بقلم: العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
عندما نريد أن نتحرك مع المصطلح ـ والذي لم يكن منطلقاً من قاعدة فكرية إسلامية، بل كان منطلقاً من بعض المواقع الثقافية التي تحاول أن تحدّد المصطلحات من خلال خطها الفكري ـ فإنّ علينا أن نفكر ونطلق السؤال: لماذا الثّورة ؟ وما هي طبيعتها؟
ما هو منطق الثّورة ؟!
إننا نفهم أن الثورة تنطلق، لأنّ هناك قلقاً يعيشه الإنسان أمام حركة واقع لا تتناسب مع تطلّعاته، أو أنه يقف مضاداً لهذه التطلعات، وبهذا ينطلق الفكر على أساس حركة تغيير هذا الواقع، ومصادمة كلّ المفردات التي تغذّي كلّ انحرافه وكل فساده.
وهكذا ينطلق الإنسان في عملية تصاعد في المسألة الفكرية، تنسجم أو تتزاوج مع عملية تصاعد في المسألة الشعورية، لأن الفكر وحده لا يستطيع أن يتحرّك بحرارة تُلهب الواقع، إذا لم تصاحبه حالة شعورية فنيّة بكل الإحساس الذي يعطي الفكر شيئاً من الحيوية والحركية، وينطلق به في الاتجاه الذي يحاصر به بشكل منفعل قويّ، كل المفردات السلبية الموجودة في الواقع.
ومن هنا، فإن حاجة هذا الفكر إلى أن يخترق كل الحواجز، وإلى أن يندفع من أجل اقتلاعها من جذورها، يعمل على أساس أن يحرّك الوعي الإنساني في دائرة المطلق، إن كان للمطلق دائرة، بحيث يُطلق في الساحة على أساس أنّه ليست هناك حواجز، وليست هناك حدود، وربُما يصل هذا الإحساس الثوري إلى أن ينطلق ليفكّر أنّه ليس هناك عقل.
وهذا ما جعل بعض المفكرين يتحدّثون أنّ قمة الثوريّة في أسلوبها الاندفاعي، هي أن يعيش الإنسان معها لحظة جنون، لأنَّ الإنسان الذي يفكر بعقل دقيق يحسب حسابات كلّ الحواجز وكل المشاكل، سوف يتوقّف طويلاً أمام حاجز هنا وحاجز هناك، وأمام قوّة هنا وقوّة هناك، بالمستوى الذي يقلّل من اندفاع هذا الإنسان، لأن عملية الاندفاع تحتاج إلى ساحة مفتوحة، وإلى أفق مفتوح، ما يجعل التفكير في الحواجز والتوافق أمام الحواجز، عمليّة لا تتناسب مع قوّة الاندفاع وروحيّته.
ولذا نرى أنّ الثوريين في خطابهم السياسي أو خطابهم الثقافي، يُطلقون الشعارات كما لو لم يكن هناك أيّ حاجز أمام المشاكل.. نحن نلاحظ مثلاً في الحركة الصينيّة أو الثورة الصينيّة، أنّ “ماوتسي تونغ” أطلق شعار أنّ أمريكا “نمر من ورق”، أو أنّ الغرب “نمر من ورق”، وحاول أن يحشد في داخل الشعب الصيني هذه الفكرة، من أجل أن يزيل من داخل إحساس هذا الشعب شعوره بقوة الغرب أو أمريكا، وأيّ شعور بالخوف الناشئ من هذا الإحساس بالقوّة، وهو يعرف أنّ الغرب ليس نمراً من ورقٍ، وأنّ الغرب يمثّل قوة مادية كبرى في العالم، وأنّه يمثل مخلوقاً يملك أنياباً نوويّة، ويملك الكثير من عناصر القوة الاقتصادية والسياسية والأمنية، لكنّه لو تحدّث إلى الشعب بكلّ هذه المفردات التي تعطي الغرب معناه في عناصر قوّته، لما استطاع أن يحرّك شخصاً واحداً، لأنّ أيّ إنسان سوف يقف ليوازن بين واقع الضّعف في ساحته، وواقع القوّة في الساحات الأخرى.
