50 عاما على قصف "إسرائيل" سفينة ليبرتي التي اكتشفت مجازر الأسرى المصريين

الأربعاء 12 يوليو 2017 - 05:17 بتوقيت غرينتش
50 عاما على قصف "إسرائيل" سفينة ليبرتي التي اكتشفت مجازر الأسرى المصريين

تبقى "إسرائيل" هي هي أمس واليوم والى الابد ، لا تتغير ولا تتبدل ، يدفعها نزق قاتل لتكرار أخطاءها وخطاياها عبر التاريخ ، من جيل الى جيل متعطشة للدماء ولا ترتوي.

يفاخر الإسرائيليون في أدبياتهم بأنهم بنو قتلة الأنبياء .. من دم هابيل الصديق الى دم زكريا بن براشيا "أبو النبي يحيى"،.. لماذا نستكثر على الإسرائيليين اليوم تفاخرهم بما يجرى في الضفة وغزة، وفي بيت لحم والقدس، من انتهاك لادمية اصحاب الارض الاصليين من الشعب الفلسطيني؟

"إسرائيل" دائما وأبدا تخشى من يفضحها أمام العالم لذا تعمد الى تغطية كوارثها بجرائم حرب أبشع.. هل تقودنا هذه السطور لواحدة من اشهر جرائمها ضد اقرب والصق حلفائها اي الولايات المتحدة الامريكية حتى وان مرت على الحادثة خمسة عقود؟

 

على مشارف 5 يونيو 1967

في الساعة الخامسة وأربع عشرة دقيقة من صباح الخميس 8 يونيو كانت أول أشعة للشمس تسقط على موجات الرمال الصفراء في سيناء وعلى مسافة تزيد قليلا عن 12 ميلا الى الشمال وبالتحديد في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ، كانت سفينة التجسس الامريكية ليبرتي تواصل إبحارها شرقا .

كانت حرب الأيام الستة قد بدأت بالفعل ويبدو ان السفينة الحربية الامريكية ليبرتي قد رصدت من المعلومات السرية ما جعل الإسرائيليين يجن جنونهم، أما عن أول ما رصدته ليبرتي فكان الحديث الدائر بين طيارين أمريكيين يقودون الطائرات الإسرائيلية التي هاجمت مطارات مصر، والأمر الثاني يتعلق بمذابح الأسرى المصريين في سيناء.

لم يكن مسموحا أصلا للسفينة ليبرتي ان تقترب من الحدود المصرية الإسرائيلية، وكانت الأوامر هي الابتعاد بمسافة لا تقل عن مائة ميل، لكن تلك الأوامر لم تصل ليبرتي.

بعد فترة قصيرة من شروق الشمس لاحظ الضابط المناوب "جون سكوت" إحدى الطائرات تحلق فوق السفينة في دوائر ثم تنطلق تجاه تل أبيب...

التقطت مواقع التنصت التابعة لوكالة الأمن القومي الأمريكي الشهيرة National Security Agency إشارات من هذه الطائرة التي تم التعرف عليها بعد ذلك على أنها طائرة إسرائيلية..

اتصل القائد بالضابط المناوب على السفينة وسأله عما إذا كان قد لاحظ اقتراب إحدى الطائرات ورد بالإيجاب وقال أنها انطلقت في اتجاه تل أبيب. ونظر الضابط المناوب سكوت الى العلم الأمريكي الذي يرفرف على ظهر السفينة وهو يشعر بالاطمئنان لاعتقاده بأنه ما دامت الطائرة الإسرائيلية قد رأت العلم الأمريكي مرفوعا على السفينة فلا خطر عليهم وقال لنفسه يا له من صباح رائع.. هل كان ذلك كذلك بالفعل ؟

 

رصد مذابح الأسرى المصريين

تكررت طلعات الاستطلاع الإسرائيلية فوق السفينة كل 30 دقيقة تقريبا خلال ذلك الصباح، ولم يكن أفراد طاقم ليبرتي يشعرون بالخطر من اقتراب الطائرات الإسرائيلية لتأكدهم من ان إسرائيل دولة حليفة لأمريكا..

