وإن اختلفت تلك التقارير بشأن الطرف المقصود من تلك التحذيرات؛ حيث لم يوضح السيسي إن كانت موجهة إلى قيادات المعارضة الذين دعوا إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية المقررة الشهر المقبل، أم إلى أفراد أو قطاعات داخل مؤسسات في الدولة شرعت مؤخرًا بشكل غير مسبوق -وعلني أحيانًا- في إظهار معارضة للرئيس أو رفض للأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد.
أغلب القراءات محليًا وخارجيًا لتصريحات السيسي الغاضبة- التي هدد فيها بأن أي مساس باستقرار البلاد سيكون على حساب حياته «وحياة الجيش»- لفتت إلى كون كلمات الرئيس جاءت بعد أيام قليلة من إقالة مفاجئة لمدير المخابرات العامة، سبقتها إقالة غير متوقعة بدورها لكل من رئيس أركان القوات المسلحة ومدير قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية؛ والأهم، أنها جاءت كذلك بعد أيام من القبض على سامي عنان، الرئيس الأسبق لأركان القوات المسلحة، الذي كان قد أعلن نيته الترشح ضد السيسي في الانتخابات المقبلة، وإيداعه السجن الحربي بعد تفتيش منزله.
مصادر سياسية مطلعة، بعضها على تواصل مباشر مع عدد من العسكريين وغيرهم في دوائر الحكم، نقلت في حوارات مغلقة الأسبوع الماضي أن رئيس الجمهورية تحدث بصراحة ومباشرة مع قيادات من القوات المسلحة قبل أن يأمر باتخاذ إجراءات عقابية بحق عنان، الذي تحدى السيسي علنًا في رسالة مصورة وجه له فيها ضمنًا اتهامات بالتفريط في أرض مصر ومياه نهرها في إطار سياق من سوء إدارة البلاد والتلاعب بمقدراتها.
المصادر نفسها قالت إن القبض على عنان في 23 يناير الماضي جاء بعد انقضاء مهلة من 48 ساعة استغرقتها وساطات غير ناجحة لإقناعه بالانسحاب، قام بها عدد من أرفع قيادات القوات المسلحة، وشارك فيها وزير الدفاع الأسبق حسين طنطاوي، الذي عمل معه عنان عن قرب لقرابة عقد تحت رئاسة حسني مبارك.
السيسي، بحسب المصادر، طلب من اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية، أن يشرع في صياغة البيان الذي صدر باسم القيادة العامة للقوات المسلحة في نفس يوم القبض على عنان، وقُصد من البيان الذي أذاعه التليفزيون الرسمي أن يكون إشارة تحذير واضحة تصاحبت مع استمرار جهود وضغوط إقناع عنان بالعدول عن الترشح، والتي قادها، إلى جانب طنطاوي، كل من محمد الشحات مدير المخابرات الحربية، وعباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية والقائم بأعمال مدير المخابرات العامة.
ونقلت المصادر أن السيسي أعرب في اجتماعات مع قيادات عسكرية عن شديد غضبه إزاء تكرار ثلاث محاولات متتالية لتحدّيه من قبل عسكريين، هم: عنان، وأحمد شفيق رئيس أركان القوات الجوية الأسبق الذي تولى رئاسة الوزراء في آخر أيام حكم مبارك، إلى جانب أحمد قنصوة، الضابط الذي قضت محكمة عسكرية في ديسمبر الماضي بسجنه ست سنوات بعد إدانته بخرق القواعد العسكرية عبر إذاعته لرغبته في الاستقالة من الجيش والترشح لمنصب رئيس الجمهورية من خلال فيديو نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
السيسي، بحسب مصدر عسكري متقاعد، لم يقبل باقتراح أن يقتصر التعامل مع عنان على مجرد رفض منحه الموافقة المطلوبة قانونيًا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الترشح لرئاسة الجمهورية، بل أصر على أن يكون هناك موقف حاسم يتوافق مع دعم يفترضه من القوات المسلحة التي كانت قد منحته قبل أربعة أعوام الموافقة والتأييد للترشح للرئاسة الجمهورية حين كان في منصب وزير الدفاع.
