من الباحثين من يُرجِعُ سبب الخلاف حول أصول العتوب ومسارهم إلى المجاعة أو الجفاف الذي أصاب أواسط شبه الجزيرة في منتصف القرن السّابع عشر وأوائل القرن الثّامن عشر حيث اضطرّ العتوب وغيرهم من القبائل للهجرة بسبب الجفاف (أبو حاكمة، تاريخ الكويت الحديث)، البعض الآخر من الباحثين يُرجِعُ سبب الهجرة للفتن والنّزاع الذي وقع بين العتوب وأبناء عمومتهم من بطن (جميلة) من عنزة (عبدالعزيز الرشيد، تاريخ الكويت ص31-32).
وقد كانت تعتبر مناطق شرق الجزيرة العربيّة آنذاك من أغنى مناطق الخليج (الفارسي) لما تحويه من موانئ تجاريّةٍ ولانتفاعها من الصّيد والزّراعة بسبب تواجد اللّؤلؤ والأسماك وخصوبة الأرض وكثرة الزّرع والنّخيل، ممّا جعلها دومًا محطًّا لأطماع قبائل نجد ولممثّلي شركة الهند الشرقيّة الاستعماريّة الانكليزيّة الذين كاتبوا حكومتهم بضرورة احتلال البحرين على الأقل مرّتين كما تشير لها الوثائق التاريخيّة، مرةً عام 1700م ومرةً عام 1751م (لوريمر، تاريخ الخليج (الفارسي) ص1270)، لكن قوبلت هذه الطّلبات بالرّفض لأنّها لم تكن تتوافق مع الخطّة المرسومة للسّيطرة التامّة على التّجارة في الخليج (الفارسي)عبر إضعاف حكّامها أولًا وتنصيب أعوانٍ لها ثانيًا، وهذا ما يدفع للاعتقاد أنّ من الأسباب التي دعت العتوب للهجرة إلى شرق الجزيرة العربيّة بدايات القرن السّابع عشر هو إغراء حكومة إنكلترا لهم وتطميعهم في هذه المنطقة، وممّا يدعم هذا القول هو ما ذكره مؤرّخ البلاط الخليفيّ محمّد النبهانيّ حول سبب هجرة خليفة: "كان القصد منها حبّ الاستقلالِ والسّعي وراء تشييد مملكةٍ يكون هو ملكها" (محمد النبهاني، التحفة النبهانية ص119)، وقول المؤرّخ عبدالعزيز الرّشيد في كتابه تاريخ الكويت: "من المحتمل أن يكون السّبب الوحيد هو كبر نفوسهم وطموحهم إلى الاستقلال بالحكم" (عبدالعزيز الرشيد، تاريخ الكويت ص34). وكذا لو لم تكن المطامع الماديّة هي ما شدّتهم للهجرة إنّما القحط والجفاف فقط فإنّ سؤالًا عريضًا يواجههم وهو: لماذا لم يهاجروا إلى مناطق الأحساء الغنيّة بالنّخيل والواحات والعيون وهي الأقرب إلى نجد؟!.
إلى قطر:
يرى بعض الباحثون أنّ بداية هجرة العتوب كانت بين عامي 1674 – 1676م نظرًا لاشتداد القحط والجراد في هذه الفترة في نجد (عنوان المجد، ج1 ص235)، وهناك من يرى بأنّ هجرتهم بدأت مع بدايات القرن الثّامن عشر بالتّحديد عام 1710م (أبو حاكمة، تاريخ شرقي الجزيرة العربية ص45)، لكن على ما يبدو أنّهم قد وصلوا في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر؛ لأنّ سنة طردهم من قطر كانت 1676م وهم قد أقاموا فيها من قبل ما لا يقلّ عن 30 سنة، ولعلّ السّبب في اختلاف تاريخ هجرتهم ومحاولتهم طمس بعض ملامحه هو لإخفاء بعض الأحداث سأتعرّض لبعضها لاحقًا.
