لعلّ فلسطين بحضارتها ومعاناة أهلها وخلود هويتها العربية كانت أبرز محاور الإبداع في تجربة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي فاضت روحه إلى السماء وبقي شعره يلهج بذكر فلسطين، ويستغيث الشعوب لنجدة أهلها.
هي فلسطين تاريخ طويل من النضال وإرث خالد من البطولات، وسجل ناصع للشهادة ، تتراكم عبر الشعر الذي قيل فيها معاناة الفلسطينيين وأحزانهم النبيلة، كما في قوله:
لك عندي كلمهْ
لم أقلها بعد،
فالظل على الشرفة يحتل القمرْ
وبلادي ملحمهْ
كنت فيها عازفاً .. صوت وترْ! ( ديوان محمود درويش، ص170).
يصدر محمود درويش في شعره عن رغبة واضحة، تشكّل مرتكزاً مهماً لفكره النضالي، وتقوم هذه الرغبة على تأصيل الاتّجاه المقاوم في الوجدان العربي، وصقله بالشخصية الفلسطينية، التي تنبعث في نصوص الشاعر نيران غضب في وجه المغتصب، وصرخة استغاثة للإخوة العرب، لذلك كان التأكيد على ثبات الهوية الفلسطينية في مواجهة سياسة التهويد، وسلب الحقوق التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني.
محمود درويش شاعر فلسطيني ثوريّ عشق فلسطين وعشقته، فهي الوطن والجرح الغائر في الجسد العربي رمز النهوض والمقاومة، فكان شعره في فلسطين شعر ثورة، وحكاية عشق ووطن لا تضعفه المحن. حبس في عينيه دمع العيد ليبكي فرح التحرير، وحمل قضية وطنه؛ ليُسمع العالم معاناة أهله، كما في قوله:
وإذا استرسلت في الذكرى!
نما في جبهتي عشب الندم
وتحسرت على شيء بعيدْ
وإذا استسلمت للشوق،
تَبَنَّيتُ أساطير العبيد
وأنا آثرت أن أجعل من صوتي حصاة
ومن الصخر نغم! ( ديوان محمود درويش، ص 168).
مَنْ يقرأ شعر محمود درويش يلمس حالة من النقاء الوطني والالتصاق بأرض فلسطين التي تحولت إلى لحن يعزفه الشاعر بأنغام الحزن الشفيف والأمل المكمم، يقاوم من خلاله كلّ حالات الألم والهزيمة ، حيث يقول مخاطباً معشوقته فلسطين:
عيونكِ شوكةً في القلبِ
توجعني.. وأعبدُها
وأحميها من الريحِ
وأغمدها وراء الليلِ والأوجاعِ.. أُغمدها
فيشعل جُرحُها ضوء المصابيحِ
ويجعل حاضري غدُها
أعزّ عليّ من روحي
وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعينِ
بأنَّا مرة كنّا ، وراء الباب، اثنينِ! ( ديوان محمود درويش، ص 41).
إنّ مهمة الشاعر واضحة في بعث روح المقاومة، وتأصيل أركانها، إذ يرسم صورة واضحة المعالم للشخصية الفلسطينية المستنيرة المقاومة، ذات الجذور الراسخة في التراب الفلسطيني، وإنسانه الطيّب.
ومحمود درويش بهذا الشعر المنتمي لفلسطين يسير على طريق الشعراء الفلسطينيين السابقين له أمثال: إبراهيم طوقان، وعبدالرحيم محمود، وعبدالكريم الكرمي، وغيرهم من الشعراء الملتزمين بقضايا وطنهم.
وهذا ما جعل من شعره مصدر رؤى وانبعاث لحالة تجدد ومقاومة لشعب لا يعرف سوى النهوض والنماء، يستمد عفويته من شعور فطري يجذبه لفلسطين منبع الحبّ الصافي والأم الحنون، الأمر الذي أحال شعره إلى مغناة وطن خالد، وحبّ لا ينتهي، كما في قوله:
أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يوم
وأعشقُ عمري لأني
إذا مُتُّ،
أخجلُ من دمع أُمي! ( ديوان محمود درويش، ص 49).
