البرعم الزكيّ
أبوه: الإمام أبو عبدالله الحسين سيّد شباب أهل الجنّة، وسيّد الشهداء، وهو وأخوه الإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام « أبناءَنا » في آية المباهلة، وهما وأبوهما أمير المؤمنين عليّ وأمهما سيّدة نساء العالمين مَن نزلت فيهم آيةُ التطهير (1)، وآية المودّة (2).. وجملة من الآيات الشريفة، كما جاءت فيهم مَجاميعُ حديثيّة مباركة تعرّف بفضائلهم.
وأُمّه: الرَّباب بنت امرئ القيس بن عَدِيّ بن أوس بن جابر.. التي يقول فيها الإمام الحسين عليه السّلام:
لَعَمْرُكَ إنّني لأُحِبُّ داراً تَحِلُّ بها سكينةُ والرَّبابُ
أُحِبُّهما، وأبذلُ جُلَّ مالي وليس لعاتبٍ عندي عِتابُ
وكان امرؤ القيس ( والد الرباب ) قد زوّج ثلاث بناته في المدينة من: أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السّلام، فكانت الربابُ عند الحسين عليه السّلام، فولدَتْ له: سكينة، وعبدَالله هذا الذي وُلد في المدينة (3).
وقد أخذ الإمام الحسين عليه السّلام ـ لحكمةٍ ألهما الله تعالى أيّاها ـ طفلَه الرضيع إلى أرض الطفّ بكربلاء، ليكون أحدَ المظلومين المقتولين مفطوماً بسهم الحقد الأمويّ على البيت النبويّ، وليكون أحدَ أعلام الشهداء في ملحمة يوم عاشوراء العظمى.
الشهادة.. في صورها
نُقِلت شهادة عبدالله الرضيع صلوات ربّنا عليه في صورٍ عديدة مِن جوانب مختلفة على نحو التفصيل تارةً والاختصار أخرى، من مشهدٍ واحد، نتبيّنها في مصادرها الواردة عن مشارب متعدّدة.
في ( بحار الأنوار 46:45 ـ 47 ) للشيخ المجلسيّ:
• لمّا فُجِع الحسينُ بأهل بيتهِ ووَلَده ( أي عليّ الأكبر عليه السّلام )، ولم يَبقَ غيرُه وغير النساء والذَّراري، قال: هل مِن ذابٍّ يَذُبّ عن حرم رسول الله ؟ هل مِن مُوحِّدٍ يخاف اللهَ فينا ؟ هل مِن مُغيثٍ يرجو اللهَ في إغاثتنا ؟
وارتفعت أصواتُ النساء بالعَويل، فتقدّم عليه السّلام إلى باب الخيمة فقال: ناولوني عليّاً ابني الطفل ( هو الاسم الآخر لعبدالله الرضيع ) حتّى أُودِّعه. فناولوه الصبيّ.
قال المفيد: دعا ابنَه عبدَالله (4)، ثمّ جلس الحسين عليه السّلام أمام الفسطاط فأُتيَ بابنه عبدِالله بن الحسين عليه السّلام وهوطفل، فأجلَسَه في حِجْره، فرماه رجلٌ من بني أسد بسهمٍ فذَبَحه، فتلقّى الحسينُ عليه السّلام دمَه في كفّه، فلمّا امتلأ كفُّه صَبَّه في الأرض ثمّ قال: يا ربّ، إن يكنْ حَبَسْتَ عنّا النصرَ من السماء، فاجعلْ ذلك لِما هو خيرٌ منه، وانتقِمْ لنا مِن هؤلاء القوم الظالمين. ثمّ حَمَله.. حتّى وضَعَه مع قتلى أهل بيته (5).
• وفي ( اللهوف في قتلى الطفوف 50 ـ 51 ) للسيّد ابن طاووس، هذا النصّ:
ولمّا رأى الحسينُ عليه السّلام مَصارعَ فِتْيانهِ وأحبّته، عَزَم على لقاء القوم بمهجته... فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوِليني ولدي الصغير حتّى أُودّعَه. فأخذه وأومأ إليه ليقبّله، فرماه حرملةُ بن الكاهل الأسديّ لعنة الله تعالى عليه بسهمٍ فوقع في نحره، فذبحه. فقال لزينب: خُذيه. ثمّ تَلقَّي الدم بكفَّيه، فلمّا امتلأتا رمى الدمَ نحو السماء، ثمّ قال: هَوّنَ علَيّ ما نزلَ بي أنّه بعين الله. قال الباقر عليه السّلام: فلم يَسقُطْ من ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض.
• وكتب أبو الفَرَج الإصفهانيّ في ( مقاتل الطالبيّين 59 ـ 60 ):
كان عبدالله بن الحسين يومَ قُتل صغيراً، جاءتْه نشّابة وهو في حِجْر أبيه فذَبَحتْه. حدّثني أحمد بن شبيب قال: حدّثنا أحمد بن الحرث، عن المدائنيّ، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: دعا الحسين بغلامٍ فأقَعَده في حِجْره، فرماه عُقْبة بن بِشْر، فذبحه.