وعمومًا توجد ثلاثة أسبابٍ رئيسيّةٍ لاختيار قطر محطة للإقامة:
- وجود (آل مسلم) في قطر، فالظّاهر أنّ العتوب كانوا يتوقّعون قبول آل مسلم بهم وهو ما حدث بالفعل حيث نزلوا ضيوفًا عندهم.
- قربها من مغاصات اللّؤلؤ وصيد الأسماك، وكونها طريقًا تجاريًّا بين الهند والخليج (الفارسي)، مما يُتيح تكوين ثروةٍ ماديّةٍ لهم.
- قرب قطر من البحرين، حيث يمكن اعتبار الأولى أفضل نقطة يمكن الانطلاق منها للاستيلاء على الثّانية. وهذا ما حدث بالفعل سنة 1873م.
أثناء تواجد العتوب في قطر عزفوا على التّفاعل مع بيئتهم الجديدة وترويض أنفسهم على ركوب البحر والغوص على اللّؤلؤ ومشاركة غيرهم من أبناء الخليج (الفارسي) في عمل النّقل البحريّ (القطاعة) والغوص.
أمّا سبب رحيلهم من قطر فلأنّ رجلًا من العتوب قتل رجلًا من أهل قطر، فحلَّ عليهم غضب حكّامها الذين خشوا استفحال أمرهم وزيادة تعنّتهم لذلك طلبوا منهم تسليم القاتل أو مغادرة قطر. فركبوا سفنًا شراعيّةً وساروا شمالًا عبر البحر سنة 1676م.
بعد قطر إلى أين؟
على ما يبدو أنّ القبائل المطرودة من قطر عام 1676م توزّعت على طول الشّواطئ الشرقيّة للخليج الفارسيّ، فمنهم من سكن مناطق في فارس ومنهم من سكن ميناء جزيرة قيس وبندر ديلم (جمال قاسم ص41-42 / جلال الهارون، تاريخ العرب الهولة والعتوب ص44-49)ثم عادت القبائل المطرودة للتجمّع من جديدٍ في الكويت عام 1716م كما يصرِّحُ المستر واردن.
من خلال التّتبع في كلام المؤرّخين والوثائق المؤرشفة نرى أنّ هذه النظريّة هي التي تجانب الصّواب.
منها ما ذكره سلطان القاسميّ في كتابه بيان الكويت (سلطان القاسمي، بيان الكويت ص12): "في نهاية القرن السّابع عشر كانت هناك ثلاث طوائف في منطقة الخليج (الفارسي): العتوب والخليفات وتسكن في بندر الديلم بين بوشهر ومدخل (الكارون). والطّائفة الثّالثة الهولة وهي تكتّل من سبع أو ثمان قبائل وتسكن مدينة كنك القريبة من مدخل الخليج (الفارسي). وكانت هذه القبائل جميعها تغوص في مغاصات اللّؤلؤ بالقرب من البحرين، وتبيع ما تجمعه من اللّؤلؤ في سوق البحرين التّابعة لفارس، وبها حاكم عينته السّلطات الفارسيّة. حيث كان يجمع مبالغ طائلة من الرّسوم التي بالغ في فرضها على سفن الغوص وتجّار اللّؤلؤ".
وتشير إحدى الوثائق العثمانيّة المؤرّخة عام 1113هـ إلى أنّ بندر الديلم كانت تسكنه العتوب والخليفات، فتقول هذه الوثيقة: "هناك أيضًا عشيرتان تتّبعان لإدارة العجم وهما عشيرة العتوب وعشيرة الخليفات وهم من أهل المذهب الشافعيّ والحنبليّ ويسكنون في مكانٍ قريبٍ من بندر ديلم ويوجد أيضًا بندر اسمه كونك فيه سبع أو ثماني عشائر يطلق عليهم اسم حولة كلهم عرب من أتباع المذهب الشافعيّ". وقد أشارت مي محمد آل خليفة إلى هذه الوثيقة في كتابها (محمد بن خليفة الأسطورة والتاريخ الموازي) وعلّقت عليها وذكرت أنّها غير مهمّة وتحتوي على مغالطاتٍ تاريخيّةٍ ..!!! (ليس غريبًا على من امتهن التّزوير وتحريف الحقائق ونهب الحقوق أن ينكر ويثبت ما يحلو له من التّاريخ وكأنه حلال شيخ القبيلة).