في الساعة 9.30 صباحا كان بوسع أفراد طاقم السفينة ليبرتي رؤية مئذنة مسجد العريش بالعين المجردة وكأنها صاري مركب وحيد وسط بحر من الرمال. كانت الرؤية شديدة الوضوح لمسافة 25 ميلا أو أكثر وباستخدام النظارات المكبرة كان يمكن رؤية مباني العريش..

في تلك اللحظات بالتحديد وبالقرب من مئذنة مسجد العريش كان هناك مشهد مروع ... كانت القوات الإسرائيلية ترتكب مجزرة إجرامية، كانت قوات شارون المدرعة قد أجبرت مدنيين وعسكريين مصريين أسرى على حفر القبور ثم قتلت نحو ألف شخص منهم ودفنتهم في رمال العريش في منطقة الكثبان الرملية بدم بارد ..

رصد رجال السفينة ليبرتي ما جرى في العريش صوت وصورة ذلك لان تلك السفينة كان يمكن وصفها بأنها مصنع ضخم للتجسس يحمل على متنه احدث المعدات والأجهزة الخاصة بالتنصت والتي تصل قيمتها في ذلك الوقت الى 10.2 مليون دولار.

بحلول الساعة 10:55 صباحا كان كبار المسؤولين الإسرائيليين يعلمون على وجه اليقين بوجود سفن تجسس الكتروني أمريكية بالقرب منهم حيث كانت السفينة مرئية تماما، وتم التعرف عليها بدقة من جانب قيادة الأسطول الإسرائيلي.

نقل قائد إحدى طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي حلقت فوق ليبرتي كل المعلومات المتعلقة بها الى بنحاس بن شاسني ضابط الاتصال البرجي في قيادة القوات الجوية وبدا السعي لمعرفة هوية السفينة وقد تأكد للإسرائيليين أنها سفينة تجسس أمريكية سيما وان طلعاتهم الجوية فوقها جاوزت الـ 13 طلعة جوية.. لم يكن ذلك الصباح رائعا بالنسبة للأمريكيين ولم يكن شيء يعيق الجيش الإسرائيلي عن واحدة من أشرس عملياته في الحروب الحديثة ضد اقرب حلفائه.

 

ليبرتي والروس والحظ العثر

في كتابه المثير "جسم من الإسرار" الذي يتناول الحديث بالتفصيل عن دور وأهمية وكالة الأمن القومي الأمريكي في حياة أمريكا اليوم، يقول المؤلف الكاتب الأمريكي "جيمس بامفورد"، ان الغرض الرئيسي من وجود السفينة الامريكية ليبرتي قريبة من الشواطئ المصرية، إنما كان بهدف الحصول على معلومات بشان احتمال مشاركة الروس في الحرب، وبخاصة الطائرات السوفيتية من نوعيات القاذفة "تي يو 95"، التي اعتقد الأمريكيون ان قواعدها في الإسكندرية وأنها تشارك في الحرب بقيادة طيارين روس.

في تمام الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق بعد ظهر الثامن من يونيو 1967 انطلقت مقاتلات تابعة للسلاح الجوي الإسرائيلي مسلحة بمدافع عيار 30 مللي مترا وصواريخ وحتى النابالم في طريقها أيضا الى ليبرتي ..

كانت الأوامر الصادرة لها هي العودة بدون ذخيرة .... في الساعة الواحدة وإحدى وأربعين دقيقة ظهرا أي بعد ساعة ونصف من مغادرة ميناء اشدود رصدت زوارق الطوربيدات الإسرائيلية ليبرتي أمام ساحل العريش وطلبت ضربها فورا بواسطة المقاتلات الإسرائيلية بينما كان الكابتن "ماك جوناجل" قائد السفينة ليبرتي يتابع عمله في قياد السفينة شاهد عددا من الطائرات الحربية وهي تندفع بقوة في وضع هجومي نحو السفينة فقال لمساعده الملازم "بنتر" اعتقد أنها سوف تهاجمنا، ودوى صوت أول انفجار ثم دوت انفجارات أخرى وطلقات نيران تصيب السفينة .. كانت ابواب الجحيم قد انفتحت على ليبرتي ولا راد لها.