لذلك، فإنَّ الثورة تنطلق من أجل أن تعزل عن فكر الإنسان وعن إحساسه أية حالة من حالات النظرة الواقعية للأشياء، وبذلك يتحقَّق الاندفاع، ونلاحظ من خلال ذلك، أنّ الثورة في حركيّتها السياسة أو الشعبية، لا تملك خطوطاً محدَّدة تفصيلية في الشعارات وفي الخطاب العام للأمّة.
الدّولة تأكل الثّورة
بينما يكون منطق الدولة هو منطق الدّراسة الواعية الهادئة التي تحسب حساب الأشياء بكلّ دقة، سواء منها الأشياء التي تتحرك في داخل الساحة، أو الأشياء التي تحيط بالساحة، لأنّ مسألة الدولة هي مسألة زراعة الأرض، مسألة الثورة هي مسألة محاولة إثارة كلّ ما في داخل الأرض، ومحاولة تنقية الأرض وتمهيدها، ودور الدولة هو دور زراعة الأرض، وبناء الأرض وإعمارها، وحركة الإنسان في داخلها، ليعيش في ضمن نظام دقيق يحسب حساب الأشياء الصّغيرة والكبيرة.
ولايزال الكثيرون في العالم يعملون على تسجيل النقاط على الجمهورية الإسلامية، في عملية موازنة بين الجمهورية في بدايتها عندما كانت ثورة، وبعد أن تحوّلت إلى دولة، حتى إن بعض المتحمّسين جداً، الذين لا يستطيع الإنسان أن يتهمهم في إخلاصهم، يحاول أن يسجّل على العهد الجديد أنّه ابتعد عن الخطّ الثوري للإمام.
الجمهوريّة الإسلاميّة والثّورة
من أين جاءت هذه الأفكار؟ هذا ما نريد أن نبحثه. لننزل إلى الواقع:
نحن نعرف أنَّ الإمام الخميني(رض)، الذي انطلقت الثورة من عقله ومن روحه، على أساس ما كان يعيشه من حركية الإسلام وحيويته وشموليته وانفتاحه وواقعيّته، كان تفكيره منذ البداية في الدولة، وقد كان أوّل فقيه كتب بالطريقة الحوزوية “الحكومة الإسلاميّة”، كانت الحكومة الإسلاميّة هاجس فكره، وكانت هاجس حياته، لذلك كانت استراتيجيّته أن تتحقّق الدّولة الإسلامية، الدولة هي كلّ شيء لديه، لأنه كان يعيش معنى الدولة في الإسلام من خلال الفقه الذي كان يدرّسه، والذي كان يكتبه، والذي كان يفتي به، لأنّه كان يرى أنّ ديناً يملك هذا الفقه الشمولي، الذي لا يترك صغيرة أو كبيرة إلّا ويضع لها حكماً شرعياً وحلاً إسلامياً، لا يمكن أن يكون منعزلاً عن حركة الإنسان في الحياة.
وهكذا كان يرى أن الكثيرين من الذين يعملون على أن يحرّكوا الإسلام في النطاق الفردي من الفقهاء، ويبعدونه عن النطاق العام في حركة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وما إلى ذلك، كانوا لا يعيشون معنى الإسلام في رحابته وفي سعته، ولا يعيشون معنى أن يعيش الناس في خطّ الإسلام، كانوا يكتفون بالفقه الفردي، أمّا الفقه الجماعيّ، فإنّه ينظر إلى الأمّة كوحدة، وينظر إلى قضاياها كوحدة، من دون أيّة تجزيئيّة بين موقع وموقع آخر، لأنّ الإسلام عندما انطلق، إنما انطلق من خلال أن يوحّد الإنسان، فلا يمكن أن يجزّئ الإنسان في أحكامه، كان الفقه يعمل على تجزئة الإنسان، حيث يفصل موقعاً عن موقع، ويفصل حالة عن حالة،
وكان الإمام الخميني(رض) ـ وهو الذي لم يتنازل عن المنهج الفقهي للفقهاء، ولكنه انفتح على أفق آخر ـ يدرس المسألة الاقتصادية على أساس أنها نتاج للمسألة السياسية، وأن المسألة السياسية نتاج للمسألة الثقافية، وأن المسألة الأمينة هي المسألة التي تتحرك في عمق كل هذه المسائل، وهكذا كان يفكّر، أننا عندما ندعو إلى الإسلام بالطريقة التي تملأ عقل الإنسان في العالم، وتملأ روحه، وتملأ ساحته، فلا يمكن أن نفكّر في إسلام بلا دولة، ولا يمكن أن نفكر في الفصل بين الدين والدولة، ولا يمكن أن نعزف الإسلام عن الحياة، لأنّه لن يكون إسلام الإنسان، بل سيكون كما أراده الآخرون، إسلام الذين يضطهدون الإنسان.
