لأن هذه الممارسات والأقوال المنسوبة الى التشيع تتعارض ومقاصد الإصلاح والوعي في نهضة سيد الشهداء (ع)، وتتعارض أيضاً مع فتاوى المرجعية العليا وتوجيهاتها التي تصدرها للأمة عموماً، وخطباء المنبر والقائمين على الشعائر الحسينية خصوصاً، كما أنها تنفر الآخر الديني والمذهبي من التشيع، ومنها ما يقوم به هؤلاء التحريفيون من المجاهرة بالخرافة والبدع قولاً وسلوكاً، والغلو بأئمة أهل البيت، وسب الرموز المقدسة لدى المدرسة السنية، وكلها قراءات لاعلاقة لها بمدرسة آل البيت. والأكثر لفتاً للنظر؛ أن التحريفيين يزعمون أنهم يمثلون التشيع حصراً؛ ولكنهم بممارساتهم وأحاديثهم تلك يرتكبون ـ في آن واحد ـ جريمتين بحق التشيع:
الجريمة الأولى: يدعمون المذهب الوهابي التكفيري دعماً نوعياً، ويوسعون جغرافيته ودائرة تأثيره، ويعطونه أدلة ملموسة على مدعياته، ويزودنه بشحنات قوية تضاعف قدرته على استقطاب السنة. بل أن المغالين والتحريفيين والمبتدعة المحسوبين على مدرسة التشيع؛ يقدمون أدلة مجانية للمدرسة الوهابية؛ تضطر أهل ((السنة)) لتصديق مزاعم هذه المدرسة، وتدفع السنة للارتماء بأحضان العقيدة الوهابية التكفيرية. وليس عجيباً ـ حينها ـ أن لايرف جفن معظم السنة وهم يشاهدون المجازر التي يتعرض لها الشيعة في كل مكان؛ لأن المسوغات التي يسوقها الوهابيون التكفيريون تتناغم وعواطف أهل السنة، وهي مسوغات يقدمها بعض المغالين والمخرفين الشيعة.
الجريمة الثانية: تشويه عقيدة آل البيت وتلويث طهرها، وتضليل الشيعة وحرف مسار حركتهم الفكرية والميدانية، وطرح أفكار وسلوكيات تحت عنوان "العقيدة" و"الشعائر" و"المعاجز" و"الكرامات"، ولكنها تتعارض مع غايات الإسلام وتعاليم آل البيت ونهضة الإمام الحسين. وهنا يكمن التناقض العجيب؛ بين شعاراتهم الصارخة بالولاء لأهل البيت ومواساتهم والتأسي بهم، وبين أفكارهم وسلوكياتهم المتعارضة مع تعاليم أهل البيت ونهضة الإمام الحسين. فتعاليم أهل البيت تختصر العقيدة والأخلاق والحكمة والعقل والرشد والإصلاح والعلم والتحضر، وتتعارض كلياً مع الغلو والخرافة والجهل والبدع.
وكما انتهت كثير من الأفكار والسلوكيات المنحرفة في تاريخ مدرسة آل البيت الى مذاهب وفرق وأديان جديدة؛ فإن إصرار هؤلاء المغالين المخرفين على جهلهم وضلالهم وبدعهم؛ سينتهي بهم الى مذاهب وفرق متباينة مع مدرسة آل البيت؛ كما حصل مع العلي اللهية ومدارس الغلو تاريخياً، أو ماحصل في القرون الأخيرة مع العبيدية والدراويش والبابية والبهائية والسلوكية وغيرهم.
بيد أن الأخطر من ذلك هو أن تنتج عن عمليات التجهيل والاستغفال والابتداع والتخريف؛ عقيدةً وسلوكاً يخطفان عنوان التشيع بمرور الزمن؛ بينما يتحول دعاة الوعي والإصلاح الى ضالين مضلين من منظار من يريد اختطاف التشيع. ومن المؤشرات التمهيدية لهذا الإختطاف هو أن مدارس التجهيل والتخريف والاستغفال هي الأكثر امتلاكاً للأبواق ووسائل التعبير؛ بدءاً بالمؤسسات والجمعيات، والمدارس والمنابر، والقنوات التلفزيونية، وانتهاءً بالجماعات السياسية ومجموعات الضغط الاجتماعية والأموال الطائلة. بل استطاعت مدارس التجهيل هذه اختطاف مساحات مهمة من الشارع الشيعي؛ من خلال تسخير كل ألوان الجذب التي تستقطب عواطف الناس وأسماعهم وأبصارهم.
ومما يؤسف له أن بعض الخطباء و(الرواديد) المغالين والمحرفين الذين ظهروا خلال العقدين الاخيرين؛ ولاسيما في العراق؛ لايراعون أدنى مصلحة التشيع ولا يشخصون المقام الذي ينبغي أن يقع فيه المقال، ولايحترمون عقول مستمعيهم. وهم بذلك يستبيحون منبر أهل البيت ويحولوه الى منبر للضلال والغلو والإنحراف وتشويه صورة مذهب أهل البيت، أو منبر للتحليل السياسي وفرض المواقف السياسية على المستمعين؛ وفقاً للتوجه السياسي للخطيب او الرادود؛ فهناك من يترحم على صدام ويدعو للثورة ضد الحكم الحالي، ومنهم من يرجّح حزب على آخر، ومنهم من يشتم حزباً ويمتدح آخر، ومنهم من يشرح مواقفه من السياسة الاقليمية والدولية، ومنهم من يمتدح الحكم الحالي ويعدد انجازاته.
وبالنتيجة يظهر بعض الخطباء وكأنه متخصص في كل الشؤون والعلوم؛ من السياسة الى الطب، ومن الاقتصاد الى الفيزياء النووية، ومن القانون الدستوري الى النظرية النسبية. والحال أن كثيراً منهم لم ينه سطوح العلوم الحوزوية ولم يتخرج من الثانوية.
إن المحرفين والمخرفين والمغالين والمسيسين؛ سواء كانوا جهلة أو مغفلين أو مدفوعين؛ هم مصداق ((عدو نفسه))، وهم الـ ((شَين)) كما يصف الإمام الصادق بعض الشيعة بخطابه: (( كونوا زيناً لنا ولاتكونوا شيناً علينا ))
د. علي المؤمن