قيس بن سعد بن عبادة بن دليم([1]) بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي([2])، يُكنَّى أبا الفضل وقيل أبا عبد الله، وقيل أبا عبد الملك . أمَّه فكيهة بنت عبيد بن دليم بن حارثة([3])، وقبيلته الخزرج من القبائل العربية التي كان لها مجدٌ في الجاهلية، ثمَّ ما لبثت أنَّ ألبسها الله تعالى لباس الإسلام فأشرقت بنور ربها ناصرةً وآويةً لنبيها، مقدِّمةً أبنائها فداءً للإسلام الحنيف .
وهو من كرام أصحاب رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)([4])، ومن خُلَّص أنصاره([5])، وقد ابتدأ مشواره الريادي مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتشرفه بخدمته، إذ دفعه أبوه سعد بن عبادة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون خادماً له في أول دخوله إلى المدينة المنورة([6])، وهكذا نمت قدرات قيس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت سريرته خصبة طيبة تلقَّت غيث النبوة بقبول حسن فأنبتت نباتاً حسناً تفجَّر عن أدبٍ وخلق كريم، يُؤتي أكله كلَّ حين، ولم يدعُ أكرومةً إلَّا وكان له النصيب الأوفر منها، وكيف لا يكون كذلك وهو الملازم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملازمة لسيقة فكان بين يديه كصاحب الشرط من الأمير([7])، وقد شارك مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مشاهده كلها([8])، وكان يحمل راية الأنصار في بعضها([9])، إضافة إلى ذلك قيادته لبعض الغزوات([10])، وقد استعمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصدقة([11]) .
وكلُّ من ترجم لقيس بن سعد وصفه بالشجاع الهمام وصاحب الرأي والبأس([12])، وكيف لا يكون كذلك وهو سيَّاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)([13])، وأشدُّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)([14])، وقد وصفه معاوية بن أبي سفيان بأنَّه أشدُّ من مائة ألف مقاتل([15])، وقد استحق بشجاعته وفروسيته أن يكون حاملاً لراية الأنصار([16]) مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقائداً لبعض غزواته([17])، ولم يكتفِ (رضوان الله عليه) بأوسمة الفروسية التي حقَّقها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شارك معه بكلِّ غزواته([18])، بل راح يصدح عالياً في تشييد معالم الشجاعة والإقدام مع الولي والوصي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فشارك معه بوصفه قائداً فاعلاً في الصفوف الأولى من جيشه (صلوات الله عليه) في حروب الجمل وصفين والنهراون([19])، وقد تولَّى إدارة مصر بتنصيب من الإمام علي (عليه السلام)، وفيها ضاق به معاوية وأتباعه ذرعاً بما اتَّبعه من أساليب الحرب الباردة معهم، فكان بمفرده يمثِّل جيشاً جباراً عتيَّا، وقد سبق قول معاوية فيه عندما وصف سيفه بأنَّه أشدُّ عليه من مائة ألف مقاتل، لا بل يصل به الأمر من شدَّة قيس عليه أن يقول فيه: ((والله يريد أن يفنينا غداً))([20])، والفضل ما شهدت به الأعداء، ويكفي في معرفة أهميَّة قيس بن سعد القتالية رسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إليه، وهو على آرذبيجان يحثُّه فيها على القدوم إليه بعد أن اجتمعت كلمة المسلمين على حرب معاوية، ومن جملة ما قال له فيها: ((أمَّا بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفة لك، وأقبل إلي، فإنَّ المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجِّل الإقبال، فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال إن شاء الله، وما تأخري إلا لك، قضى الله لنا ولك بالإحسان في أمرنا كله))([21])، وهذه كلمة عظيمة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحقِّ قيس بن سعد، إذ كان تأخر الإمام لقيس خاصَّة دون غيره، ورفضه المسير إلى الحرب إلَّا بعد أن يأتي قيس، وكان يمكن أن ينطلق أمامه ويطلب منه الالتحاق به، ولكنَّ الإمام كان يعرف قيمة قيس بعسكره، وشدَّة بأسه على معاوية الذي كان يرتجف من سماع صوت اسمه.