 

الإسرائيليون يعرفون ما يفعلون

هاجمت الطائرات الاسرائيلية ليبرتي دون أي تحذير وقصفتها مقاتلات الميراج الاسرائيلية الفرنسية الصنع والتي لم تكن تحمل أي علامة بهدف اخفاء هويتها ... كانت المقاتلات الاسرائيلية تقاتل والشمس خلفها وهو وضع مثال للهجوم واخذت طائرات الميراج تقصف ليبرتي بالصواريخ وقنابل الحديد وتشعل فيها النيران والتقطت اجهزة المراقبة الامريكية رسالة من طيار اسرائيلي باحدى المطارات لقاعدته يقول فيها "ان الوقود يتدفق من السفينة الى البحر".

وفي نفس الوقت كانت هناك رسالة اخرى من طيار اسرائيلي تم التقاطها وتقول كلماتها "عظيم .. رائع ان السفينة تحترق انها تحترق" .. في ذلك الوقت بدا بعض الضباط والبحارة الامريكيين على متن ليبرتي في تدمير الوثائق والمستندات التي يخشى من وقوعها في ايدي العدو وكان يتم وضعها داخل الحقائب التي بلغ طول الواحدة منها خمسة اقدام وبها اثقال من الرصاص لضمان غرقها بمجرد القائها في الماء، ووضعت في هذه الحقائب ايضا شرائط التسجيل التي تحتوي على البرقيات التي التقطتها السفينة في الايام الماضية .

لاحقا قال الكابتن "ديف لويس" المسؤول عن عمليات وكالة الامن القومي على متن ليبرتي، ان الطيارين الاسرائيليين الذين هاجموا ليبرتي كانوا يعرفون تماما ما كانوا يفعلونه ويوجهون ضرباتهم الى الهوائيات والاطباق الخاصة بالسفينة لتدميرها تماما ومنعها من الحصول على معلومات او الاتصال لطلب النجدة، واذا الاسرائيليون قالوا بعد ذلك ان هجومهم على ليبرتي حدث بطريقة الخطا فسوف يكون هو الخطا الذي تم تدبيره والاعداد له بافضل طريقة ممكنة في تاريخ الجنس البشري .

 

طائرات تراقب من أعلى عليين

بينما كان الاسرائيليون يواصلون مذبحتهم لم تكن لديهم فكرة لا هم ولا افراد طاقة ليبرتي بان هناك شاهدا اخر على الجريمة يحلق على ارتفاعات عاليا في السماء، فوفقا للوثائق السرية لوكالة الامن القومي الامريكي فان احدا لم يكن يعرف حقيقة ان احدى الطائرات التابعة للوكالة كانت تحلق فوق منطقة الحادث وتسجل كل ما يجري تحتها .

وتعتبر المعلومات التي حصلت عليها هذه الطائرة والتي تجيب على الكثير من التساؤلات حول الهجوم الاسرائيلي على ليبرتي من اخطر اسرار وكالة الأمن القومي الأمريكي. فقبل ساعتين من الهجوم على ليبرتي كانت الطائرة وهي من طراز IC- 121 تقلع من اثينا الى شرق المتوسط في منطقة عمليات تمتد عبر مثلث رؤوسه هي كريت وقبرص والعريش.

ويقول "مارفن نويكي" ضابط وكالة الامن القومي الامريكي على هذه الطائرة "عندما وصلنا الى منطقة العمليات كان من الواضح ان السوريين يمطرون مرتفعات الجولان السورية بالقصف وبدانا نلتقط اتصالات بالعبرية والعربية بشكل مكثف كاد يصيبنا بالجنون، وبعد ساعات قليلة التقط احد مترجمي اللغة العبرية على الطائرة رسالة تقول شيئا عن سفينة ترفع العلم الامريكي. ومضى المترجم يقول ان الطائرات الاسرائيلية تضرب شيئا في البحر.