وهكذا أراد للناس أن يعيشوا مع الله، ليعيشوا مع الواقع بواقعية. بعض الناس يتصوّر أنّه عندما يعيش مع الله، فإنه يهرب من الواقع وينعزل عنه، ولكن الفكرة الإسلامية تقول للإنسان، إنّك بمقدار ما تعيش مع الله أكثر، ترتبط بالواقع أكثر. وهذا ما لاحظناه في موقف النبيّ محمّد(ص) {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فالله لم يكن في وعي النبيّ الرساليّ قوّة تعيش في أفق بعيد بعيد.. كان يحسّ بأنَّ الله معه في الغار، والله لا يحويه مكان، لكنَّ إحساسه المنطلق من إيمانه الّذي ملك عليه قلبه وشعوره، جعله يشعر بأنَّ الله يقف على فم الغار ليحميه من كلّ هؤلاء. وهكذا استطاع المسلمون أن يعيشوا هذه الرّوح، فجاءت الآية التي تتحدّث {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
لذلك، لم تكن ثورته ثورة مزاحيّة أو انفعاليّة، كانت مدروسة من خلال الأسلوب القرآني الذي يعمل على أن يقدّم لك المستكبرين في نقاط ضعفهم. كيف قدّم لنا فرعون؟ كيف قدّم لنا عاد؟ كيف قدّم لنا كلّ هؤلاء الذين كانوا يعيشون الاستكبار، حتى خيّل إلى بعضهم أنّه في موقع الإله؛ قدّمهم في نقاط ضعفهم، وقدّم المستضعفين في نقاط قوّتهم، من أجل أن يعيش الإنسان واقعيّة ضعف هؤلاء في مواقع الضّعف، وقوّة هؤلاء في مواقع القوّة.
شعارات ثورية مدروسة
لذلك، قد يخيّل إلى الناس أنّ الثورة الإسلامية عندما أطلقت شعار “الموت لأمريكا”، أو “الموت لروسيا” الاتحاد السوفياتي آنذاك، أو الموت لبعض الدول الأوروبية التي كانت تقف في خطّ المواجهة، و”الموت لإسرائيل”، ربما كان الناس يعتبرونها شعارات حماية تنطلق بفعل الحماس وبفعل الانفعال، ولكنّها في الواقع كانت مدروسة، لم تكن منطلقة ــ كما أشرنا ــ من عدم وعي قوّة كل هذه الدول، ولكن الناس كانوا يخافون من أنفسهم عندما يفكّرون في مواجهة هذه الدول.
ثورة بمنطلقات إسلاميّة
وهكذا انطلقت حركة الثّورة من عمق الفكرة الإسلاميّة، لم تُستَعر من النظريّة الماركسية في الثورية، ولم تُستَعر من أيّ جهة أخرى. كان الأسلوب الحركي في حركة الثورة، منطلقاً من الأسلوب القرآنيّ الّذي يعمل دائماً على المقارنة بين المستكبرين والمستضعفين في نقاط ضعف هؤلاء وقوّة هؤلاء والمقارنة الدائمة… أن يكون الإنسان عبداً أمام الله وحرّاً أمام العالم كلّه، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}.
لا يمكن أن تجعل إنساناً ربّاً صغيراً أمام الله أو ربّاً كبيراً، كن أنت الإنسان في إنسانيّتك الذي تقف حرّاً قويّاً أمام العالم، لا تكن عبد غيرك. قالها عليّ(ع): “لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً”، لأنّ حريتك تنطلق من داخل ذاتك وكيانك، ما يفرض عليك أن تنطلق لتؤكّدها في خارج ذاتك.