هناك وثيقة أخرى تدعم هذه النظريّة، وهي وثيقة هولنديّة مؤرّخة عام 1167هـ (ويلم م.فلور، لاهاي داغ ص225)، جاء فيها ما نصّه: "وينتهي جون جنابة بحافة بنج الناتئة التي يقع خلفها بندر ديلم وهو مستوطنةٌ عربيّةٌ لعشيرة تسمّى خليفات التي ما تزال تدين بدينها وتحافظ على تقاليدها، وهم فقراء يعيشون من الملاحة والغوص على اللّؤلؤ وصيد الأسماك، ومدينتهم ليست سيئة جدًا بالنّسبة للتّجارة؛ لأنّها واقعة على مسيرة يومٍ واحدٍ من بهبهان المدينة الفارسيّة الغنيّة".
وقال العالم المحدّث الشّيخ يوسف البحرانيّ في مخطوطته الرّائعة "لؤلؤة البحرين" (يوسف البحرانيّ، لؤلؤة البحرين ص425):فأقولُ أنّ مولدي كان في سنة 1107هـ، وكان مولد أخي الشّيخ محمد –مدّ في بقائه- سنة 1112هـ في قرية الماحوز، حيث أنّ الوالد كان ساكنًا هناك لملازمة الدّرس عن شيخه الشّيخ سليمان –المتقدّم ذكره- وأنا يومئذٍ ابن خمس سنين تقريبًا، وفي هذه السّنة صارت الواقعة بين الهولة والعتوب، حيث أنّ العتوب عاثوا في البحرين بالفساد ويد الحاكم قاصرة عنهم، فكاتب شيخ الإسلام الشّيخ محمد بن عبدالله بن ماجد الهولة ليأتوا على العتوب، وجاءت طائفةٌ من الهولة ووقع الحرب وانكسرت البلد إلى القلعة أكابر وأصاغر حتى كسر الله العتوب".
وهذا ما يُشكِّلُ دليلًا على أنّ العتوب المذكورين كانوا من سكنة فارس؛ لأنّه لم يكن يوجد العتوب في قطر في هذه الفترة كما أنّ الاستنجاد بالهولة الذين يقطنون السّاحل الفارسيّ يعزِّزُ هذا الاعتقاد.
إلى البصرة:
كانت البحرين آنذاك هدفًا للعتوبيّين والهوليّين لما تحويه من مصائد لؤلؤٍ ومزارع نخيلٍ وهذا ما جعلهم يتصادمون فيما بينهم باعتبارهم هذه المصائد أملاك خاصّة لهم، حتى جاء عام 1112هـ وتمكّن الهولة من إلحاق هزيمةٍ نكراء بالعتوبيّين.
ويذكرُ التّاريخ أنّ عرب الهولة في عام 1700م اتّحدوا ضِدَّ العتوب، ولم يكن العتوب في تلك الفترة بمهارة الهولة في الملاحة وإجادة الحروب البحريّة ممّا جعل الهولة يُبعِدون العتوب عن مصائد اللّؤلؤ ويسيطرون عليها. وفي ذات العام هاجمت الهولة قبيلة العتوب المتحالفة مع الخليفات في البحر وباغتوهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا واستولوا على جميع أموالهم.
