السيد عبّاس نورالدين
كلّ المؤمنين بالإمام المهدي (عليه السلام) يعلمون أنّه سيكون أوّل رجل ربّاني يؤسّس حكومة إلهيّة عالميّة تبسط سلطانها على كلّ المعمورة. وحين نتحدّث عن الحكومة الإلهيّة، فإنّ أول ما يتبادر إلى الذّهن هو إقامة العدل والقِسط. وبإقامة العدالة الشاملة تتأسّس قاعدة راسخة لانبعاث حركة بشريّة هادرة نحو الكمال والفضيلة. بل إنّ ذلك سيكون سببًا في سباق وتنافس عظيم على هذا المضمار لم تشهد البشريّة مثله حتى في حركاتها المحمومة نحو الذّهب والفضّة والاستعمار.
والواقع أنّ نهم الإنسان بالمال وإن كان عجيبًا (وقد تأسّست حواضر وبلاد على أساس ذلك)، لكنّه ليس بشيء إذا ما قورن بنهم الإنسان وعطشه إلى الكمالات والفضائل؛ فهي أمور مغروزة في أعمق طبقات نفسه، وقد امتزجت بفطرته وطينته.
ما نعرفه هو أنّ الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشّريف سيغيّر مسار البشريّة، القائم اليوم على الاستعلاء المادّيّ والسّعي الحيوانيّ إلى مسارٍ يأخذ بيدها نحو العلوّ الملكوتيّ والتّكامل اللاهوتي. فهناك سيكون السّعي نحو التخلّق بأخلاق الله؛ وهي ثورة عظيمة لا يمكن للإنسان أن يتصوّرها.
هذا التحوّل النّوعيّ ـ كما نلاحظ ـ مرتبط بالمجتمعات، وليس ببعض الأفراد. فقد كان هذا التحوّل الثّوريّ يجري دائمًا على يد الأنبياء والأوصياء المصلحين في جماعات محدودة أو أفراد معيّنين؛ أمّا الإمام المهدي، عجّل الله فرجه، فسيحدث هذا التحوّل العميق على مستوى الحركة العامّة للبشريّة، وستكون عمليّة الإصلاح متوجّهة إلى المجتمع بما هو مجتمع. وهذا ما يُعبَّر عنه بتغيير النُّظُم.
فما لم يتغيّر النّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ (وبتبعه الاقتصاديّ) لا يمكن حصول تحوّل جماهيريّ عام. ولهذا، ينبغي أن ننظر إلى أي تحوّل ممهّد لظهور هذا الإمام العظيم انطلاقًا من المجتمع. وما لم نشهد انبعاث المجتمع على طريق التّمهيد (ولو كان مجتمعًا واحدًا في البداية)، لن يتغيّر مسار التّاريخ مهما كثُر عدد الأفراد المؤمنين بالتّغيير والإصلاح. ولعلّ هذا هو المُراد في رسالة الإمام المهدي عجّل الله فرجه إلى المؤمنين التي يقول فيها: "وَ لَوْ أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ مِنَ الْقُلُوبِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقَائِنَا وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيل وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا الْبَشِيرِ النَّذِيرِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّم".
اجتماع القلوب على التّغيير الحقيقيّ يتمثّل في الحراك الاجتماعيّ الواعي العقلانيّ. ولا تعبير عن هذا الحراك العقلاني إلّا في إطار المؤسّسات (من الدولة إلى ما دونها). فمن الذي امتلك هذا العقل الاجتماعيّ، ولم يدرك مدى التّأثير المحوريّ للدّولة والحكومة على عقائد النّاس وأخلاقهم ومصيرهم؟! وكيف يمكن لأي إنسان يريد إحداث تغييرٍ جوهريّ في المجتمع أن يتجاوز ضرورة الاجتماع والوحدة؟! وهل يمكن تحقيق ذلك من دون عقليّة المؤسّسة؟!