تتوافق روايات تلك المصادر مع ما سمعه مباشرة أحد الصحفيين من محمد العصار، العضو السابق بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزير الإنتاج الحربي الحالي، خلال حفل استقبال أقامته السفارة السعودية في القاهرة قبل أسبوع. وتحدث العصار خلال الحفل مع عدد محدود من الصحفيين المصريين حول ما وصفه بخرق عنان للأعراف العسكرية، وليس فقط للقانون، مضيفًا أن قيادات القوات المسلحة لم يكن يمكن لها أن تقبل بأن يبدو الأمر وكأن الجيش يدفع بمرشحَين متنافسَين على حكم البلاد، وأن القبض على عنان لم يتقرر إلا بعد أن رفض الأخير كافة محاولات إقناعه بالعدول عن الترشح.
وقال العصار، بحسب نفس المشارك في حفل السفارة، إن الجيش المصري في الوقت نفسه لن يقبل بإهانة قاسية لأحد قياداته، ولكن توجيه اتهام بخرق القوانين العسكرية لا بد أن يتبعه بالضرورة عقاب «لن يزيد عن نحو ستة أشهر سيمضيها الرجل في بيته».
عنان، القابع حاليًا في السجن الحربي منذ نحو أسبوعين، قد يصبح في حال محاكمته ووضعه قيد الإقامة الجبرية رابع مسؤول عسكري رفيع تُقيّد حريته على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. فقد نقل أحد أصدقاء أسرة قائد الأركان السابق محمود حجازي أن الأخير خضع منذ إزاحته عن منصبه في 28 أكتوبر لإقامة جبرية لم تنته إلا بظهوره في حفل تكريم محدود له بحضور السيسي في 16 ديسمبر، ليصبح بعدها قيد «إقامة محددة»، تسمح له ببعض التحركات ولكن تحت مراقبة لصيقة.
كما قال مصدر تربطه صلة عائلية بمدير المخابرات العامة السابق خالد فوزي إنه بدوره مقيد الحرية. وما زال أحمد شفيق، أيضًا بحسب أصدقاء للأسرة، قيد الإقامة المحدّدة، بعد أسابيع من انتهاء احتجازه القسري في أحد فنادق القاهرة لمدة شهر عقب وصوله مرحّلًا من الإمارات في الثاني من ديسمبر الماضي.
شفيق كان، حسب أكثر من مصدر، قد أعلن تخليه عن رغبة سابقة في الترشح للانتخابات الرئاسية بعد مساومات وضغوط خضع لها على مدى شهر احتجازه بالفندق، في مباحثات قادها كل من عباس كامل ومحمد الشحات وخالد فوزي، قبل أن تتم الإطاحة بالأخير منذ أسبوعين في أعقاب نشر تسريبات صوتية تحدث فيها رجل يفترض انتماؤه للمخابرات الحربية لبعض رجال الإعلام والفن لمطالبتهم بصياغة موقف متفهم لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأيضًا تجييش الرأي العام ضد كل من الكويت والسعودية بسبب مواقفهما السياسية المزعجة للقاهرة (تقارب الكويت مع قطر والتخوف من تقارب سعودي مع إخوان اليمن وفق زعم التسريبات التي لم تتأكد صحتها بشكل مستقل بعد).
ووفقًا لمصدر في الخارجية المصرية، وكذلك لدبلوماسي أوروبي زار كلًا من السعودية والكويت مؤخرًا، فإن التسريبات أزعجت بشدة مسؤولي البلدين، ما اضطر الخارجية المصرية إلى إصدار بيان اعتذاري للكويت واتخاذ إجراءات غير معلنة لترضية السعودية.
مسؤول حكومي سابق قال إن فوزي فقد منصبه بعد اتهامه بضعف السيطرة على الجهاز، وإن الاتهام الأساسي في واقعة التسريبات تم توجيهه إلى بعض أعضاء المخابرات العامة المصرية الذين يخضعون حاليًا للتحقيقات، وتوقع المسؤول نفسه صدور قرار قريب بإحالة عدد غير قليل من هؤلاء الضباط للتقاعد، في إطار عملية «تطهير» واسعة بدأت في المخابرات العامة عشية وصول السيسي للحكم واستمرت مؤدية إلى إقصاء حوالي 200 من قيادات وضباط وموظفي الجهاز، بعضهم كان قائمًا على ملفات حيوية مثل العلاقات مع إسرائيل والفصائل الفلسطينية، والعلاقات مع دول القرن الإفريقي وبين بعضها البعض، فضلًا عن المعنيين بملف السودان ومنطقة الساحل والصحراء.
