لم تلبث حرب أن اشتعلت حتى بدأت التصريحات عالية النبرة تحدد أهداف كثيرة واستراتيجية قد يكون أهونها نزع سلاح حزب الله لتصل إلى مستوى الإعلان من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس" في حينها عن شرق أوسط جديد يتم ترسيم معالمه في هذه الحرب. إنها حرب تموز 2006 التي استمرت لثلاث وثلاثين يوما والتي تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الحادية عشرة لها.
لم يعد مهما اليوم الحديث عن ظروف بداية الحرب التي تؤكد مجرياتها وما رافقها من تصريحات غربية وأمريكية وعربية أنها كانت معدة مسبقا ومخطط لها بانتظار اللحظة المناسبة، ولم يعد الحديث حول من انتصر ومن هُزم ضروريا فالعدو الإسرائيلي نفسه اعترف بهزيمته ولو لم يستسغ هذا الأمر بعض أعراب هذا الزمن. كما أننا لسنا في وارد قراءة مشهد ومجريات الحرب من جديد وإن كانت هذه الملحمة (إذا صح التعبير) جديرة بالتخليد ولا تكفها آلاف الكتب حقها من التمجيد.
نودّ اليوم أن نُجري قراءة متأنية لواقع طرفي الحرب في حينها واليوم، أي بعد أحد عشر عاما ذاخرة بالأحداث والتطورات.
بداية، حرب طالت لثلاث وثلاثين يوما صبت خلالها "إسرائيل" جام غضبها على رؤوس اللبنانيين لم تكن من أجل أهداف إسرائيلية بسيطة كتعزيز الموقع العسكري وتنفيذ مناورة حية ضد العدو (لو كانت من أجل هكذا هدف لاكتفت "إسرائيل" بعدوان لأيام محدودة)، بل كانت من أجل تحقيق المشروع الأمريكي الصهيوني بشرق أوسط جديد، هذا المشروع وبمجرد خسارة "إسرائيل" الحرب بات خارج المعادلة كما أن التفوق العسكري الإسرائيلي بدوره فقد هيبته وبات موضع شك وتهمة.
تقول مراكز الدراسات الإسرائيلية اليوم إن أي حرب مع حزب الله في المستقبل يجب أن تكون في حال "اللا خيار". تقول هذه المراكز بأنه يجب على الحكومة الإسرائيلية الخوض بكل الخيارات المتاحة قبل التفكير بالحرب والسبب أن لا ضمانة تؤكد أن النصر ممكن. أما السبب فهو معادلة القوة التي فرضها الحزب. كلام هذه المراكز يؤكد حقيقة وجدية معادلة مطار مقابل مطار وبناء مقابل أبنية في تل أبيب التي تكلم عنها السيد حسن نصر الله.
انتهت حرب تموز، بدأ الكيان الإسرائيلي بلملمة خيبته وسارع إلى إجراء مراجعات موسعة لما حصل ولأسباب الفشل، وبدأت المؤسسة العسكرية المنهكة بإعداد البرامج لمواجهة قادمة ولكن هذه المرة على قاعدة جديدة فرضها الميدان وهي قاعدة الدفاع في وجه قوة حزب الله التي ستهاجم الكيان وتحرر أجزاء من فلسطين المحتلة. نعم حزب الله أيضا بدأ بالإعداد للحرب القادمة، وهذه المرة ضمن خطة هجومية للسيطرة وتحرير أجزاء من شمال فلسطين المحتلة. وهذا ما أكده السيد حسن نصر الله في خطاباته التي يثق فيها العدو قبل الصديق.
حزب الله ذلك التنظيم الذي تمكن ومن خلال ثلاثة إلى أربعة آلاف من مقاتليه خلال حرب تموز من إلحاق الهزيمة بواحد من أفضل جيوش العالم، بات اليوم وبإذعان مراكز الدراسات والصحافة والمحللين العالميين أهم منظمة عسكرية في العالم، وقياسا بالجيوش فهو من أقوى عشرة جيوش في العالم، وفي العتاد والتسليح وخاصة القوة الصاروخية يؤكد الكيان الإسرائيلي نفسه أن حزب الله يمتلك من الصواريخ ما لا تمتلكه معظم الدول الأوروبية وكافة الدول العربية مجتمعة.
كيف وصل حزب الله إلى هذه النقطة؟ وكيف تحققت هذه القفزة النوعية في العديد والعتاد؟ إنها المؤامرة الصهيو-أمريكية مجددا، وقصة انقلاب السحر على الساحر، فبعد حرب تموز أدرك أعداء الأمة أن أفضل السبل لضرب بلادنا وتهديد أمنها هو نشر الفتن وسياسة التكفير فكانت الأزمة السورية التي أنتجت تنظيمات كداعش الإرهابي وجلبت تنظيمات كالقاعدة بعناوين جديدة. اعتقد العدو أن ضرب محور المقاومة بالخصوص لا يكون إلا من الداخل وهذا صحيح وقد نجح إلى مرحلة ما في خلق حرب لا تزال إلى اليوم تتآكل خيرات بلادنا وتقسم أوطاننا.
أما ما لم يكن بالحسبان فهو حزب الله أيضا، الذي حوّل هذا التهديد إلى فرصة وكما يقول المثال العربي العاميّ (ضرب عصفورين بحجر واحد). لم يتوانى حزب الله عن التدخل في الأزمات المفتعلة من قبل أعداء الأمة، فتدخل في الأزمة السورية وكانت البداية الحقيقية من بلدة القصير السورية التي سطر فيها حزب الله أول انتصاراته ضد التكفيريين ومن يقف خلفهم. ولم يترك ساحة من ساحات الصراع مع التكفير إلا وكان له حضور قوي وفعال من حمص السورية إلى حلب والقلمون وصولا إلى معركة جرود عرسال اللبنانية التي اكتمل تطهيرها منذ أيام.
هذا العصفور الأول الذي تمكن حزب الله من اصطياده، أما العصفور الآخر فكان التجربة العسكرية الميدانية التي حظي بها والتي صقلت خبراته في كيفية اجتياح مناطق شاسعة وتحريرها من الإرهاب. هذه التجربة حولت حزب الله إلى قوة هجومية فتاكة وقاتلة (كما يحلو للبعض تسميته). فتاكة بالعدو أيا كان تكفيريا أو صهيونيا.
هذا الأمر يقلق ويقض مضجع العدو الإسرائيلي اليوم، فالحديث عن دخول الجليل في فلسطين المحتلة لم يعد مجرد كلام، بل أصبح حقيقة مجربة في الميدان السوري ضد التكفيريين. وبات مقاوموا الحزب قادرون على اجتراح المعجزات وخلق التكتيكات العسكرية التي لا يمكن أن يفكر بها العدو وكل ذلك بفضل المؤامرة الصهيو-أمريكية المدعومة خليجيا.
ومع ذكر الدول الخليجية، من الجيد العودة قليلا بالزمن إلى بداية حرب تموز حين وصف أحدهم من آل سعود حزب الله بالمغامر. ذلك المغامر أثبت أنه على مستوى من المغامرة والإقدام يسمح له بخوض حروب عدة على جبهات عدة في نفس الوقت. ولن يكون قتال جيش يخاف الموت (كالجيش الإسرائيلي) صعبا على مقاومين تمكنوا من كسر شوكة تكفيريين انغماسيين لا يعلمون قيمة الحياة.
المصدر: الوقت