آية الله جوادي آملي
كانت النبوة والرسالة في حياة البشرية أعظم ظاهرة ربطت الإنسان بعالم الغيب وأرشدته إلى منافذ النور، ولكنها جوبهت دائماً بالمنكرين والمعارضين. فما هي ضرورتها وكيف واجهت إشكالات الملحدين.
* مقدمة
إحدى أهم المسائل التي أشار إليها القرآن هي قضية ضرورة إرسال الأنبياء وضرورة النبوة، وأن البشر لا يمكنهم أن يصلوا إلى السعادة دون الوحي الإلهي المبلّغ إليهم بواسطة الأنبياء.
إذ أن هناك فئة من الناس قد تنكر العبودية أو الرسالة فقط أو المعاد وذلك لاختصاص كل منها بمجموعة من الوظائف التي تلزم الإنسان بتكاليف معينة، مثل من يعتقد بخالق العالم دون الالتزام بالأصول العقائدية الأخرى (وهذا من نوع عبادة الأصنام) فإن هذا الاعتقاد لا يحل المشكلة. فالمهم والأساس هو الاعتقاد ب «العبودية والرسالة ثم المعاد».
* العبودية
العبودية هي الخضوع لخالق البشر وهاديهم ومربيهم أي الخضوع للخالق والرب. وفي الوقت الذي كان فيه مشركو مكة يعتبرون أصنامهم أرباباً، كان النبي (ص) يخاطبهم بقوله: «أن لا رب إلّا الله». وهذا إبراهيم (ع) يقول لطاغوت زمانه في مجال إثبات هذه العبودية: "ربي الذي يحيي ويميت".
* ضرورة الرسالة والوحي:
إذا كانت العبودية ضرورة، والخالق الإله هو المربي للإنسان، فإن طريق هذه التربية التي هي طريق كمال الإنسان أيضاً لا بد أن تحدد وترسم من قبل الإله.
وبما أن الإنسان موجود يفكر ويعمل، والفهم بدون العمل أو العمل بدون الفكر لا يحقق له كماله، فلا بد أن يكون كمال الإنسان في ظل العلم الذي يهدي إلى العمل، والإنسان في هذا العلم وهذا العمل يحتاج إلى الهداية الإلهية، وهنا يقف العقل عاجزاً لوحده عن الهداية.
في هذا المجال يستدل القرآن بهذا النحو:
{رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء- 165).
إذ لو كان العقل كافياً وهادياً لما قال تعالى أنه لو لم نرسل الرسل لما استدل الناس.
هناك من أنكر الرسالة مثل بعض علماء الهند القدماء حيث قالوا: إن كلام الأنبياء إما أن يوافق العقل أو يخالفه، فإذا خالفه فهو مردود، وإذا وافقه فلا يعود له ضرورة. وقد ردّ علماؤنا (كالعلّامة الحلّي) عليهم في الكتب الكلامية بهذا الدليل: كثيرة هي الموارد التي تخرج عن نطاق العقل فكيف يمكن أن يقضي العقل بصحتها أو بخلافها؟ هنا يفهم أن رسالة الأنبياء ضرورة لحل هذه الموارد.
إذاً وكما ورد في الآية السابقة أنه لو لم يرسل الله الرسل لما اكتملت وتمت الحجة على الناس، ومن هنا يفهم القول: "إن العقل مصباح وليس طريقاً".
بالإضافة إلى ذلك نجد أن علوم البشر قد تبعث أحياناً على الغرور وإلى اتخاذ موقف مقابل الأنبياء، كما يقول القرآن الكريم: "فلما جاءتهم رسلهم بالبيّنات فرحوا بما عندهم من العلم".(المؤمن- 83).
فهم يفرحون بما عندهم من العلم ظنّاً بأنه كافٍ لسعادة الناس، لكن القرآن الكريم يؤكد بأن علمهم حتى في المجالات الدنيوية ناقص:{وما أوتيتم من العلم إلّا قليلًا}.
فبدون الوحي هناك أمور كثيرة لن تعرفوها.
ولأنكم لستم مادة فقط فإن علم الأنبياء يلازمكم إلى الأبدية، لكن العلم الذي هو عصارة فكر البشر لن يلازمكم دوماً.
العلوم الأبدية:
العلم الذي يأتي به الأنبياء(ع) هو أبدي ويبقى ملازماً للإنسان، لكن العلوم التي هي حاصل فكر البشر فهي إلى زوال، وإذا اكتفى الإنسان بها فسوف تكون عاقبته بعد الموت أن لا يعلم شيئاً، لأن الموت هو استمرار وجود الإنسان بعد انفصاله عن البدن، والمعاد هو إعادة هذا الاتصال.
إن الإنسان يبقى ببقاء الروح، وهذه الروح تبقى بعد الموت، ولا بد أن يبقى الاحتياج إلى العلم الذي ينبغي أن يكون أبدياً وباقياً كالروح ومصوناً من الموت.