هكذا فهم محمود درويش العلاقة بفلسطين اتّحاد كامل بالتراب وحبّ لا ينضب لوطن يستحق التضحية والفداء، ممّا يعكس أهمية الذاكرة الشعريّة في صياغة الوجدان الشعري، واستحضار الأحداث بكلّ ما تحمل من قوة الحضور وفاعلية التأثير، كما في قوله:
وطني! يا أيها النسرُ الذي يغمد منقار اللهبْ
في عيوني،
أين تاريخ العرب؟
كلّ ما أملكه في حضرة الموت:
جبين وغضب.
وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرهْ
وجبيني منزلاً للقبَّرهْ
وطني، إنّا ولدنا وكبرنا بجراحك
وأكلنا شجر البلوط..
كي نشهد ميلاد صباحك( ديوان محمود درويش، ص 109).
ظهر محمود درويش في شعره الوطني ملتصقاً بوطنه العربي، فهو شاهد على انفعالاته الوطنية الصادقة وسند لفلسطين في محنتها، ممّا أكسب القضية الفلسطينية بعداً قوميّاً واضحاً، وجعلها قضية العرب الأولى في العصر الحديث.
وهذا جعل شعر محمود درويش يقوم بوظيفة إعلامية واضحة تنبه للخطر المحدّق بالعرب لاحتلال فلسطين ويدعو في الوقت نفسه إلى التحرير مستنداً إلى مقومات الأمة العربية، وإرثها الخصب، كما في قوله:
خُذوا حَذراً..
من البرق الذي صكَّته أُغنيتي على الصوَّانْ
أنا زينُ الشباب، وفارس الفرسانْ
أنا ومحطّم الأوثانْ
حدود الشام أزرعها
قصائد تطلق العقبان!
وباسمك، صحت بالأعداءْ:
كلي لحمي إذا ما نمت يا ديدانْ
فبيض النمل لا يلد النسور..
وبيضة الأفعى..
يخبئ قشرُها ثعبانْ!
خيول الروم..أعرفها
وأعرف قبلها أني
أنا زين الشباب، وفارس الفرسانْ! ( ديوان محمود درويش، ص 44).
يكثر في شعر محمود درويش تكرار المعشوقة فلسطين والحنين إليها، ممّا جعله مهتماً بالتفصيلات التي تبعث في نفسه الحياة، وتبدد اليأس من الصدور ، فكان تكرار وطنه فلسطين، وكلّ ما يتعلّق به تأكيداً على جريان دم لا يجف، وصورة لفلسطين الإنسان والمكان، حيث يقول:
ليذكر جيلُنا الآتي
مساربه إلى البيت!
فلسطينيةُ العينين والوشمِ
فلسطينيةُ الاسم
فلسطينيةُ الأحلام والهَمّ
فلسطينيةُ المنديل والقدمين والجسمِ
فلسطينيةُ الكلمات والصمتِ
فلسطينيةُ الصوت
فلسطينيةُ الميلاد والموت
حملتُكِ في دفاتري القديمةِ
نارَ أشعاري ( ديوان محمود درويش، ص 44).
الفلسطينية في النفوس، وتجعل من فعل التحرر أمراً واقعاً، إذ عمد الشاعر إلى رسم مشهدي للجرح الفلسطيني النازف، كما في قصيدته « يوميات جرح فلسطيني» التي يُهديها إلى الشاعرة الفلسطينية المعروفة فدوى طوقان، حيث يقول:
لم نكن قبلَ حزيرانَ كأفراخ الحمام
ولذا، لم يتفتَّتْ حبنا بين السلاسل
نحن يا أختاه، من عشرين عام
نحن لا نكتب أشعاراً،
ولكنا نقاتل ( ديوان محمود درويش، ص 165).
