مَن يكون هذا الشهيد ؟
هو بِشْر بن عمرو بن الأحدوث الحضرميّ الكِنديّ، من حضرموت وعِداده في كِندة (1)، كان تابعيّاً، وله أولادٌ معروفون بالمغازي (2).
موقف شامخ
كان بِشر ممّن جاء إلى الإمام الحسين عليه السّلام أيّامَ المُهادَنة، فالتحق بالركب الحسينيّ ليجاهد بين يَدَي سيّد شباب أهل الجنّة سلام الله عليه على ساحة كربلاء.
وإذا كان لأصحاب الإمام الحسين صلوات الله عليهم مواقفهمُ المشرِّفة، وثباتُهم وعزمهم على نُصرة إمام زمانهم، فِلبِشر موقفه الشامخ أيضاً.
فقد جمع الإمام الحسين عليه السّلام أصحابه قبيلَ ليلة عاشوراء، ثمّ قال لهم: هذا الليلُ قد غَشِيَكم فاتَّخِذوه جَمَلاً.. ذَرُوني وهؤلاءِ القوم؛ فإنّهم لا يريدون غيري. ( وفي رواية قال لهم: جزاكمُ الله جميعاً خيراً.. تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لَذهِلوا عن طلب غيري ) (3).
فما كان من الأصحاب إلاّ أن أبَوا إلاّ الشهادة بين يَدَي سيّد الشهداء عليه السّلام، حتّى قال زهير بن القَين له: واللهِ، وَدِدتُ أنّي قُتِلتُ ثمّ نُشِرت، ثمّ قُتلت.. حتّى أُقتلَ كذا ألفَ مرّةَ، وأنّ الله عزّوجلّ يدفع بذلك القتلَ عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفِتيان من أهل بيتك. وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضُه بعضاً، فجزّاهمُ الحسينُ خيراً (4).
وفي تلك الحال، قيل لبِشر بن عمرو الحضرميّ: إنّ ابنك عَمراً قد أُسِر بثغر الريّ. فقال: عند الله أحتسبُه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يُؤسَرَ وأنا أبقى بعده. فسمع الإمامُ الحسين عليه السّلام مَقالتَه، فقال له: رحمك الله، أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاذهَبْ واعملْ على فَكاك وَلَدِك. فأجابه بِشر بقوله: لا واللهِ لا أفعل ذلك، أكلَتْني السباعُ حيّاً إن فارقتُك يا أبا عبدالله! فقال عليه السّلام له: إذاً أعْطِ ابنَك هذه الأثوابَ الخمسة ليعملَ في فَكاك أخيه. أو قال عليه السّلام له: فأعطِ ابنَك هذه الأثوابَ البُرود يستعين بها في فداء أخيه. فأعطاه عليه السّلام خمسةَ أثوابٍ قيمتُها ألف دينار (5).
ونقرأ في زيارة الإمام المهديّ المنتظر صلوات الله عليه وعلى آبائه لشهداء الطفّ هذا المقطع الشريف، حيث يتوجه عليه السّلام إلى هذا الشهيد فيقول:
السّلام على بِشرِ بن عُمَر الحَضْرميّ، شكَرَ اللهُ قولَك للحسين ـ وقد أذِنَ لك في الانصراف: أكلَتْني إذَنِ السِّباعُ حيّاً إنْ فارَقْتُك وأسألُ عنك الرُّكْبان، وأخْذُلُك مع قلّةِ الأعوان، لا يكونُ هذا أبداً! (6)
الشهادة هي المُنى
وكان يوم عاشوراء.. فتقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين عليه السّلام بسهم وقال: اشهَدوا لي عند الأمير أنّي أوّلُ مَن رمى! ثمّ رمى أصحابه.. فأقبَلَت السهامُ منهم على الحسين وأصحابه كأنها القَطْر (7)، فلم يَبقَ أحدٌ إلاّ اصابه سهمٌ من سهامهم (8)، فنادى الإمام الحسين سلام الله عليه بأصحابه: قوموا ـ رحمكمُ الله ـ إلى الموت الذي لابدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رسُلُ القوم إليكم (9).
قال أبو مخنف: وحمل القوم بعضُهم على بعض، واشتدّ بينهم القتال، فصبر لهم الحسين عليه السّلام وأصحابه.. حتّى انتصف النهار (10).
وفي البحار: ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة، فثبتوا له وقاتلهم أصحاب الحسين عليه السّلام قتالاً شديداً وإنّما هم ( أي أصحاب الحسين عليه السّلام ) اثنان وثلاثون فارساً، فلا يحملون على جانب مِن أهل الكوفة إلاّ كشفوهم... وقاتلوهم حتّى انتصف النهار (11).
وفي الإرشاد: حمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحاب الحسين عليه السّلام فيمَن كان معه مِن أهل الكوفة، فلمّا دنا من أصحاب الحسين عليه السّلام جَثَوا على الرُّكَب وأشرعوا بالرماح نحوهم فلم تَقْدِم خيلُهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقهم أصحاب الحسين عليه السّلام بالنَّبل، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهم آخرين (12).
واشتدّ القتال.. ولم يَقْدر أصحابُ عمر بن سعد أن يأتوا عسكرَ الإمام الحسين عليه السّلام إلاّ من جانبٍ واحد، لاجتماع خيامهم وتقارب بعضها مِن بعض، فأرسل عمر رجالاً ليقوّضوا الخيام ويحيطوا بها، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين عليه السّلام يتخلّلون فيشدّون على الرجل يعرض وينهب، فيرمونه عن قريبٍ فيصرعونه. فلمّا رأى عمرُ بن سعد ذلك، صاح بأصحاب: أحرقوها بالنار. فأمر بإضرام الخيام، إلاّ أن الإمام الحسين عليه السّلام قال لأصحابه: دَعُوهم يُحرقوها؛ فإنّهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم. فكان كما قال عليه السّلام.
وحمل شمرُ بن ذي الجوشن حتّى طَعَن فسطاط الحسين عليه السّلام، ونادى: علَيّ بالنار؛ لأُحرق بيوت الظالمين! فحمل عليه اصحاب الحسين عليه السّلام حتّى كشفوه عن الخيمة، فناداه الحسين سلام الله عليه: وَيْلَك يا شِمر! تُريد أن تحرقَ خيمةَ رسول الله ؟! قال شمر: نَعَم. فرفع الإمام الحسين عليه السّلام طَرفَه إلى السماء وقال: اللهمّ لا يُعجزُك شمرٌ أن تُحرِقَه بالنار يومَ القيامة. فغضب شمر وصاح بأصحابه: احملوا عليهم حملة رجلٍ واحد، وأفنُوهم عن آخرِهم!
واقتتلوا ساعةً.. فصار أصحاب الحسين عليه السّلام بين جريحٍ وطريح.. وكانت غبرةٌ، ما انجلَتْ إلاّ عن خمسين صريعاً شهيداً (13).
أما بِشر بن عمرو الحضرميّ.. فيذكر ابنُ شهرآشوب السَّرَويّ المازندرانيّ أنّه قُتل في الحملة الأولى (14)، وقيل: بِشر هو أحد آخِر رجلَين بقيا من أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام قبل أن يَقعَ القتلُ في بني هاشم، والآخَرُ هو سُوَيد بن عمرو بن أبي المُطاع (15).
فسلامٌ عليك يا بِشرُ في الشهداء الطيّبين،
والأصحاب الأوفياء المخلصين،
والمؤمنين الصالحين.