وكردّة فعلٍ لمهاجمة قبائل الهولة للعتوب اتّحدَ عرب العتوب والخليفات وحشّدوا قوّاتهم وقطعاتهم العسكريّة وقرّروا مهاجمة البحرين انتقامًا، بالفعل تمّ الهجوم على البحرين وأحرقوا بعض مزارع النّخيل ونهبوها وقتلوا الكثير من الهولة وأحرقوا المنازل الكائنة خارج قلعة البحرين، ممّا دفع شيخ الإسلام الشّيخ محمّد بن ماجد للاستنجاد بالهولة من السّاحل الشّرقي للخليج (الفارسي) لأن يد الحاكم مهديّ قلي خان كانت قاصرة عن ردّ هجوم العتوب.
ونتيجةً لهذا الاستنجاد بعرب الهولة، قدّم آل حرم إلى البحرين وتمكّنوا من إجلاء العتوب عنها والسّيطرة على الوضع، على أثر ذلك اعترف شاه إيران بهم شيوخًا للبحرين تابعين للحكم الصفويّ، بالتوازي مع ذلك أمر الشّاه بإرسال قوّةٍ بريّةٍ تَخرُجُ من شيراز وتهاجم بندر ديلم لتأديب العتوب والخليفات، ممّا اضطر العتوب والخليفات الخروج والالتجاء إلى الحكم العثمانيّ في البصرة (جلال الهارون، تاريخ عرب الهولة والعتوب ص29-44).
وصل العتوب إلى البصرة وطلبوا حماية الدّولة العثمانيّة كما هو موثّق في الوثيقة التّالية (سلطان القاسمي، بيان الكويت): "في أحد الأيام قامت عشيرة العتوب التي هي حليفة عشيرة الخليفات في البحرين وعلى حين غرّة بقتل 400 من رجالها واستولت على جميع أموالها. وهرب النّاجون من العتوب إلى حلفائهم من الخليفات. ثمّ اتفق الاثنان العتوب والخليفات على أنّ ما حدث كان بسبب فتنة العجم الموجودين في البحرين وقالا: لم يبق لنا أمانٌ في البقاء في بلاد العجم بعد الذي حصل، فلنذهب إلى مدينة البصرة التّابعة للدّولة العلية وبالفعل جاؤوا ودخلوا أراضي البصرة وعددهم ما يقارب 2000 بيت وهم الآن موجودون فيها. وقد جاء إليَّ أنا مأموركم في البصرة بعض وجهائهم والتمسوا لأنفسهم طلب البقاء قائلين: إنّنا من أهل السنّة والجماعة وتركنا بلاد الرافضيّين (النّفس الطائفيّ الذي يعيشه الخليفيّون اليوم ليس غريبًا عليهم فهو من موروثات الفكر القبليّ)، ولجأنا إلى سلطان المسلمين للعيش في أراضيه وأنتم أعلم بما يصلح حالنا".
إلّا أنّ طلبهم قوبل بالرّفض لما يشكّلون من خطرٍ على المصالح العثمانيّة حيث كانوا ينهبون ويسلبون ويمارسون أعمال قطع الطّرق هناك فطردهم الوالي وأمرهم بالذّهاب إلى مكانٍ بعيد، فنزل بعضهم خور الصّبية وقيل أنّه تمّ طردهم من قبل الحكومة العثمانيّة كذلك فنزلوا الكويت، والبعض الآخر توجّه للسّاحل الشرقيّ للخليج (الفارسي) وقد تمّ طردهم كذلك من هناك من قبل القبائل العربيّة المتواجدة بالقرب منهم لما كانوا يمارسون من أعمال سلبٍ ونهبٍ وقرصنةٍ (الطّرد هو ما اعتاد عليه الخليفيّون منذ القدم وهو الجزاء الوحيد الذي يستحقّونه لأنّهم شرذمة من اللّصوص والأشرار الذين لا يستطيعون العيش في أوساط المجتمعات الإنسانيّة المتحضرة) (عبدالعزيز الرشيد، تاريخ الكويت ص36 / أبو حاكمة، تاريخ الكويت الحديث ص24).
المصدر: كتاب آل خليفة الأصول والتّاريخ الأسود
يتبع..