فجاء تحوّل الشاعر إلى فلسطين والانحياز للقضية الفلسطينية علامة فارقة في قصائده؛ لتبعث المقاومة ضد المحتلّ، وتؤكد أهمية الشعر الثوري في إنارة الطريق للأجيال والكشف عن نفس أبية لا تعرف الخنوع، كما في قوله:
آه يا جُرحي المكابر
وطني ليس حقيبهْ
وأنا لست مسافر
إنني العاشق، والأرض حبيبهْ! ( ديوان محمود درويش، ص 168).
أمّا القدس فتحتل مكانة دينية وتاريخية وروحية عميقة في قلب كلّ مسلم، وقد شكّل احتلالُها في العصر الحديث صدمةً وجدانيةً وحضارية قاسية للأمتين العربية والإسلامية، ممّا جعل الشعر الذي نُظم فيها يئن حزناً على ما آلت إليه الأمة، تسترجع من خلاله الذاتُ ماضيها في إطار معاناة حاضرها.
لقد اتخذت القدس في شعر محمود درويش أبعاداً مختلفة: دينية، وسياسية، وتاريخية، ووطنية، وقومية، وروحية وجدانية أبرز من خلالها محاور مهمة ترسّخ من مكانتها السامية، وتؤكد مسؤولية الدفاع عنها، ويتصل بذلك الدعوة إلى الوحدة العربية، وبيان خطر التهويد، فضلاً عن البعد الحضاري المتّصل بالعهدة العمرية ذات البعد المشرق للحضارة الإسلامية المتسامحة، كما في قوله:
في القدس، أُغني داخل السور القديم،
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى
تصوبني فإن الأنبياء هناك يقتسمون
تاريخ القدس يصعدون إلى السماء
ويرجعون أقل إحباطاً وحزناً ، فالمحبة
والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة. ( ديوان محمود درويش، ص 214).
والقدس في شعر محمود درويش مدينة عربية، تسمو على الجراح، وتنتشي بعنفوان تاريخها البطولي، لذلك جاء خطاب الشاعر إليها محملاً بروح النضال، والصمود، حيث حرص على بث الحياة في أرجائها، نظراً لما تمثله من رمز ديني عميق، ورغبة في تأكيد قدرتها على المقاومة، والصمود في وجه الاحتلال، حيث يقول:
هنا القدس
يا امرأة من حليب البلابل، كيف أعانق ظلّي..
وأبقى؟
خُلقتَ هنا .. وننامُ هناك
مدينة لا تنام وأسماؤها لا تدوم، بيوت تغيّر
سكانها والنجوم حصى
وخمس نوافذ أخرى، وعشر نوافذ أخرى تغادر
حائط
وتسكن ذاكرة.. والسفينة تمضي. ( ديوان محمود درويش، ص 218).
وتبقى القدس أم المدائن، وحالة عشق لا تقاوم، تفوح بعبق الإسلام، ورسالته السمحة وتكتنز بإرث الحضارة، تنبض بدم عروبي دافق، وتلهج بالرغبة الجامحة بالعودة إلى وطن الأجداد، كما في قوله:
ستعودون إلى القدس قريباً
وقريباً تكبرون
وقريباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضي
قريباً يصبح الدمع سنابل
آه يا أطفال بابل
ستعودون إلى القدس قريباً
وقريباً تكبرون (ديوان محمود درويش، ص 191).
إنّها ثقافة المقاومة وجذوتها الملتهبة التي تمنح الحرية والكرامة للشعوب، وتؤمن بمقدرات الأرض الحُبلى بالنضال، والمكتنزة بالإيمان بالنصر المحتوم، ترتدّ إلى جذر حضاري راسخ، وفعل إنساني معاصر، لا تحدّ منه قسوة الحياة، ولا تنال منه أيدي المحتلين.
لقد رحل محمود درويش تاركاً إرثاً خصباً من شعر ينير ظلمة الليل، ويلتحم بقضية الأمة العربية المصيرية دون تملق للشعوب، أو مهادنة للمحتلين، شعر ينبض بالحرية، ويزهر بأرجوان الشهادة.
بقلم : د. عماد عبدالوهاب الضمور
المصدر: جريدة الدستور