على أنّ التجربة الحالية تحكي عن قصورٍ فادح وتقصيرٍ واضح في العمل المؤسّساتيّ. وهذا يرجع إلى عاملين أساسيّين قلّما يتم التعرّض لهما. ففي أكثر القراءات جُرأةً لا نجد تفسيرًا واضحًا للإخفاق المؤسّساتي في ساحة المؤمنين.
العامل الأوّل يرتبط بالثّقافة. والمقصود من الثّقافة هي تلك القيم التي تنشأ وتترسّخ جرّاء التّفاعل بين النّاس والنّصوص الدينيّة والواقع على مدى الزّمن. ولا يبدو أنّ المهتمّين بالشّأن العام جهدوا كما ينبغي لاستخراج النّصوص التي ترتبط بالواقع وتحدّياته. فقد كانت أكثر الأعمال العلميّة مرتبطة بالشؤون الفردية؛ فظهر الدين وكأنّه دين الفرد لا دين المجتمع.
فلهذا، نحن بأمسّ الحاجة إلى تفعيل حضور النصّ الدّينيّ (بما يشمل القرآن والسنّة المطهّرة لأهل البيت عليهم السلام) المرتبط بالقضايا الاجتماعيّة ليتشكّل الوعي والبصيرة التي تربط بين حركتنا الاجتماعيّة وظهور الإمام عجّل الله تعالى فرجه.
العامل الثاني يرتبط بالبعد الأخلاقيّ المعنويّ. فلا يوجد لحدّ الآن وعي متناسب تجاه العلاقة الوثيقة بين نجاح التّجربة المؤسّساتية والقيم الأخلاقية (وعلى رأسها قيمة الزهد بالدنيا والإعراض عن جاهها ورئاستها)؛ بل نلاحظ تسلّلًا مكشوفًا للقيم الإداريّة الغربيّة، التي تقوم على أساس رؤيتهم الكونيّة للعالم والحركة الاجتماعية، هذه الرّؤية الداروينيّة التي تعتقد بأنّ التّنافس والصّراع هو العنصر المحوريّ في حياة البشر وأنّ البقاء للأقوى، وأنّ القوة هي القوّة المادّيّة.
وباعتقادي، إنّ أهم ما يعيننا على فهم السّبب الأبرز لغيبة الإمام المهديّ (وبالتالي العامل الأوّل لخروجه) هو أن نفهم ما جرى في تجربة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الحكوميّة. فهذا الإمام الذي كان يمتلك كل مقوّمات ومؤهّلات قيادة العالم وتبديل الأرض وإقامة العدل، لم ينجح في ذلك بسبب سيطرة نزعة حبّ الدنيا على أكثر من كان معه.
وقد أخطأ أكثر الذين ظنّوا أنّ مشكلة الإمام الأولى كانت في معاوية أو في الخوارج. فمثل هذه التحديات، وإن كانت مؤلمة وشديدة، لكنّها لم تكن بشيء أمام معاناة الإمام مع الذين يُفترض أن يعينوه في تجربة الحكم والقيادة. ولم تكن هذه المشكلة إلّا وليدة حبّ الدّنيا، الذي تفاقم كثيرًا منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، بفعل سياسة التّطميع بالغنائم والمناصب. فقد ظهر إسلامٌ آخر بعيد عن القيم الأولى التي سعى هذا النبيّ العظيم لترسيخها في المجتمع الإسلاميّ الفتيّ.
إنّ الإمام المهديّ لن يكون سوى عودة حميدة إلى الإمامة الإلهيّة في الحياة. وهذه العودة تعني استعادة الوعي الصّحيح تجاه الإمام ومعنى وجوده في الحياة. فما لم يؤمن العاملون بأنّ الدّور المحوريّ للإمام هو في تخليصهم من هذه الدنيا الفانية وبعثهم باتّجاه عالم الكرامة والملكوت، لن يرجع الإمام إليهم وإن طال الزّمن آلاف السّنين، والعلم عند الله.
المصدر: موقع إسلامنا