وأضاف المسؤول أن التحقيقات تشمل أيضًا اتهامات لبعض العاملين في المخابرات العامة بالتواصل المستمر مع شفيق، أو بالتعاطف مع فكرة ترشح عنان.
المسؤول نفسه قال إن الرئيس لم يكن ليقبل «بأن تتم منازلته على حكم مصر لأن هذا فيما يبدو ينزع عنه صفة القائد المخلّص ويحوّله لرئيس سياسي يمكن منافسته على السلطة، بينما هو مقتنع فعلًا أنه أنقذ مصر وأنه يسعى لمساعدتها على القيام من كبوة حلت بها بسبب تدخل ابن مبارك، جمال، في الحكم وبسبب ثورة يناير».
التقدير نفسه اتفق معه، بألفاظ تكاد تكون متطابقة، أحد العاملين في حملة أحد المرشحين الرئاسيين المنسحبين، والذي قال إن مرشحه اتخذ قرار الانسحاب في ضوء ما نقلته إليه بعض الشخصيات العاملة في الدوائر الأقرب للرئيس من أنه غير مرغوب في ترشحه إطلاقًا وأن «عليه الانسحاب آمنًا قبل أن يلاقي ما لا يحب». وأضاف أن مرشحه قرر الانسحاب رغم اتصالات تلقاها من عنان طالبه فيها بالاستمرار بدعوى «أن الحياة السياسية في مصر يجب أن يتم إنقاذها».
ناشطون آخرون من مواضع مختلفة في المعارضة السياسية المتصاعدة للسيسي قالوا أيضًا إنهم تلقوا اتصالات من عنان أو علموا باتصالات أجراها مع سياسيين آخرين حول ما أطلق عليه تصور «إنقاذ مصر»، الذي حوى محاور اقتصادية وسياسية واجتماعية عامة. واتفق هؤلاء في تقييمهم أن عنان -قبل أن يعلن نيته الترشح- بدا واثقًا من أن لديه القدرة على إحداث خلخلة في المشهد الانتخابي، دون أن يطلع محدثيه على أسباب هذه الثقة، والتي وصلت إلى عرض منصب نائب الرئيس على عدة شخصيات بعضها رفض فيما وافق كل من الدكتور حازم حسني، الأستاذ بجامعة القاهرة، وهشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات.
وبعد تعرض جنينة لعملية اعتداء جرى تأويلها ما بين محاولة اختطاف أو ترويع، بعد يومين من القبض على عنان، ما زال هناك ظن في أوساط من تعاملوا معه بأن رئيس الأركان الأسبق ما زالت «لديه مفاجآت ستظهر للعلن، وأن الأمور قد تجري على غير ما يتوقع القائمون على الحكم». ووفقًا لنفس التقديرات، فإن تلك المفاجآت هي السبب الرئيسي في تأخر إحالة عنان للمحاكمة حتى الآن.
لكن المسؤول الحكومي السابق يختلف مع هذا التقدير، بل يرى أن التقدير المتداول في الدوائر الرسمية هو أن الأمر لن يستغرق أسابيع قليلة قبل أن ينسى الناس تمامًا قصتي شفيق وعنان، وأن تسير الأمور نحو إعادة انتخاب هادئة للرئيس، «بل وربما العودة ثانية للعمل على تعديل الدستور» بما يؤدي إلى رفع تحديد مدد الرئاسة بمدتين وزيادة أمد المدة الواحدة من أربع إلى ست سنوات، وربما أيضًا إلغاء التحصين الممنوح لوزير الدفاع من الإقالة من قبل رئيس الجمهورية دون موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمدة ثمانية سنوات بدءًا من 2014، وهو التحصين الذي وضعته لجنة الخمسين في الدستور من أجل السيسي شخصيًا في حال كان قد قرر عدم الترشح للرئاسة وفضل الاحتفاظ بمنصبه وزيرًا للدفاع.
بالمثل، رأى دبلوماسيون غربيون في القاهرة أن الرئيس نجح في تنحية معارضيه بشكل سيضمن العودة للهدوء في الأسابيع القادمة وحتى إعلان نتيجة الانتخابات أول أبريل، لافتين إلى ما نما إلى علمهم من أن الولايات المتحدة قد أخطرت السيسي مباشرة بأن الإدارة الأمريكية الحالية تدعم بقاءه في الحكم لمدة إضافية وتتمنى أن تكون ركائز حكمه قوية، وذلك أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي مايك پنس للقاهرة نهاية يناير الماضي.