ويقول أحد ضباط ليبرتي "كان من الواضح تماما ان خطة الهجوم تقضي بقتل كل من على ظهر ليبرتي وحتى احتمال القفز الى المياه للهروب من السفينة لم يكن ممكنا لان الاسرائيليين كانوا سيطلقون النار علينا في الماء ولم يكن لدينا شك في انهم لا يعتزمون الاحتفاظ باسرى من طاقم السفينة.

 

إسرائيل تضبط بالجرم المشهود

تأكدت وكالة الأمن القومي من أن اسرائيل هي التي أغرقت ليبرتي، غير ان المثير ووفقا للمعلومات السرية التي لم يعلن عنها فان الرئيس الامريكي وقتها ليندون جونسون قال صراحة "ان غرق السفينة ليبرتي لا يهمه بقدر ما يهتم بعدم مضايقة حلفاء امريكا" أي "إسرائيل".

لم تكن ميول جونسون الصهيونية خافية على احد .. قتل 32 من أفراد الطاقم خلال الهجوم، بينما مات اثنان اخران في وقت لاحق، وأصيب ثلثا بقية البحارة بجراح، ورغم كل ذلك امكن سحب السفينة الى منطقة امنة وبعد 16 ساعة ونصف من الهجوم وصلت النجدة اخيرا الى السفينة ليبرتي .

كانت المحاولات الأمريكية والإسرائيلية التي تعمل معا على دفن معالم الحادث مثيرة للحيرة والاندهاش، فقد تم ايضا تهديد جميع افراد الطاقم بتقديمهم الى المحاكم العسكرية اذا فتح واحد منهم فمه وتحدث مع أي شخص حول ما وقع للسفينة.

يقول "لاري ويفر" احد ضباط السفينة ليبرتي انهم ابلغوه بانه اذا فتح فمه الى أي شخص اخر فانه سوف يتم ايداعه السجن ..

التفاصيل تطول عن الهدف الرئيس من استخدام القصة في هذا التوقيت سيما انه في عام 1973 كانت نهاية السفينة ليبرتي عندما تم تقطيعها وبيعها خردة بمبلغ مائة الف دولار تقريبا .

قبلها في ابريل 1969 أي بعد عامين تقريبا من الهجوم دفعت الحكومة الاسرائيلية 20 الف دولار تعويضا لكل جريح ومائة الف دولار لكل قتيل، وقد طلبت الحكومة الامريكية من اسرائيل مبلغا تعويضيا قدره 7 ملايين دولار عن تدمير السفينة رغم ان نفقات تحويلها الى سفينة تجسس فقط بلغت اكثر من عشرين مليون دولار بالإضافة الى 10 ملايين ثمن الاجهزة والمعدات التي كانت على متنها وعبر سلسلة طويلة من المفاوضات دفعت إسرائيل عام 1980 اي بعد 13 سنة على الحادث مبلغ 6 ملايين دولار لتعويض أمريكا عن ليبرتي وأغلب الظن انها خصمت من المعونات، الأمر الذي يؤكد حدوث تواطؤ حكومي داخلي .

والشاهد أنه في الماضي قتلت اسرائيل اسرى الجنود المصريين في سيناء وبعدها قتلت البحارة الامريكيين على متن السفينة ليبرتي في واحدة من اشد الفصول هولا وذهولا في علاقة تل ابيب مع واشنطن.

يذكر الجنرال "إسرائيل ليئور" مدير مكتب رئيس وزراء اسرائيل خلال حرب الأيام الستة "ليفي اشكول" انه صباح الخامس من يونيو كان اشكول يصيح باعلى صوته في مكتبه: "الى متى يريدون البقاء على حد السيف؟"... كان يقصد بذلك جنرالات اسرائيل الذين استولوا على مساحات من الاراضي اكبر واوسع من مقدرتهم التاريخية والجغرافية على المحافظة عليها ... وغاب عن هؤلاء ان "من يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ"، وانه اذا كانت سطوة الظلم ساعة، فإن قوة الحق كحقيقة واقعة تبقى وتدوم الى قيام الساعة.

 

*إميل أمين/ جريدة إضاءة