ثمَّ يستمر بصولاته الجهادية مع الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) فكان في مقدِّمة جيشه([22])، وما كان بمعاوية إلَّا أن يسعى جاهداً في إغرائه بشتَّى الوسائل، لكنَّه لم يفلح وخابت كلُّ آماله وأمواله في أن يتَّقي سيف قيس ، أو يردُّه إلى غمده على أقلِّ التقادير ، لأنَّ الذي أمامه فارس مغوار، قد تشرَّب الفروسية مع الإيمان الراسخ من مدرسة باب مدينة العلم فنهل من معينها الصافي حدَّ الارتواء، ولمَّا سنَّ معاوية لعن الإمام علي (عليه السلام) على المنابر([23]) قرن قيساً معه فكان يلعنه([24]) مع سيد الأوصياء وسيدي شباب أهل الجنة، وهذا إن دلَّ فإنَّه يدلُّ على شدَّة قيس بن سعد على معاوية، وصرامته التي جعلته يتفجَّر حقداً عليه، وبذلك كانت حياة قيس بن سعد سجِّلاً حافلاً بكلِّ معاني الشجاعة والإقدام، وكان متفانياً في نصرة آل البيت (عليهم السلام) متهالكاً في ولائهم .
وكان قيس بن سعد بن عبادة الانصاري أحد دهاة العرب([25])، وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة([26])، ودهاؤه يضرب به المثل([27])، وقد قال عن نفسه: ((لَوْلاَ الإِسْلاَمُ، لَمَكَرْتُ مَكْراً لاَ تُطِيْقُهُ العَرَبُ))([28])، وقال: ((لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ النَّاسِ))([29]) . وقد حار معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في أمره عندما ولَّاه الإمام علي (عليه السلام) مصر، وكانا يجاهدان بكلِّ ما يمتلكان من مكر وخديعة وحيلة على أن يخرجاه من مصر ويتغلبان عليه، ولكنَّه امتنع عليهما بما يملك من دهاء ومكايدة، فلم يقدرا عليه ولم يستطيعا أخذ مصر مدَّة حكمه لها، وكان أثقل خلق الله عليهما، وقد وصف معاوية رصانة رأي قيس ومكايدته بأنَّها خير من مائة ألف مقاتل([30]) .
وقد رفض قيس كلَّ إغراءات معاوية وعروضه التي لم يعرضها لأحدٍ غيره في سبيل أن يشتري ولاءه، فكان قيس يتسامى عالياً فيرفض عروض معاوية، لأنَّه قد وفى ببيعه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بمقابل رضى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستبشر ببيعه وتجارته التي لن ولم تبور، ومن جملة عروض معاوية أنَّه عرض عليه قبل معركة صفين سلطان العراقيين ما بقيت له الحياة، وسلطان الحجاز لمن يحب من أهل بيته ما دام لمعاوية سلطان، ومع ذلك قال له معاوية: سلني من غير هذا ما تحب فإنَّك لا تسألني من شيء إلَّا أوتيته ([31])، وما كان من قيس إلَّا أن يرفض رفضاً قاطعاً ويتسامى بصونه لعقيدته، ليخبر معاوية والتاريخ من بعده أنَّ ثمن ولائه غالياً لا تستوعبه كلَّ كنوز الشرِّ فضلاً عن خزائن معاوية، لأنَّه قد ابتاع الدنيا بالآخرة، ورضي بأجر الله تعالى فرغب عن كلِّ شيءٍ دونه .
أمَّا وفاته: فإنَّه بعد حادثة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان رجع قيس بن سعد إلى المدينة، وانشغل بالعبادة والدعاء إلى أن توفِّي (رحمه الله) في آخر ملك معاوية، بما يقارب سنة تسع وخمسين أو سنة ستين للهجرة على أصحِّ الآراء في المدينة المنورة([32]) .
