عدد من القيادات والشخصيّات السياسيّة يتعاطون مع قضيّة زيارة بعض الوزراء إلى سوريا بفكر مغلق وغير منفتح على أرض الواقع وبحدّ أدنى لا يستنبط من أرض الواقع المعطيات الواقعيّة للتطورات بالنتائج والمعاني بروح براغماتية تؤهّله وتسمح له بالانفتاح والتواصل بعقلانيّة مجرّدة.
أوساط سياسيّة توقفّت عند بعض التصاريح وتساءلت عن أسبابها، في لحظة حبلى بالحسم الميدانيّ اللبنانيّ-السوريّ على السواء بحرب لا هوادة فيها على الإرهاب، وتحمل لسوريا ولبنان وعموم المشرق مفاهيم تكوينية جديدة بأسس تعزّز قيمة المشاركة الفعالة وترسّخها بين الشرائح والمكونات كلّها في بنية النظام السياسيّ سواء في سوريا بالتحديد وللبنان حصة أساسيّة لا سيّما إذا ما اتجه تحو الانتخابات النيابيّة في موعدها المحدّد.
تلك التصاريح الصادرة عن رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع أو عن تيار المستقبل ببعض رموزه، تحتاج وبحسب الأوساط عينها إلى فهمها من مصدرها ولا يتم بتأويلها. ذلك أن ثمّة فريقًا سياسيًّا في لبنان لا يزال يستلذّ السكنى في الحروفيّة-الماضويّة، ولا يستطيب الاستكانة والاستواء في جوهر الرؤية الاستراتيجيّة المرسومة للمنطقة، واستقراء عناوينها بفهم ودقّة، وتشريحها في مختبر مجهّز بالمجاهر الكاشفة والمستخرجة للعناصر المكوّنة لها، ومعرفة اتجاهاتها ليصار فيما بعد إلى عرضها وشرحها وتوضيحها للناس.
تقول تلك الأوساط وبناء على معطيات، بأن زيارة الوزراء إلى سوريا تنتميّ بعمقها إلى هذه الاستراتيجيّة بدقتها ومعانيها ومن ثمّ تعبّر عنها. وتكشف الأوساط بأنّ فحوى هذه الاستراتيجيّة التي وافق عليها الأميركيون سواء على مضض أو على قناعة، مكوّنة من شقين:
1-الشقّ الأول عنوانه استكمال الحرب على الإرهاب باقتلاعه من جذوره. لقد أجمعت معظم الدول المعنية بالحرب في سوريا وعليها بأنّ استمرار تلك المنظمات التكفيريّة على غيّها قد أمسى خطيرًا على الأمن العالميّ برمتّه وبكلّ معاييره ومستوياته، فلا بدّ إذًا من القضاء عليها. لقد تمّ الاتفاق بين هذه الدول بأن الطريقة الفضلة أن يتولّى الجيش السوريّ بقيادة الرئيس بشار الأسد القضاء على تلك التنظيمات بمؤازرة من حزب الله والجيش الروسيّ وإيران.
2-الشقّ الثاني وعنوانه الانطلاق نحو التسوية السياسيّة، لم يتوقف الاتفاق عند هذا البند فقط، بل انتهى إلى ترسيم أوليّ للتسوية السياسيّة، جوهرها بأنّ التسوية في سوريا تتضمّن بقاء الرئيس الأسد على رأس السلطة وتأليف حكومة جديدة برئاسة شخصيّة سنيّة معتدلة بمشاركة كلّ الفئات في سوريا، وكل هذا ينطلق بدوره من كتابة دستور جديد مع انتخابات جديدة لمجلس الشعب. ما يهمّ واقعيًّا، وفي هذا الشقّ بأن الحلّ السياسيّ لن يكون بمعزل عن رئاسة بشار الأسد، وسينساب إلى لبنان بتعزيز موقع الرئاسة مع العماد ميشال عون ويتجسّد أكثر فأكثر بالتحالفات وهي فحوى الانتخابات في الربيع المقبل.