وفي الوقت نفسه، كان الإمام(رض) وهو يحرّك الثورة، يتحدّث للناس بعد أن بدأت الدّولة، أننا لا نريد أن نقاطع العالم، كان يقف ضدّ الذين يتحدّثون أنّه لا بدّ لنا من أن لا ننشئ علاقات مع المستكبرين، وأن علينا أن لا نستقبل السفراء، ولا نستقبل الدبلوماسيين، ولا نستقبل السياسيين وما إلى ذلك، كان يقول لهم في حديث مع سفراء الدّولة: “إننا لا نريد أن ننعزل عن العالم، بل نحن نعمل على أساس أن ننفتح على العالم، وعلى أساس أن نقيم علاقات مع العالم، ولكن أن نقيم علاقات مع العالم على طريقتنا، ومن خلال فكرنا، ومن خلال القواعد الفكريّة التي ننطلق فيها.”
لذلك، من يتصوّر أنّ معنى أن تكون ثورياً إسلامياً، أو تكون حركياً إسلامياً، هو أن تعيش العقدة الّتي تعزلك عن الآخرين، بحيث لا تنشئ أية علاقات دبلوماسيّة أو اقتصادية أو ثقافية أو ما إلى ذلك، هو إنسان لا يفهم الإسلام ولا يفهم معنى الثوريّة..
نظرة إيران إلى إسرائيل!
لقد بقيت إيران وحدها في العالم تعتبر أنَّ مواجهة إسرائيل دين تدين به، وليس مجرّد شعار سياسي. وهذا من تأثير منطق الثَّورة الذي لا تزال إيران تعيشه، لأنّ إيران تعتبر أنّ معنى أن تعترف بإسرائيل، هو أن تنحرف عن إسلامها، لأنك لا يمكن أن تكون مسلماً كما هو الإسلام، وتعتبر بشرعيّة من لا شرعيّة له، بشرعيّة أن يغتصب شعب أرض شعب. لهذا، هذه المسألة ليست من الأمور الّتي يمكن أن يُتسامح فيها.
لهذا، فإننا نلاحظ أنّ إيران بالنّسبة إلى القضايا الأساسيّة، لا تزال تتحرك لتهزّ الدولة في بعض حالاتها أمام استراتيجيّة الثّورة، ولا تزال تحرّك ثوريتها في المسألة الإسلاميّة في العالم بالوسائل التي تملكها، سواء كانت وسائل سريّة أو علنيّة. ونحن نعرف أنّ إيران تعاني مشاكل اقتصاديّة معيّنة لا تستطيع أن تنفتح فيها اقتصادياً على كثير من المواقع الإسلاميّة في العالم.
لماذا لا تثور إيران على أميركا؟!
وقد يقول قائل إن إيران ترفع شعار: “الموت لأمريكا”، وقد اقتربت أمريكا من حدود إيران البحريّة عندما جاءت إلى الكويت، وهي الآن موجودة في الخليج، فلماذا لا تنطلق إيران بروحيّتها الثورية لتحارب أمريكا عسكرياً وأمنياً في الخليج؟
والجواب أن إيران تتحرك في هذه القضايا من موقع دراسة عمق الواقع السياسيّ، وذلك أن أمريكا الآن تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في أن تخطئ إيران في عمل أمنيّ، بحيث يمكن له أن يثير الواقع الدّولي ضدّها، لتعمل مع إيران ما عملته في العراق. ولكن إيران بالحكمة الرشيدة التي تتحرك بها قيادتها، وهي تسير بين الألغام، تعمل على أن تكون حساباتها دقيقة، حتى لا تعطي الاستكبار العالميّ أية حجّة وأيّة فرصة لأن يتحرك ضدّها بالطريقة التي تحرّك بها ضدّ العراق، ولهذا فهي تسير بين الألغام، وتسير بين الخطوط الحمر، ولكن بكفاءة سياسيّة عاليّة.
ليست المسألة أنّك عندما تدخل في صراع مع جهة، أن تندفع بشكل مباشر، ولكن عليك أن توازن بين قوّتك وقوّته، وبين الظروف السياسيّة والموضوعيّة. ومن هنا، فقد بقي الخطاب السياسيّ في مرحلة حرب الخليج على أصالته، ولكن الحركة الواقعيّة على الأرض كانت تدرس الخطوط الحمراء بشكل جيّد، لأنّه لا يجوز “إلقاء النفس إلى التهلكة” في هذا المجال..
*العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) من محاضرة له بتاريخ 8/2/1996.
الاجتهاد