وقد قضى حياته عابداً زاهداً موالياً لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو لزم رسول الله تعالى في حياته وبعد رحيله كان من أقطاب المعارضة لحكومة السقيفة، ثمَّ انبرى مجاهداً مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) في كلِّ حروبه، وبعد شهادة الإمام علي (عليه السلام) لزم الإمام الحسن (عليه السلام) فكان صاحباً مخلصاً له، وقد جاهد معه بكلِّ اخلاص إلى أن تمَّ الصلح، وهكذا فقد كانت حياته (رضوان الله عليه) محطَّةً مكتنزة بالمفاخر والفضائل يقف عندها التاريخ مفتخراً بألقها ونصاعتها، أمَّا المتتبع والدارس فإنَّه يودُّ أن لا يفارقها لما فيها من عبق وريح زاكية، كأنَّك تتجول في جنَّة كثيرة الأزهار متنوعة الثمار قطوفها دانية وشكلها يسرُّ الناظرين. فسلام عليه بعدد مواقفه مع الرسول وعترته الهادية (صلوات الله عليهم وسلامه وبركاته).
المصدر: مؤسسة علوم نهج البلاغة
--------------------------------
الهوامش:
([1])الطبقات الكبرى، ابن سعد:6/121 ، الثقاة، محمد بن حبان: 3/339 ، كتاب الولاة وكتاب القضاة، محمد بن يوسف الكندي: 1/19 ، رجال البرقي:63 .
([2])الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر:2/594، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير:2/441
([3])سير أعلام النبلاء، الذهبي: 3/103
([4])جامع الأصول، ابن الأثير: 12/ 729 ، الوافي بالوفيات: 24/212.
([5])اختيار معرفة الرجال: 1/29
([6])ينظر: مسند أحمد: 24/228 ، سنن الترمذي: 5/570 ، السنن الكبرى، النسائي: 9/139 .
([7])صحيح البخاري: 9/65 ، سنن الترمذي: 5/690 ، المستدرك على الصحيحين: 4/323 .
([8])ينظر: الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 334
([9])ينظر: تاريخ الملوك والرسل: 4/552 ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1289 .
([10])ينظر: الطبقات الكبرى: 1/247 ، تاريخ دمشق: 49/401 .
([12])ينظر: تاريخ الملوك والرسل: 4/552 ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1289 .
([13])ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي: 1/38 ، بحار الأنوار: 29/164 .
([14])ينظر: إرشاد القلوب، الحسن بن محمد الديلمي: 2/380 ، بحار الأنوار: 29/165 .
([15])ينظر: تاريخ الرسل والملوك، الطبري:4/555 .
([16])ينظر: تاريخ الملوك والرسل: 4/552 ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1289 .
([17])ينظر: الطبقات الكبرى: 1/247 ، تاريخ دمشق: 49/401 .
([18])ينظر: الكنى والألقاب: 3/174 .
([19])ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب:3/1292 ، الوافي بالوفيات: 24/212
([20])ينظر: وقعة صفين، ابن مزاحم: 1/447 ، أعيان الشيعية، السيد محسن الأمين: 1/507.
([21])تاريخ اليعقوبي: 2/203 ، وعنه في نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي: 5/148.
([22])ينظر: تاريخ دمشق: 49/403 ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5/316 .
([23])ينظر: الكامل في اللغة والأدب: 2/216 ، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/260 .
([24])ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/260 .
([25])ينظر: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب:1/88 .
([26])الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1289 ، جامع الأصول: 12/ 729
([27])سير أعلام النبلاء: 3/107
([28])الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1290 ، تاريخ دمشق: 49/423 .
([29])سنن أبي داوود: 13/444 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/404 .
([30])ينظر: تاريخ الرسل والملوك، الطبري:4/555 .
([31])ينظر: الغارات: 1/214 ، تاريخ الرسل والملوك: 4/550 .
([32])ينظر: تاريخ بغداد: 1/530 ، تاريخ دمشق: 49/400 .