هذا العلم وهذه المعرفة هي التي تأتي عن طريق الوحي.
معرفة الله وصفاته وعدله، ومعرفة الوحي والرسالة والولاية والعصمة، ومعرفة القيامة والجزاء والثواب والميزان والجنة والنار و ... و ... هذه العلوم هي دائماً موجودة. علم أصول الدين هو العلم الذي يظهر أكثر بعد الموت، وعلمنا بالوحي والنبوّة والرسالة، ومعرفتنا بالروح وتجردها بعد الموت تتضح أكثر. هذه هي العلوم الأبدية والمؤمّنة لسعادة الإنسان، وهي في نفس الوقت تهيمن على بقية علوم الناس وتهديها إلى الوجهة الصحيحة لكي لا تصبح سلاحاً فتّاكاً.
إن علوم الناس تفنى بعد الموت ولا يبقى لها دور في سعادة الإنسان. فلا الطبيب يبقى طبيباً، ولا المهندس يواجه بعد الموت ما ينبغي أن يخططه ويعده للبناء. لماذا؟ لأن موضوع هذه القضايا ينتفي في ذلك العالم.
وعلى هذا الأساس فإن العلوم التي تأتي عن طريق الوحي تبقى خالدة، وتزول العلوم التي كانت حصيلة الفكر البشري، كما يقول تعالى:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (النحل، 96).
وهكذا فالعلوم التي تنبع من الوحي الإلهي هي لإحياء الناس، والعلم الذي يحقق السعادة هو العلم الذي ينتهي إلى العمل، إذ أن العلم بحد ذاته ليس موجباً لكمال الإنسان وهذا ما يؤكده القرآن الكريم والروايات الإسلامية.
ففي الروايات التي وردت في باب العقل والجهل، جعل الجهل مقابل العقل وليس مقابل العلم، أي أن الإنسان سواء علم ولم يعمل أو لم يعلم فإنه في كلا الحالين يكون جاهلًا. وفي كتاب أصول الكافي ذُكر أولًا كتاب العقل والجهل ثم جاء بعده كتاب العلم لماذا؟ لأن العقل أهم من العلم، والاعتماد ليس على العلم بل على التعقّل. يقول أمير المؤمنين (ع): "ربّ عالم قد قتله جهله."
لا يجتمع العقل مع الجهل، لكن العلم مع الجهل- من وجهة النظر المذكورة- يجتمعان. قال رسول الله (ص): "إن العقل هو الذي يصون ويتحكم بالميول والغرائز."
فعقال الجمل هو الذي يلجمه عن الجموح، والعقل نور إلهي يعقل الغرائز والشهوات ويروّضها، وعندها يمكن العروج إلى الكمال. وإلّا فلو ترك الإنسان وحده لأردته غرائزه إلى الأرض كما حكى القرآن الكريم عن أولئك الذين تركوا الجهاد:{أثاقلتم إلى الأرض ...} (التوبة، 38).
يستفاد من القرآن الكريم ومن طريق الأئمة المعصومين عليهم السلام أن العلم ينبغي أن يكون وسيلة بيد العقل. ففي مورد الأمثال التي يضربها الكتاب الشريف:{وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت، 43).
العالم يمكن أن يكون عاقلًا، ولهذا جعل العلم مقدمة للعقل وموصلًا إليه في ظل العمل. وما قصده الرسول (ص) أيضاً من حديثه:"إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها."
* إشارة إلى مرتبة العقل.
يقول تعالى في الآية 11 من سورة المجادلة:{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
هنا اكتسب العلم هذه الميزة على أساس الإيمان، وإلّا فليس كل عالم في النظر القرآني رفيعاً، ولهذا فالمؤمن غير العالم له درجة، لكن المؤمن العالم له درجات. ثم إن الرفعة تستلزم شيئين: العلم والإيمان، فإذا فقد الإيمان حلّت الذلّة. ويقال لأولئك الذين تركوا طريق الوحي والأنبياء وإكتفوا بعلوم البشر:
{فأين تذهبون} (التكوير، 26).
الخلاصة هو أن :
* الإنسان مخلوق لأجل الوصول إلى كماله اللائق له.
* كمال الإنسان يكون في ظل العلم الذي يهدي إلى العمل.
* العلوم الإنسانية وكذلك عقل الإنسان لا يمكنهما أن يهديا وحدهما إلى هذا الهدف العظيم لمحدوديتهما وارتباطهما بالمادة.
* العلم الحقيقي والأبدي هو علم أصول الدين الذي يؤمّن السعادة للإنسان ويهيمن على العلوم الأخرى.
لذلك احتاج الإنسان إلى وسائط الفيض الإلهي والتعليم الرباني الذي يهدي إلى الكمال. هذه الوسائط هم الأنبياء والرسل (ع).
يتبع...
المصدر: مجلة بقية الله