حدّثني محمّد بن الحسين الأشنانيّ، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب قال: أخبرنا مورع بن سُوَيد بن قيس قال: حدّثنا مَن شَهِد الحسينَ قال: كان معه ابنُه الصغير، فجاء سهمٌ فوَقَع في نَحره. قال: فجعل الحسينُ يأخذ الدمَ مِن نحره ولَبَّته فيرمي به السماء.. فما يَرجع منه شيء، ويقول: اللّهمّ لا يكون أهونَ عليك مِن فَصيلِ ناقةِ صالح.
• وكتب الشيخ السماويّ في ( إبصار العين في أنصار الحسين عليه السّلام 24 ):
قال المسعوديّ ( صاحب مروج الذهب )، والإصبهانيّ ( صاحب مقاتل الطالبيّين )، والطبريّ ( المؤرّخ ).. وغيرهم، أنّ الحسين لمّا آيس مِن نفسه، ذهب إلى فُسطاطه فطلَبَ طفلاً له ليودّعه، فجاءته به أُختُه زينب، فتناوله من يدها ووضعه في حِجْره.. فبينا هو ينظر إليه إذ أتاه سهمُ فوقع في نحره فذبحه. قالوا: فأخذ دمَه الحسينُ عليه السّلام بكفّه، ورمى به إلى السماء وقال: اللهمّ لا يكن أهونَ عليك من دمِ فَصيل، اللهمّ إن حَبَستَ عنّا النصرَ مِن السماء، فاجَعْل ذلك لِما هو خيرٌ لنا، وانتَقِمْ لنا من هؤلاء الظالمين؛ فلَقَد هَوَّن ما بي أنّه بعينك يا أرحم الراحمين..
ثمّ إنّ الحسين عليه السّلام حَفَر له عند الفُسطاط حَفيرةً في جَفنِ سيفه، فدفَنَه فيها بدمائه، ورجع إلى موقفه.
• ودوّن السيّد إبراهيم الميانجيّ في ( العيون العبرى في مقتل سيّد الشهداء 172 ـ 173 ):
وفي ( التذكرة ) قال هشام بن محمّد:... فالتَفَت الحسينُ عليه السّلام فإذا طفلٌ له يبكي عطشاً، فأخذه على يده وقال: يا قوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل. فرماه رجلٌ منهم بسهمٍ فذبحه.
لهفَ نفسي على الرضيعِ الظامي فَطَمـتْـه السِّـهامُ قَبـلَ الفِطامِ
فجعلَ الحسين عليه السّلام يبكي ويقول: اللهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ دَعَونا لِينْصرونا، فقتلونا! فنُودِيَ من
الهواء: دَعْهُ فإنّ له مُرضعاً في الجنّة.
مهـمـا نَسِـيتُ فـلا أنسَـى وقـد كَـرَّتْ على قَتْلهِ الأفـواجُ والـزُّمَـرُ
كـم قـامَ فيهم خطيبـاً مُنـذِراً وتَـلا آيـاً فـمـا أغَنَتِ الآيـاتُ والـنُّـذُرُ
دَعَوتُموني لنصـري.. أينَ نُصرُكمُ ؟! وأين ما خَطّتِ الأقـلامُ والـزُّبُـرُ ؟!
هل مِن راحمٍ يرحمُ الطفلَ الرضيعَ وقد جَفّ الرَّضـاعُ وما للطفلِ مُصطَبَرُ ؟!
وعن ابن نَما ( في مثير الأحزان ) أنّه عليه السّلام حمله فوضعه مع قتلى أهل بيته.
وفي ( الاحتجاج ـ للطبرسيّ أبي عليّ أحمد بن منصور ) أنّه لمّا بقيَ فرداً ليس معه إلاّ ابنه عليٌّ زين العابدين وابنٌ آخر في الرضاع اسمه عبدالله، تقدّم إلى باب الخيمة وأخذ الطفلَ ليودِّعه، فجعل يقبّله ويقول: يا بُنيّ، ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كا خصمَهم محمّدٌ صلّى الله عليه وآله! فإذا بسهمٍ قد أقبَل حتّى وَقَع في لَبّة الصبيّ فقتله، فنزل عن فَرَسه وحَفَر للصبيّ بجَفنِ سيفه، ورَمَّله بدمِه ودَفَنه.
وفي ( مطالب السَّؤول ـ لمحمّد بن طلحة الشافعيّ ): وصلّى عليه ودفنه، وقال هذه الأبيات:
كفَرَ القومُ وقُدْماً رَغِبوا...
• وأخيراً مع السيّد عبدالرزّاق الموسويّ المقرّم في كتابه ( مقتل الحسين عليه السّلام 272 ـ 273 ) وهو يُفرد عنواناً لعبدالله الرضيع ليرويَ على ـ نحو تحقيقيّ ـ مصرعَه المفجِع، فيكتب:
ودعا ( الحسينُ عليه السّلام ) بولدِه الرضيع يُودّعه، فأتَتْه زينبُ بابنه عبدالله (6)، وأمُّه الرَّباب، فأجَلَسه في حِجْره يقبّله (7) ويقول: بُعْداً لهؤلاء القومِ إذا كانَ جَدّك المصطفى خصمَهم (8). ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حَرمَلة بن كاهل الأسديّ بسهمٍ فذبحه، فتلقّى الحسينُ الدمَ بكفّه ورمى به نحو السماء.
قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: فلم تَسقُط منه قطرة (9). وفيه يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فَرجَه: السلام على عبدالله الرضيع، المرميِّ الصَّريع، المُتَشحّطِ دماً، والمُصْعَدِ بدمهِ إلى السماء، المذبوحِ بالسهمِ في حِجْرِ أبيه، لعَنَ اللهُ راميه « حرملةَ بنَ كاهلٍ الأسديّ » وذويه (10).
ورُبَّ رضـيعٍ أرضـعَتْـه قِسِـيُّـهم مِـن النَّبلِ ثَدْيـاً دَرُّهُ الثَّـرُّ فـاطِمُـهْ
فلَـهْفي لـه مُـذْ طَوَّقَ السَّـهْمُ جِيـدَهُ كمـا زَيَّنَـتْـه قَـبـلَ ذاك تَمـائمُـه
هفـا لِعِنـاقِ السِّـبطِ مُبتسِـمَ اللُّمـى وَداعـاً.. وهل غيـرُ العِناقِ يُلائمُه ؟!
ولَهْفـي على أمِّ الـرضيِع وقـد دَجـا عليها الدُّجى، والـدَّوحُ نادَت حَمـائمُه
تَسَلّلُ فـي الظلمـاءِ تَرتـادُ طفـلَـها وقـد نَجمَتْ بيـن الضحـايا عَلائمُـه
فمُـذْ لاحَ سَهْـمُ النَّحـرِ وَدّتْ لَوَ آنّها تُشـاطِرُهُ سهمَ الـردى وتُسـاهُـمـه
أقَـلَّـتْـهُ بالكـفَّيـنِ تَـرشفُ ثَغـرَهُ وتَلثِـمُ نَحْـراً قَبْلَها الـسَّـهمُ لا ثِمُـه
بُنـيَّ أفِقْ مِن سكرةِ المـوتِ وارتَضِعْ بثَدْيَيكَ.. عَـلَّ القـلبَ يَهـدأ هـائمُـه
بُنـيّ لقـد كنتَ الأنيـسَ لـوحشـتيوسَلوايَ إذْ يَسطو مِن الهَمّ غاشِمُه (11)
ثمّ قال الحسين عليه السّلام: هَوَّن ما نزل بي أنّه بعينِ الله تعالى (12)، اللّهمّ لا يكون أهونَ عليك مِن فَصيل. إلهي، إن كنتَ حَبَستَ عنّا النصر، فاجعلْه لِما هو خيرٌ منه، وانتقِمْ لنا من الظالمين (13)، واجعَلْ ما حَلّ بنا في العاجل، ذخيرةً لنا في الآجِل (14). اللّهمّ أنت الشاهد على قومٍ قتلوا أشبَهَ الناس برسولك محمّدٍ صلّى الله عليه وآله (15).
وسَمِع عليه السّلام قائلاً يقول: دَعْه يا حسين؛ فإنّ له مُرضعاً في الجنّة (16).
قمّ نزل عليه السّلام عن فرس، وحَفَر له بجَفنِ سيفه، ودَفَنه مُرمَّلاً بدمه وصلّى عليه (17). ويقال: وضعه مع قتلى أهل بيته (18).
لهـفي عليـهِ حامـلاً طِفـلَـهُ يَستَسقي مـاءً مِـن عِـداهُ لَـهُ
فبَعضُهم قـد قـالَ: رِفقـاً بـ هوبَعـضُهم قـالَ: اقطَعوا نَسْـلَهُ
لمّـا رأى حَـرملةٌ مـا جـرى أرسـلَ قـبـلَ قـولِـهم فِعـلَهُ
أهَـلْ درى حَرملـةٌ مـا جنـى أم هل درى ما قد جنى، وَيْلَهُ ؟!
سـهمٌ أصـابَ نحـرَه.. لَيتَـهُ أصـابَ نحـري لَيتَـهُ قـبَلـهُ
أمُّ الـذَّبيحِ مُـذْ رأتْ طِفـلَـها يَضرِبُ مِن حَـرِّ الظَّمـا رِجْلَهُ
سبعـةَ أشـواطٍ لـه كـابـدَتْ وهْـيَ تـرى ممّـا بـه مِثْلَـهُ
وأمُّ موسـى مُـذْ رأتْ طفلَـها فـي اليَمِّ قـد ظَنَّتْ بـه قَتْلَـهُ
هـذا سَـقـاهُ اللهُ مِـن زمـزمٍ وفَـرعُ هـذا قـد رأى أصـلَهُ
أيـنَ ربـابٌ منهمـا مُـذْ رأتْ رَضيعَها... فيضُ الـدِّمـا بَلَّهُ!
تقـولُ: عبدُالله يَقـضي ظَمـىً والمـاءُ يجـري طاميـاً حَولَهُ!
كنتُ أُرجّـي لـي عـزاءً بـهِ مـا كنتُ أدري أن أرى ثُكْـلَهُ