حينما كان يراهم عاجزين عن بلوغ ذلك، ولعل قوله تعالى {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إشارة خفيّة إلى هذا المعنى، ولعل قوله (ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت" يرتبط أيضًا بالمعنى نفسه(4)".
وهكذا، تشكّلت حجب المعرفة وسط هذه المناهج الوضعيّة حين تضاءل حجم حضور القضيّة الأولى في الدّين، وازدادت الحجب سماكةً نتيجة الابتعاد المتوقّع عن منهج الأنبياء في الهداية العامّة وفي التّعليم العام، وازدادت معها تعقيدات اللغة وإشكاليات المصطلح، فاضطرّ من يريد المعرفة إلى سلوك طريقٍ طويل كثير الوعورة، وتقلّص حجم الإنتاج المعرفيّ إلى درجة أدّت إلى التراجع الحضاريّ حين هجمت مناهج التجربة محمّلةً باختراعاتها وتكنولوجيّاتها، وسيطرت أجواء الاجترار، وحاشية الحاشية، والتّعليق على الحواشي، وشرح ما لا ينبغي أن يُشرح، على الكثير من نتاجات المسلمين العلميّة.
يقول الإمام الخميني قدّس سرّه: "إنّ الفلاســفة وأهل البراهين يزيدون الحجب، في حين أن الأنبياء (عليهم السلام) وأصحاب القلوب يسعون في رفعها. لذا ترى أن من تربّوا على أيدي الأنبياء مؤمنون وعاشقون، في حين أنّ طلاب الفلاسفة أصحاب البرهان والقيل والقال، لا شأن لهم بالقلب والروح(5)."
الهوامش:
(1)سورة يوسف، الآية 2.
(2)سورة الواقعة، الآيات 33-35.
(3)سورة التكوير، الآية 24.
(4)الإمام الخميني، وصايا عرفانية، الطبعة الثالثة، بيت الكاتب للنشر والتوزيع، بيروت 2007، ص 11.
(5)الإمام الخميني، وصايا عرفانية، الطبعة الثالثة، بيت الكاتب للنشر والتوزيع، بيروت 2007، ص 27-28.