مدينة شيراز هي مركز محافظة فارس المعروفة بتأريخها الأصيل وطبيعتها الخلابة الجميلة، وأجمل ما فيها حدائقها الفريدة من نوعها، فالحدائق الإيرانية عموماً تتصف بثلاثة أطر لا نظير لها، أحدها أنّها تقع في مجرى الممرات المائية، وثانيها تعيين حدودها بجدران، وثالثها تشييد مباني صيفية وأحواض مائية فيها؛ فهذه الخصائص الثلاثة جعلتها تمتاز عن سائر الحدائق في العالم.
* الحدائق الإيرانية الأصيلة
السائحون الاوروبيون حينما يشاهدون الحدائق الإيرانية يطلقون عليها عبارة Persian gardens أي الحدائق الفارسية، وهذه الحدائق الخلابة بميزاتها الخاصة، تضرب بجذورها في عهد إنشاء الآبار الارتوازية في إيران القديمة، فالحدائق الأولى قد أنشأت في مصبّات هذه الآبار، كما أنها تضم في داخلها مباني ذات فنون معمارية فريدة من نوعها.
* حديقة "دلگشا" في مدينة شيراز
إحدى هذه الحدائق الجميلة الأصيلة، حديثة تقع في مدينة شيراز باسم "دلگشا" وهي على مقربة من مقبرة الشاعر الإيراني الكبير سعدي الشيرازي، ويرجع تأريخها إلى العهد الساساني، كما انتعشت واشتهرت على نطاق واسع في العهد الصفوي، وفي العهد القاجاري شيدت فيها مباني ذات فنون معمارية أصيلة.
تبلغ مساحة هذه الحديقة سبعة هكتارات ونصف الهكتار، وتم تسجيلها في قائمة الآثار الوطنية برقم 912 وغالبية أشجارها من الحمضيات ولا سيما النارنج والبرتقال، كما أنّ المياه التي تتدفق الينبوع الموجود في مقبرة الشاعر سعدي الشيرازي تمر من خلالها.
* تأريخ حديقة "دلگشا"
المباني الموجودة في هذه الحديقة تم تشييدها قبل عهد سلسلة آل إينجو وآل مظفر، بل شيدت قبل الإسلام وذلك إبان العهد الساساني، وما يثبت هذه الحقيقة أنها تقع إلى جوار آثار ساسانية قديمة وضمن نطاق إحدى القلاع الشهيرة في ذلك المكان والتي كانت آثارها موجود قبل نصف قرن على سفح الجبل المقابل لها.
الكاتب والدبلوماسي البريطاني جيمس موريه أوعز تأريخ تشييد هذه الحديقة الخلابة إلى عهد الحاكم الشهير كريم خان زند، إلا أن بعض المؤرخين لا يؤيدون هذا الرأي ويقولون إنها شيدت في العهد الساساني قبل ظهور الإسلام.
حينما حكم تيمور جوركاني منطقة فارسي، شهدت هذه الحديقة ازدهاراً ملحوظاً وانتعشت إلى حدّ كبير، لذلك بادر إلى تشييد حديقة كبيرة على غرارها في مدينة سمرقند وأطلق عليها اسم "دلگشا" أيضاً.
كما ذكرنا فقد اشتهرت هذه الحديقة في العهد الصفوي على نطاق واسع، وبقيت عامرة حتّى العهد الأفشاري ويقال إنه كانت ملكاً للميرزا محمد كلانتر فارس، وخلال الفترة الواقعة بين عهد حكومة نادر شاه والسلسلة الزندية، تعرضت لدمار كبير واضمحلت معظم معالمها لكن كريم خان زند أحياها من جديد.