وبحسب دبلوماسي غربي مطلع في القاهرة، فإن المطلب الوحيد للأمريكيين في ما يخص الانتخابات كان أن يبحث السيسي عن أي منافس، بحيث لا يذهب الي الانتخابات وحيدًا لأن العودة إلى ما يشبه الاستفتاء على اسم الرئيس الأوحد دون اختيار بين متنافسين كان من شأنه أن يزيد من الضيق المتصاعد بين أعضاء الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن تدهور أوضاع الديمقراطية والحريات في مصر.
وتتطابق تلك المعلومات مع ما نقله برلماني مطلع من ائتلاف دعم مصر، قال إن قيادات الائتلاف ردت على النواب المعترضين على الدفع باسم مجهول في اللحظات اﻷخيرة لينافس السيسي، بأن مؤسسة الرئاسة هي من طلبت ذلك، بناء على طلب من نائب الرئيس اﻷمريكي. النائب نفسه أضاف أن الرئاسة تابعت اجتماع المكتب السياسي للائتلاف تليفونيًا «لحظة بلحظة»، وأن الرئاسة هي من طلبت ألا يتم الإعلان عن أسماء النواب الذين سحبوا تزكيات كانوا قد حرروها لحساب السيسي ليحرروا تزكيات جديدة لموسى مصطفى موسى، رئيس حزب الغد الذي قدم أوراق ترشحه للهىئة العليا للانتخابات قبل دقائق من غلق باب الترشح في 29 يناير.
التحدي، بحسب دبلوماسي غربي آخر، ليس في بعض بؤر المناوشة التي واجهها السيسي من مسؤولين سابقين أو بعض الولاءات المنقسمة هنا أو هناك على المستويات المتوسطة لبعض الأجهزة الأمنية؛ وإنما فيما سيواجهه في فترة رئاسته القادمة، حيث «إن هناك ضغوطًا سعودية متجددة على مصر للتحرك نحو إرسال قوات عسكرية لتحسين الوضع على الأرض في اليمن لصالح قوات التحالف في ظل خلافات متزايدة بين السعودية والإمارات هناك، وفي ضوء سعي من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتحقيق تقدم عسكري ما يسمح بترتيبات سياسية تغلق الملف الذي فتحه وفشل في إدارته».
وأضاف المصدر أن تحديًا آخر يتمثل في الإصرار الإثيوبي والسوداني المشترك على تجاهل مطالب مصر في ما يتعلق بملء خزان سد النهضة، والتي لم يتراجع عنها الطرفان في القمة الثلاثية في أديس أبابا والتي جمعت الرئيس المصري ونظيره السوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي الأسبوع الماضي.
ولفت الدبلوماسي نفسه إلى ما أعلنته الحكومة المصرية مؤخرًا من التسريع في دراسات تتم «بجدية كاملة» للنظر في بداية «عاجلة» لمشروعات تحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي، «وهي مشروعات مكلفة جدًا ويمكن أن تستهلك جزءًا غير قليل من الأموال التي كان من المتوقع توفيرها مع نهايات عام 2018 أو بدايات عام 2019 في ضوء اقتراب محتمل لتوقف مصر عن الاحتياج لاستيراد الغاز».
تساؤل آخر طرحه دبلوماسيون غربيون يتعلق بمدى نجاح الرئيس، بعد إعادة انتخابه، في الحفاظ على ما تبقى له من شعبية يرون أنها ستواصل التراجع حتمًا مع المزيد من إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي سيضطر للاستمرار فيها، وتراجع للدعم المالي الخليجي، ومسافة من البرود من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تعد ترى في مصر حليفًَا ضروريًا خاصة مع عدم قدرة القاهرة على إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتعاطي الايجابي مع مقترحات تسوية أمريكية على وشك الصدور. البرود نفسه يلاحظه هؤلاء الدبلوماسيون من قبل أغلب دول أوروبا الغربية في ظل شعور أوروبي متزايد بالحرج من استمرار دعم السيسي في سبيل الحفاظ على التعاون المصري في مكافحة الهجرة «غير الشرعية» والإرهاب، في الوقت الذي تتصاعد فيه «عمليات القمع واسعة النطاق» و«تغييب أساسيات العملية الديمقراطية».
المصدر: مدى مصر