تأتي هذه الزيارة لتؤكّد بواقعية مطلقة بأنّ لبنان بفعل تلك التطورات الجديدة لا يستطيع ان يعزل نفسه عن سوريا، ولا تستطيع سوريا ان تعزل نفسها عن لبنان. فالتكاملية بين البلدين يفرضها التلاصق الجغرافيّ بمساحته الواسعة، كما يفرضها النسيج الاجتماعي والروحيّ حيث البلدان مؤسسان عليه. تنطلق الأوساط من هذه الرؤية لتؤكّد على سبيل المثال لا الحصر، بأنّ معركة الجرود في عرسال وصولاً إلى جرود فليطا وجبال القلمون لم يخضها حزب الله فقط لوحده، بل خاضها إلى جانب الجيش السوري في القسم السوريّ، والجيش اللبنانيّ كان داعمًا ومؤازرًا بقوة من خلال إغلاق الحدود وتكثيف القصف المركّز على مواقع مسلحي جبهة النصرة. ومعركة الجرود أي رأس بعلبك والقاع وصولاً إلى القسم السوريّ، لن يخوضها الجيش اللبنانيّ لوحده وقد بدأت رياحها تهبّ بعملية عسكرية على مواقع لـ «داعش»، بل بمؤازرة حزب الله والجيش السوريّ في القسم السوريّ. يدلّ كلّ هذا وبحسب ما بينته الأوساط السياسيّة بأنّ التكامل بين لبنان وسوريا راسخ ويجب أن يترجم «ويقرّش» بخصوص مسألة النازحين السوريين ومسألة عودتهم إلى سوريا. وتقول المعطيات بأن السوريين لم يشترطوا على اللبنانيين بأن حلّ النازحين محصور بالتواصل بين الحكومتين اللبنانية والسوريّة، والا فليبقوا في لبنان، والحكومة السورية تعارض بشدّة مبدأ اندماج النازحين السوريين في لبنان، الوارد في وثائق الأمم المتحدة ومذكراتها، فديمومة هذا المبدأ وتفشيه يشي بأنّ المجتمع الدوليّ غير جديّ برسم الحلّ السياسيّ في سوريا. إن تطويق فكرة الاندماج لا يتمّ إلاّ بتجذير التواصل بين الحكومتين اللبنانية والسورية، وبتثمير التنسيق لانتقال هؤلاء بسلاسة وسلامة إلى أماكنهم وقراهم ومدنهم.
مصدر سياسيّ كشف عن ايقاعين مختلفين:
1-إيقاع الصراع السعوديّ-القطريّ، وهو وبحسب ما يظهر اللبنة الأولى لتمزّق سنيّ بنيويّ ضمن دائرة الخليج (الفارسي)، وهو منعكس في الداخل السعوديّ توتّرًا بفعل التغييرات الجذريّة وكلّ هذا قد تمّ وبتدخل أميركي منه ما هو مباشر ومنه ما هو غير مباشر. وهذا الصراع بدوره غير بعيد عن جوهر الأزمة السعوديّة-الإيرانيّة والتي لا تزال تنعكس صراعًا شديدًا بين الشيعة والسنّة في الخليج (الفارسي) أيضًا وقصف العوامية من قبل الجيش السعوديّ يشي باستعار هذه المسألة.
2-إيقاع الحسم السريع في سوريا وفيه سيتمّ ربط الحدود ببعضها، وتقول معلومات هذا المصدر بأنّ الحسم سيلج النهاية في أواخر سنة 2017 لتنطلق سنة 2018 في رسم الحلّ السياسيّ المنتظر، وأخذ سوريا نحو ورشة إعمار ستكلّف بحدود 1300 مليار دولار أميركيّ.
شخصية مسيحية قريبة من جبهة الممانعة وجهت «رسالة محبة» الى شخصية مسيحية قريبة من القوات اللبنانية خلال عشاء جمعهما فحواها قراءة توازي بين الايقاعين الآنف ذكرهما في المنظور الاميركي قبل المنظور الروسي - الايراني ليتبيّن، بأنّ الأميركييين وإن كانوا لا يتلاقون مع إيران في العقيدة والسياسة، غير أنّهم ليسوا متنكرين للدور الإيرانيّ المتوازن في المنطقة، وهم متيقنون بأنّ السعودية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول من سنة 2001، ما كانت لتحدث لو لم تكن الاستخبارات السعودية خلفها، وإن «القاعدة» وما تفرّع عنها من تنظيمات تكفيرية صناعة سعودية، والإسلاموفوبيا برمته انطلق من تمويل وتفعيل سعوديّ وهابيّ، والانتشار الإسلاميّ في أوروبا بدوره مموّل من السعوديين. وتكشف تلك الشخصية بناء على معلومات بأن الأزمة في الخليج (الفارسي) ستسرّع في وتيرة الحلول من خلال تقديم التنازلات لمصلحة وجود دولتين إسرائيليّة وفلسطينيّة، وإضعاف سنّة الخليج (الفارسي) سيكون لمصلحة إيران، كما أن الحلّ في سوريا سيكون لمصلحة إيران وروسيا.