* معالم حديقة "دلگشا"
الشارع الأصلي في الحديقة يمتد من مدخلها إلى الحوض الكائن أمام المبنى الأثري وعلى جانبيه هناك حديقتان زاخرتان بمختلف أنواع الحمضيات، وفي شرق وغرب المبنى هناك شارعان كما يوجد شارع في ناحيته الشمالية وعلى جانبيه الكثير من أشجار الصنوبر والشربين - السرو - وسائر أطراف الحديقة مليئة بالمساحات الخضراء ومختلف الأشجار الجميلة المثمرة وغير المثمرة مثل النارنج والبرتقال والنخل والجوز، وفيها حوض كبير يقع جنوبي المبنى التراثي وفي مقابل الإيوان المشيد على عمودين كبيرين تم بناء أطرافهما وقواعدهما من حجر المرمر الأحمر، وفي وسط الحوض توجد زهرية حجرية كبيرة كانت فيها قديما شجرة شربين جميلة وباسقة لكنها جفت ولم يبق لها أثر اليوم.
قبل ما يقارب النصف قرن، كانت هذه الحديقة مملوكة للسيدة خورشيد كلاه لقاء الدولة بنت قوام الملوك، حيث كانت تقطنها مع زوجها ناظم الملك، لكن الحكومة اشترتها منها قبل سنوات لتدرج ضمن الآثار الوطنية.
* المبنى التراثي في حديقة "دلگشا"
كما ذكرنا آنفاً في هذه الحديقة يوجد مبنى تراثي أصيل وفي مقابله حوض مشيد من الحجر، والمبنى مشيد على منصة كبيرة حيث توجد في الجانب الأسفل للجدران أحجار مصقولة ومسطحة.
يتضمن المبنى صالة كبيرة فيها أربعة أروقة ضيافة وقد شيدت وفق أصول الفنون المعمارية التي تمتاز بها القصور الساسانية في بيشابور، وهو يتكون من ثلاثة طوابق وإيوان فيه عمودان كبيران تم تشييدهما وفق فن العمارة الشائع في العهد الزندي، فضلاً عن تزيين جدرانه وأروقته بقطع المرايا البراقة وزخارف ونقوش من الطلاء الزيتي الفاخر، وأما السقف فهو مشيد من الخشب وفيه نقوش هي الغاية في الروعة والجمال حيث تم تزيينه بنقوش الجبس الخلابة، وفي أطرافه دونت أشعار بخط نص التعليق الفارسي وهي فريدة من نوعها وجميلة للغاية.
في الطابق الأول من المبنى التراثي يوجد حوض ثماني الأضلاع ومزين بزخارف الفسيفساء الجميلة باللون الأزرق، والسقف من الخارج عبارة عن قبة فيها العديد من النوافذ، ويتضمن المبنى أربع غرف ملكية، والجدير بالذكر هنا أن أول بناء معمارياً في إيران تحت عنوان المباني التي يطلق عليها "كلاه فرنگي" قد تم تشييده في هذه الحديقة، لذا فهو ذو قيمة تأريخية كبيرة.
في الناحية الشمالية من حديقة "دلگشا" توجد حديقة صغيرة قد انفصلت عنها بسبب قيام بلدية المدينة بإنشاء شارع في ذلك المكان، واسمها حديقة "طاووس" لكن ليس فيها مبنى تراثي كالحديقة الأم، إلا أنها مليئة بالأشجار الباسقة المعمرة من الصنوبر والشربين والنخل إلى جانب الكثير من أشجار النارنج وسائر الحمضيات.
* متحف حديقة "دلگشا"
المبنى التراثي في حديقة "دلگشا" أصبح اليوم متحفاً تحفظ فيها مختلف القطعات الأثرية وعدد من أجهزة المذياع القديمة، وآثاره تضرب بجذورها في مختلف العصور التأريخية التي تسبق العهد الإخميني، كما فيه نسخة من القرآن الكريم يرجع تأريخ تدوينها إلى العهد السلجوقي على جلد غزال، وهي نسخة فريدة من نوعها، ناهيك عن وجود الكثير من المسكوكات النقدية والطوابع وعلب الكبريت وخرائط إيران تم نسخها في شتى العصور، أي منذ العهد السابق للعهد الإخميني وحتى العهد القاجاري.
جانب من المتحف تم تخصيصه لأجهزة المذياع القديمة، ويبلغ عددها 50 جهازاً ويرجع عهدها إلى الجيل الأول من تصنيعها، ومن بينها جهاز مذياع فريد من نوعه ولا نظير له حيث يعمل بالطاقة النفطية وقد تمت صناعته بأسلوب هندي خاص.