وانطلقت الشخصيّة من هذا المعطى اليسير والشفاف بحركته إلى علاقة المسيحيين اللبنانيين بهذا الواقع، وأوضحت ما يلي: إنّ مسيحيي لبنان معنيون بالدرجة الأولى بتلك التحولات، وهم معنيون أكثر من خلال إجراء قراءة متأنية وغير متسرعة لكلّ الوقائع ودرس انسكابها وانصبابها ولأي اتجاه هي منطلقة. وتساءل هل مصلحة المسيحيين في لبنان أن يبقوا متصلبين كما تصلّبوا سنة 1988 تجاه مقررات اجتماع مورفي-الأسد التي انتهت إلى ترشيح ميخائيل الضاهر لرئاسة الجمهوريّة، فاختاروا الفوضى ووصلوا نحو الخراب والفراغ بعدما تصادموا وتمزقوا ليخسروا معظم الأوراق التي كانت في يدهم والامتيازات والصلاحيات الرئيسيّة التي كانت واردة في دستور 1926 قبل ان يتمّ تعديله سنة 1991، أو أن يقرأوا الأمور ويتعاطوا معها بمرونة براغماتية تسمح لهم بالاندراج ونيل المكاسب الممكنة سيّما وأنّ الحلّ في سوريا قد بدأت تتوضّح ملامحه؟
تلقت الشخصية الثانية المقربة من القوات هذا المعطى واعتبرت بأنّ ما يحدث قد يخدم الأسد لمرحلة وجيزة ولكن ليس لمرحلة طويلة. يهمنا أن تنفتح القوات على إيران وعلى روسيا ولكنّ الأسد يتعاطى معنا دومًا وكأننا غير موجودين وبانتقام شديد، وخلال الحديث فنّد التجاوزات التي كانت تحصل من النظام السوريّ تجاه المسيحيين، بمعنى أن الأطروحة التي انطلق منها لا تزال تنتمي إلى حروفيّة الماضي، أو إلى الحروفيّة-الماضويّة.
وتعقبت الشخصية انه لا شكّ بأن الدكتور سمير جعجع في قرارة نفسه وبناء على معلومات وردت إليه بات على قناعة بأنّ الحلّ في سوريا لن يستقرّ إلاّ ببقاء بشار الأسد ضمن حل سياسيّ متكامل، غير أن الحراك الذي ظهر فيه سببه ان الأميركيين راهنوا على سقوط «داعش» قبل «جبهة النصرة» فسقط الرهان فجاءت ردّة الفعل مبرمجة بوجه حزب الله ومن ثم بوجه زيارة سوريا. لقد طلب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من المعترضين على الزيارة الهدوء قليلاً، بمعنى أنه قال بأنّ كلّ الرهانات قد سقطت والمنطقة برمتها أمام مرحلة جديدة قتعاملوا معها بواقعية وهدوء ومرونة.
الدكتور سمير جعجع وبحسب الشخصية المقربة من القوات صادق في كلامه، فهو خائف من انعكاس هذا الحل على دوره ووجوده، وهذا من حقّه، لكن في الوقت عينه من حقّ المسيحيين عليه، أن يقرأ هذه العناوين بغير قراءة سنة 1988 بل بقراءة تنتمي إلى 2017-2018، منفتحة على النمط الجديد، ومتواصلة معه بحرص على وحدة لبنان والوجود المسيحيّ، ومن دون التفريط بكرامته وحضوره، والحلّ لكلّ ذلك ينطلق من حوار هادئ وواع يقوده رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون بين الجميع حتى لا تتمزّق الإنجازات البنيويّة ولا يدخل لبنان في أتون صراع سياسيّ جديد يملك هذه العناوين، بل من أجل تأمين الاستقرار الداخليّ بمسلمات سياسيّة واجتماعية واقتصادية تقرأ الواقع الجديد وتتعامل معه بهدوء وسلام.